لا يمر أسبوع أو أسبوعين دون أن يتكرر المشهد أمام اعيننا عبر صور الصحف وفيديوهات شاشات التلفزيون، مشهد جثث قذفتها الامواج على الشواطئ، ونساء ورجال واطفال، أفارقه واسيويون انتشلتهم قوارب صيادين وفرق الانقاذ من موت محقق، يحدقون دون ان يعرفوا مصيرهم، تسألهم ان كانوا سيعيدون الكرّة بعد ان شارفوا على الموت فيأتيك الجواب بنعم دون تردد. انتحاريون ؟ هم كذلك، يدفعهم اليأس الى ركوب قوارب الموت، ويحتضنهم مجرمون عتاة احترفوا التجارة بالبشر، تجارة تحتل المركز الثالث عالميا، بعد تجارة الاسلحة والمخدرات، مهربون لا يهمهم وصول هؤلاء المهاجرين سالمين ام لا بعد ان قبضوا ثمنهم. في جانفي الماضي، قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة ان 2262 شخصا لقوا حتفهم أو اعتبروا مفقودين لدى محاولتهم اجتياز المتوسط خلال سنة 2018، اي بمعدل ستة اشخاص يوميا، مما يجعل هذا البحر «الاكثر فتكا» بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين، من المسؤول؟ السياسات الاوربية الصارمة والتي تزداد صرامة من سنة الى الاخرى؟ اليأس من تغيير الاوضاع الاجتماعية في بلدان المنشأ، مع تنامي مظاهر الفقر والتصحر والحروب الاهلية ؟ والاهم، هل من حل، حتى لا يتحول المتوسط الى مقبرة لشباب جنوب المتوسط؟ مبادئ حقوق الانسان أم الضرورة الانتخابية؟ لننطلق، عند الحديث عن الهجرة، من المبادئ العامة لحقوق الانسان، واهمها الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي يضمن حرية تنقل الاشخاص من بلد الى اخر، وحرية التنقل هذه تشمل الحق في التنقل داخل ارض البلد أو خارجه، ولا يمكن لأي دولة ان تمنع ذلك، كما يحق، حسب اتفاقية جنيف، لكل شخص ان يطلب اللجوء في بلد اذا ما تعرض للاضطهاد في بلده، بسبب آرائه السياسية أو معتقداته الدينية، ذلك هو المبدأ العام، لكن الواقع ان الانتخابات في جل الديمقراطيات الغربية التي كانت جل برامج احزابها تتمحور في وقت مضى حول تقديم برامج اقتصادية واجتماعية وخلق فرص التشغيل والتغطية الاجتماعية... أصبحت اليوم ترتكز، في اغلبها، على محاربة الهجرة وصد المهاجرين، بل اصبح مقياس النجاح في الانتخابات، في احيان عديدة، هو مدى الحزم في مواجهة تدفقهم عبر البحر، والحد من قبول مطالب اللجوء، بناءا على أفكار مسبقة نجح اليمين الاوروبي في صياغتها وترويجها وهي ان المهاجر هو سبب كل امراض المجتمع، ابتداء من البطالة الى مظاهر العنف والتطرف... السياسات الاوروبية الصارمة زادت من عدد الضحايا مع صعود الاحزاب المتطرفة في عديد البلدان الاوروبية، احزاب جعلت من الهجرة حصان طروادة لكسب ود الناخبين، نقص عدد المهاجرين، لكن تزايد عدد الموتى في البحر، ففي سنة 2017لقى شخص واحد حتفه من كل 38 يصلون الى الضفة الاخرى، لكن يتضاعف عدد الضحايا سنة 2018، حيث يموت مهاجر على كل 14 شخص يصل الحدود الاوروبية، ذلك ليس فقط بسبب تكثيف المراقبة البحرية، بل كذلك بسبب منع منظمات المجتمع المدني من انقاذ المهاجرين، ففي السنة الماضية اغلقت ايطاليا موانئها امام سفينة انقاذ المهاجرين «اكواريس» التي كانت تقل حوالي ستمائة مهاجر غير نظامي وقع انقاذهم في البحر، مما جعل السفينة تنهي مهامها، مرجعة الاسباب الى المضايقات التي تتعرض اليها من دول مثل ايطاليا ومالطا وفرنسا، مضايقات وصلت الى حد منع السفينة من التسجيل في الموانئ، المستفيدون