الدكتور: نجم الدّين الهنتاتي إنّ سيطرة الفاطميين على جلّ الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط انطلاقا من إفريقيّة، وعظمة أسطولهم الحربي، يسمحان لنا بافتراض أنّ مدينة تونس استعادت شيئا من مجدها العسكري البحري في هذا العهد. لِمَ لا إذا علمنا أنّ عُبيد الله المهدي (297 - 322/909 - 934) اهتمّ بأسوار مدينة تونس. بل إنّ ابن خلّكان يذكر حرفيّا في شأنه ما يلي: «وبنى سور تونس وأحكم عمارتها وجدّد فيها مواضع». يُخبرنا أيضا القاضي النّعمان (ت. 363/974) أنّ الخليفة المنصور (334 - 341/946 - 953) خرج «إلى ناحيّة تونس في حين إخراجه الأساطيل إلى غزو الرّوم». وهذا يعني أنّ الأسطول الفاطمي خرج من ميناء تونس، وبالتّالي تواصل نشاط المدينة عسكريّا في الجّهاد البحري. وكان من نتائج عناية الفاطميين بتونس، أن عرفت في عهدهم فيما يبدو ازدهارا اقتصاديا، وهو ما أشاد به ابن حوقل. ورغم ذلك، فيبدو أنّ تلك العناية لم تكن في مستوى تطلّعات أهل المدينة، إذ بالعودة إلى المصادر الّتي تهمّ ذلك العهد، نلاحظ أنّ مدينة تونس أصبحت قليلة الذّكر، وربّما هذا يُعبّر عن نوع من التّراجع في أهمّيّة هذه المدينة. ويمكن تفسير ذلك التّراجع بثلاثة أسباب. السّبب الأوّل تاريخي، يرتبط بسياسة الأغالبة بصفة عامّة تجاه هذه المدينة، وهو ما حاولنا تفسيره أعلاه. أمّا السّبب الثّاني، فهو عسكري، ويتمثّل في اعتماد الفاطميين في دعوتهم وفي تأسيس دولتهم على قبيلة كتامة. والسّبب الثّالث، فهو استراتيجي يهمّ اتّخاذ الفاطميين للمهديّة عاصمة لهم. لقد نزل أبو عبد الله الصّنعاني، داعيّة الفاطميين، بجبال القبائل حيث تقيم قبيلة كتامة القويّة العصبيّة، والمشهورة بانضباطها. فَنَشَر دعوته الشّيعيّة بين أفرادها ممّا سمح له بالإطاحة بالدّولة الأغلبيّة سنة 296/909. ثمّ تسلّم عبيد الله المهدي الحكم، وركّز دعائم دولته إداريّا وعسكريّا على قبيلة كتامة، وهو أمر أدّى إلى مزيد تراجع أهمّيّة الجند العربي. وربّما ساهم هذا في تراجع أهمّيّة مدينة تونس، إذ أنّها كانت مركزا لتجمّع الجّند. وإذا اعتبرنا تونس آنذاك رباطا، أو على الأقلّ ما جاورها من مدن صغيرة رباطات، فإنّ سياسة الفاطميين تكون قد أضرّت بهذه النّواحي لأنّ المصادر المالكيّة ألحّت على الأضرار الّتي لحقت المرابطين والرّباطات في العهد الفاطمي. وبعد تنظيمه للجيش الفاطمي، بدأ عبيد الله المهدي سنة 300/912 في البحث عن عاصمة جديدة لدولته «فخرج عبيد الله من مدينة رقّادة إلى تونس وقرطاجنّة، ونواحي البحر، يرتاد موضعا ليتّخذه دار مملكته». فوقع اختياره على موضع بنى به مدينة المهديّة، وهو موضع شبه جزري، يفتح مباشرة على البحر، ومن هناك على مصر، بخلاف موضع مدينة تونس. بعد ذلك، بُنيت بالمهديّة داران للصّناعة، ساهمتا بصفة أوضح في تهميش دار صناعة مدينة تونس. يتبع