هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    وزارة الصناعة تفاوض شركة صينية إنجاز مشروع الفسفاط "أم الخشب" بالمتلوي    حجز أطنان من القمح والشعير والسداري بمخزن عشوائي في هذه الجهة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    عاجل/ هذا ما تقرّر بخصوص زيارة الغريبة لهذا العام    القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    عاجل: زلزال يضرب تركيا    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    قيس سعيد يُشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض الكتاب    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    عاصفة مطريّة تؤثر على هذه الدول اعتباراً من هذه الليلة ويوم غد السبت    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    المصور الفلسطيني معتز عزايزة يتصدر لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم لسنة 2024    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار المؤمن "حركة فكرية سياسية دينية إنسانية" محمد الحماّر
نشر في الفجر نيوز يوم 31 - 01 - 2012


اليسار المؤمن
حركة فكرية سياسية دينية إنسانية
تونس – جانفي 2012
2:أھدي ھذا الكتيب إلى:
* روح أبي وروح أمي
* أرواح شھداء الحركة الوطنية وشھداء الانتفاضات الشعبية وشھداء الثورة
* الشعب التونسي
* الشعب العربي والشعب المسلم
3:تمھييد:
"اليسار المؤمن" من منتجات منھاج "الاجتھاد الثالث". "اليسار المؤمن" حركة عروبية
مسلمة حداثية ترمي إلى إرساء "الوسطية التأليفية"/"الثقافة الوسيطة".
"اليسار المؤمن" فكرة مشروع ولدت قبل 25 عاما تقريا أيام كان الصراع محتدما بين
السلطة الحاكمة في تونس والتيار الإسلامي السياسي ھناك. لكننا لم نشرع في رسمھا حبرا
على ورق إلا منذ سنة 2008 حين توفرت لدينا الوسيلة الملائمة: فايسبوك، فضلا عن
المواقع الالكترونية، العربية على الأخص.
"اليسار المؤمن" حركة سياسية تونسية عربية ذات أبعاد عالمية تعنى بتجديد الفكر السياسي
للعرب والمسلمين وللإنسانية قاطبة وذلك باستعمال أداة "الاجتھاد الثالث"، وھو اجتھاد
سياسي شعبي يمار س من خارج منظومة الفقھ الإسلامي لكن باتصال موثوق بحياة
المسلمين.
1."اليسار المؤمن" منتوج ل"الاجتھاد الثالث"
تطبيق الشريعة برؤية حديثة
2012 ) بكلمة في -1- تقدم النائب والمناضل الإسلامي الصادق شورو مؤخرا (في يوم 23
المجلس التأسيسي أقامت الدنيا ولم تقعدھا بعد . وقد كان وجھ الصدمة في المداخلة أن
استشھد العضو التاريخي لحزب النھضة بآية الحرابة من القرآن الكريم، إن ل"يلوم"
المعتصمين والمخربين والمضربين على صنيعھم أم ل"الحكم" عليھم.
إ ن مداخلة النائب تمثل في اعتقادنا فعلا مناسبة تاريخية لِما توفره من فرص لمراجعة
الرؤية للدين الحنيف وعلى الأخص في جانب تطبيق الشريعة.
إن الإسلام كاللغة. ومن فضائل اللغة أنك لمّ ا تتكلمھا في زمانك ومكانك لا تقلد فيھا كلام
غيرك، ولو كان كلام رب العزة، إلا إذا كنت جاھلا وفي طور تعلم. ھكذا وبنفس المعنى لا
يمكن أن يتم تقليد الأحكام الشرعية القديمة دون أن يُتھم المقلد بالجھل. فكل ما جاء بھ لله
صالحا لكل زمان ومكان بتوفر شرط العلم والدراية. وإن توفر ھذا الشرط لم يبق للمجتمع
المسلم إلا أن يھنأ نفسھ على المستوى الذي بلغھ. وشكر لله على ھذه النعمة أفضل تطبيق
لكلام لله.
