نور الدين بن المنجي بوعلي (أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية) ويعزى ذلك القلق البالغ والتخوف الشديد من أن الاحزاب السياسية لا تفتح افقا جديدة أمام الشعب وانتظاراته وتطلعاته المستقبلية. فهذه الأحزاب لم نسمع منها و لا عنها إصلاحا هاما وحقيقيا في خطاباتها السياسية المتسمة بعدم الواقعية والفراغ بل الجهل المعرفي بكنه وخفايا مشاكل المجتمع الحقيقية ،وهي لم تجر تقييما حقيقيا وشفافا لأدائها المحتشم والغائب في كثير من الاحيان . وبالتالي تفتقد لرؤية متكاملة وواضحة المعالم تطرحها على المستوى الوطني ، لكن السؤال كيف يتسنى لها ذلك مادامت لا تزال عاجزة عن تشخيص ومعالجة أسباب تعثرها وإخفاقاتها في تسيير شؤونها الداخلية التي ما انفكت تتهاوى وتتناثر هنا وهناك فهي لا تملك برامج حزبية واضحة كما يغلب على جلساتها ونقاشاتها التشنج والاحتقان والتنافر وقذف الاخر بل معاداته وشيطنته . فهذه الأحزاب يجب أن تخضع لتقييم أعمالها و نقد ذاتها لتتطور. وهي لا تراعي مكونات المجتمع التونسي في تعدده وتنوعه بتراثه العربي والإسلامي منذ القرون الوسطى حينما كان يسمى بافريقية و بلاد المغرب (فتح فأسلمة فتعريب) بحيث لم تقف على وزنها الحقيقي لمعرفة أحجامها المريضة المنتفخة ومدى تجذرها في داخل الطبقات الشعبية ولهذه الأسباب أين حركة نداء تونس و رئيسها المؤسس اليوم وكل من ساعده وتحالف معه ومن سار على خطاه من اليسار وغيره فلقد تبدد واضمحل ولم تبق سوى التبعية الاسمية والتاريخية، فالشعب يريد والنداء يريد والله يفعل ما يريد . فالتلاعب بعواطف الناخبين وإطلاق شعارات براقة وغير قابلة للانجاز وتجييش الفضاء العام ومشاعر الكراهية واصطناع الأعداء مع تمويلات مشبوهة ... تبقى اساليب خاطئة لا تسمح باستقرار الحياة السياسية للحزب وللمشهد السياسي عامة. فهذه الاحزاب ممزقة متعبة تشكو العديد من المشاكل الداخلية منها عدم توحيد رؤيتها وتشتيت جهدها كيف يمكن ان تنتج افكارا وحلولا ملائمة للبلاد والمجتمع مادامت لم تتمكن من إصلاح نفسها فأي قدرة لها على الإصلاح «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». فالفكر المشوش لا ينتج إلا أفكارا مشوشة وبالتالي تكون مواقفه وأداؤه مشوشا (إي بمعنى الفوضى) والفوضى لا تنتج إلا الخراب فهي إذا منظومة هجينة متنافرة متناثرة متنطعة عجزت صراحة عن تقديم حلول وبدائل للبلاد ومشاكلها الصاخبة والصارخة العميقة لكنها لم تعترف بعجزها المتردي والمتفاقم يوما بعد يوم . ويبقى مبعث القلق والخوف كل الخوف من ان تعاد الكرة حيث بدأنا نشتم رائحتها عن بعد من تلك الأحزاب المفلسة في أفكارها وأتباعها التي سكنت قرطاج و القصبة. فكل حزب ما لم يتجذر شعبيا لا يكتب له النجاح بالإضافة إلى وجود مفكرين ومصلحين داخله يتمتعون ببعد النظر ضف إلى ذلك مؤسسات فعلية تعمل دون تراخ وبمسؤولية وبدون محاباة مما يولد الانضباط الحزبي داخل الحزب وقراراته بالتصويت لا بالمحاباة والإجماع والتفاهمات الهشة والمغرضة وهو ما يفسر سر نجاح حزب النهضة أمام بقية الأحزاب بل البطون السياسية مثلما يقدم ذلك ابن خلدون في حديثه عن السياسة والسياسيين. هذا والقيام ببحث