والخاسرون نحن، اذن، امام ازمة ليس لها من حلول في الافق القريب، أوضاع اقتصادية واجتماعية وبيئية كارثية في بلدان الجنوب، تدفع بمئات الاف الشباب الى البحث عن امل في حياة افضل بعيدا عن وطنهم الاصلي، ومهربون احترفوا تجارة البشر، يبحثون دائما عن مسالك بحرية أكثر خطورة امام تكثيف المراقبة الاوروبية، في المقابل تكنولوجيا عالية تحاول مراقبة البحر من كل الجهات، تشجيع اوروبي ان تلعب بلدان الجنوب دور حارس الحدود وتمنع وصول المهاجرين، فبعد رفض كل بلدان جنوب المتوسط ان تكون «محطات انزال» يقع عندها فرز المهاجرين من طالبي اللجوء، تستعد الدول الاوروبية لتقديم مزيدا من الدعم المادي حتى «تكثّف كل دولة من مراقبة مواطنيها الذين يحاولون ركوب البحر». وهذا بالضبط ما يسعى إليه الاتحاد الأوروبي الان، حيث اجريت نقاشات مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، حول «تمويلا ت سخية « مقابل القيام بإجراءات أكثر تشددا لمراقبة الهجرة، ومن المتوقع ان تطلب مصر مساعدات مالية وقروضا بتسهيلات مجزية مقابل ذلك، وكذا الشأن بالنسبة لتونس والمغرب. ويبدو ان تونس قد بدأت اجراءات الصرامة منذ بداية 2018، حيث وحسب دراسة قام بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فان عدد المهاجرين الذين وقع إحباط محاولة اجتيازهم المتوسط خلسة قد ارتفع من 3187 سنة 2017 الى 6369 سنة 2018، وذلك حتى شهر سبتمبر 2018. الى جانب ذلك، وبناءا على اتفاق تونسي ايطالي يرجع الى سنة 2011، فان عمليات الاعادة القسرية الى تونس كانت تجري بشكل منتظم خلال سنة 2018، حيث وصلت رحلات اسبوعية من ايطاليا الى تونس، قدرت بحوالي اربعين مرحّلا اسبوعيا وذلك بعيدا عن انظار المراقبين وفي صمت تام من السلطات التونسية، مما اثار استياء منظمات المجتمع المدني. لكن بقي تحدي مهم، ماذا عن الدول التي تغيب فيها سلطة مركزية أو تكون غير قادرة على مراقبة كامل حدودها ؟ الدول التي تستثمر فيها المليشيات قضية الهجرة لتصبح تجارة جد مربحة، ذلك ما حدث مع المركبالذي غرق منذ يومين قرب صفاقس والذي انطلق من مدينة زوارة الليبية. المأزق في السنوات الاخيرة، غلبت على السياسات الاوروبية، أكثر فأكثر المقاربة الامنية، لكن أمام تواصل تدفق المهاجرين، تسعى الان بكل الطرق للتخلص من ازمة تدفقهم عبر ترحيلهم الى بلد اخر من خلال ابرام صفقات مع الحكومات، مثلما وقع مع تركيا،وحسب المراقبين فان كلا الحلين، الامني أو الترحيل، غير ناجعين ما دامت هناك معضلات عميقة في جنوب المتوسط، منها الفقر والبطالة والقمع السياسي والحروب الاهلية. وحتى اتفاق مراكش الاممي حول تحقيق «هجرة امنة ومنظمة ومنتظمة « التي صادقت عليه 164 دولة في العالم، خلال شهر ديسمبر 2018، فقد أظهر انقساما حادا ضمن دول الاتحاد الاوروبي، رغم صبغته غير الالزامية، حيث اثارت نقاط عديدة، منها «تحسين الخدمات الاساسية للمهاجرين» و»العمل على ان لا يشوب تقديم الخدمات اي تمييز ضدهم» حفيظة حكومات يمينية في اوروبا. أمام فشل كل المحاولات، ربما حان الوقت ان تنظر أوروبا الى الهجرة نظرة مغايرة وتواجهها عبر استراتيجيةبعيدة المدى استراتيجية تقلل من ردود الفعل الامنية، وتأخذ في الاعتبار مبادئ حقوق الانسان وتكرس التضامن الدولي ، عند ذلك فقط يتحول المهاجرون، بكافة اصنافهم، من عبء الى عامل اثراء تستفيد منه دول المنشأ والدول المضيفة.