4
من ھذا المنطلق لم تعُ د مشكلة المسلمين عموما ومشكلة قادة رأي المسلمين ت رُى على أنھا
متعلقة بتطبيق الشريعة من عدمھا.إ ن المشكلة في التواصل مع كلام لله جل وعلا.
لننظر إلى اللغة. كل لغة لھا نحو. وليسأل المرء نفسھ "ھل يمكن أن أتعلم النحو بتطبيقھ
مباشرة بلا كلام وتجربة في التعبير والتبليغ؟". إن كان ذلك ممكنا فتطبيق الشريعة (وھي
في الدين قائمة مقام النحو في اللغة) إذن ممكن. أما إن تعذر عليھ ذلك فليحاول أن ينظر من
جھة التجربة في التعبير والتبليغ، عساه يدركأ ن تلك ھي مصيبتھ.
بھذا المعنى، معنى "الاجتھاد الثالث" (لا إسلاموي ولا حداثوي)، لو كنت الصادق شورو
لأقمت وجھي لصورة الحق، صورة التجربة الإنسانية في عالم مشوه بأيادٍ فوقية لا علاقة
لھا بالعدل والمساواة.
لو كنت شورو لاتبعت سارق الثورة حتى باب داره: ثورة فانتخابات فتشكيل حكومة في
مناخ اجتماعي مشوب بالغموض والتوتر، فاطراد الاعتصامات والاحتجاجات
والإضرابات.
لو كنت شورو ل مَا تجرأت حتى على السؤال بأي ذنب سأ"ت ھم" المعتصمين والمحتجين
والمضربين فأ"تو عدھم بالانتقام" متوخيا أسلوبا لا تاريخيا استنباطيا عشوائيا. حاشى أن
يكون الإسلام متخلفا بما يكفي للقفز على التجربة والتقوقع في النص. حاشى أن يكون
الإسلام متخلفا حتى يسمح بالاستنباط في الحكم على البشر في عصر غير ذي عصر
استنباط.
لو كنت شورو لأمعنت في الصورة العالمية ولتبي ن لي ضلوع أسياد الرأسمال العالمي في
بعث متطوعين محليين يستنسخون نموذج الاستغلال في بلدي ويخلقون منھم طبقة ممن
يعتدون بكامل أصناف الفحشاء على شغالين مطوقين بين حيطان معاقل يدخلونھا قسرا
ويقضون فيھا أحلى ساعاتھم كرھا حيث إنھا لا تدر عليھم بما يستحقون من أجر مقابل جھد
يبذلونھ فوق طاقتھم.
لو كنت شورو ل مَا استحضرت آية الحرابة ل و أد القوامة العقلية على النقل لدى بني أمتي؛ ل مَا
استحضرت أية آية أخرى من آيات لله المنزلة في لوح محفوظ، لا لشيء سوى لأن
الصورة البشعة التي يحملھا الواقع الاجتماعي والسياسي آية معبرة عن تحريف مقاصد
الإسلام النقية، فما بالك أن أتمادى في تحريف الواقع باسم الآيات البينات.
لو كنت شورو لأدركت أن المعتصمين والمحتجين والمضربين أمة من الثوار الأحرار لا
يسقطون الكلم على أوضاع تتكلم بنفسھا بل يستقرئون قواعد الحق التي جاء بھا الدين كلھ
من خلال تجربتھم مع الوحش الرأسمالي.
5
لو كنت شورو لرسمت معھم آية استحقاق العمل بكرامة، وتقاضي الأجر بالعدل، والانتفاع
بالخيرات بالمساواة.
2. "اليسار المؤمن" حقيقة ثورية
تونس اليسار المؤمن: دعم ثورة الشعب بثورة الفكر
إلى الذين لا يعلمون، أقول إن اليمين ھو كل قوة سياسية تسعى إلى الاعتياش من عرق
جبين الكادحين، ومآل اليمين ھو ما تلاحظونھ من فوضى عارمة في تونس الآن واليوم
. وھنا. واليمين ھو كل الاستبداد الذي عشتموه في الفترة ما قبل 14 جانفي 2011
إن الفحشاء المركنتيلية المتجسدة في ذلك الصنف السافل من الاعتياش ل مَ تولد في تونس.