دقيق في مرفولوجية هذه الأحزاب نجدها : تتسم بالتنوع الشديد وهذا التنوع ناتج عن تعدد البطون السياسة واختلافها مما يجعلها تحتوي على العديد من نقاط التصادم رغم تجمعها حول بعض القضايا والمواقف الجوهرية الهامة . وهذا التنوع ادى الى تباين في وجهات النظر واختلافها الذي يتصف تارة بالطفيف وطورا بالشديد مما يحرم هذه القوى السياسية من التكامل وتوحيد الجهد السياسي اللازم لخوض معارك حقيقية والتي تجد من ضمنها معركة الانتخابات السياسية 2019 وهي المحك الحقيقي لهذه الأحزاب . وهو ما ادى الى سيطرة الحزب الوحيد المؤطر والمنظم والمحتكم إلى مؤسساته على الرغم من قدمها وهو ما يقوله الواقع ويفرضه شأنا ذلك أم ابينا. وان كان هذا الحزب يحمل في طياته اختلافا وآراء متباينة والتي تصل في بعض الاحيان الى التناقض مثل راي محافظ متأصل متشبث بالتراث الاسلامي المحض محبذا العودة الى القرون الأولى للإسلام والتشبث ببعض المسائل التي اصبح المجتمع غير قابل لها ويرفض التلهي و الخوض فيها . وبين محافظ على أصالته متفتح على الآخر (الشيخ عبد الفتاح مورو) بزعامة الشيخ مستفيدا من كل فكرة محاولا استغلالها تمشيا مع الواقع وهو أن كان بداية تمفصل فهو يبقى ايجابيا و مسايرا للمشهد السياسي التونسي محاولا فرض نفسه ونفسه السياسي المتجدد والمبني على الاجتهاد السياسي و الفقهي. ومهما يكن من أمر لا يمكن لهذا الحزب أن يتطور طرديا إن لم تبرز أحزاب أخرى قوية حتى يتنافس المتنافسون. حيث تنقل معهم البلاد من بوتقة الجهل والانتهازية إلى غمار العيش الكريم ما دامت هذه الأخيرة تتسع إلى جميع العائلات السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية. حينئذ فالقضية ليست في السياسة ولا في الدين بل هي في تلك الممارسات السياسية والدينية الخاطئة. فالسياسة تحتاج الى الدين والدين يحتاج إلى السياسة. وإذا كان للنظام الديمقراطية عيوب وللسياسة عيوب أيضا فالدين هو الكفيل بمعالجة تلك الثغرات العيوب. والسؤال الاهم هو : هذه الاحزاب التي ذكرنا اضافة الى التي لم نذكر والمكونة للمشهد السياسي العام لبلادنا هل بوسعها المحافظ على السلطة والبقاء فيها أن وصلت إليها 2019. أي بمعنى هل لديها مشروع وطني متكامل ؟ أم لديها حلول ضيقة ترقيعية كثيرا ما تستفيد منها بطونها في إطار تواصل سياسة الحيف والمحاباة ؟ وهل سيترجم الفوز في الانتخابات الى اعمال جدية وتسحب على جميع سكان البلاد التونسية بجهاتها المفقرة اليتيمة والمنسية؟ وإذا كانت هذه الأحزاب الحاكمة حاليا وبعيد الثورة تعلم قوس الأزمات ... والوضعية المتردية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وهي لا تملك تصورا واضحا للاستجابة لمطالب وتطلعات الشعب الغزيرة والمتنوعة والملحة. فلماذا تعيد الكرة وتبحث عن التشبث والبقاء في السلطة دون الفعل فيها ؟ فواجبها الوطني إن كانت كذلك يطلب منها بإلحاح التنحي وفسح المجال لمستقل طامح في الحكم وبنفس وروح قوية وعالية من الوطنية وإرادة وعزيمة فولاذية وحلول متكاملة جوهرية حيث ترى رؤيته ان الدولة تطلبه وليس يطلبها وأن الحكم ليس معيارا للفخر والتباهي بل هو مسؤولية.... وعمل دؤوب.... وجحيم لا يطاق.