لكن وقع استيرادھا من أوروبا فيما بعد التجربة الاقتصادية لأب الاشتراكية في تونس
أحمد بن صالح (تجربة "التعاضد") والتي انتھت إلى كارثة اقتصادية واجتماعية (في
سنة 1969 )، من طرف السياسيين ذوي الأفق الفكرية المحدودة طالما أنھا تعتمد
الحسابات المالية دون سواھا (الھادي نويرة رحمھ لله)، ليركبوا بھا ظھور المستضعفين،
ظنا منھم أنھا الحل.
والمنعرج الخطير في حياة المثقف المعاصر أن الفكر الأعلى (فكر الكاتب والفيلسوف
والمثقف عموما) قد استبطن كما لا ينبغي الاستبطان بذور الفحشاء المركنتيلية إلى
النخاع. قد يكون فعل ذلك على مضض، لكنھ فعلھا و استساغ فيروس الفحشاء في آخر
التحليل.
ولم أقبل شخصيا الفحشاء، بحجة أني لا أعتاش من الساعات الإضافية ولم أبد لّ سيارتي
العجوز ولم أفكر حتى التفكير في بناء بيت ثان ولا في تھيئة مستودع خاص لسيارتي
ولا في إيجار مستودع بَعد تھيئتھ ولا في اقتناء قطعة أرض لكي أحتكرھا مُم وَ ھّا على
نفسي، لا قدر لله، بأن ذلك من باب الاحتياط والحيطة وتأمين المستقبل. فأين المستقبل
لمّ ا تكون العقلية مثل تلك التي رفضت ھُا وأطردت شبحھا من ذھني؟ أھو المستقبل الذي
أضرم من أجلھ محمد البوعزيزي النار؟
أما اليسار فھو العكس بالضبط؛ إنھ ابتغاء العدل والعدالة والبحث عن الحقيقة وإنصاف
المستضعفين والدفاع عنھم.
والسؤال الآن: كيف يلتقي اليسار مع الإسلام ھو موضوع بحثت فيھ وجربتھ؟ يتلاقى
توجھي الفكري مع إيماني بالفكر الإلھي في أن لله في الإسلام ينھى عن حب المال حبا
جما وعن اكتناز الذھب والفضة وعن حرمان المتسول والفقير. وأصرح أني أواجھ،
بصرامة علمية، بالفكر والقلم والكلمة، كل فكر يستخدم الإسلام لتوطيد عرى اليمين،
معتدلا كان أم متطرفا.
وليس الدين وحده كلمة الخير التي أريد بھا شر قبل سقوط النظام في تونس، بل العلم
والتعليم وكذلك التواصل والوطن والوطنية كلمات خير أريد بھا شر. لذا أعتقد أن الوقت
قد حان لكي يعي الشباب أن لديھ قصة طويلة مع الاستبداد بتلك العناوين، لكن بإمكانھ أن
6
يدع مّ ثورة سيدي بوزيد، وذلك لا بالعمل السياسي المباشر وإنما بالإمكانيات التي يتملكھا
وھي: الوازع المعرفي والديني والتواصلي، من أجل حركة فكرية ضد ھيمنة كل أشكال
الاستبداد باسم الدين وباسم العلم وباسم الوطن وباسم كل تلك الكلمات التي أريد بھا شر
في الماضي.
كما اعتقد أنھ من واجب الشباب التونسي الواعي أن يختار ھذا المنھاج لتدعيم انتفاضتھ.
وإلا فأخشى عليھ أن يراد لھ الشر مجددا بتلك الكلمات مستقبلا.
ويتمحور برنامجي للإصلاح الفكري منھجيا حول محاور ثلاثة ھي الفكر الديني
الإنساني، التربية والتعليم، والتواصل. بينما يتمحور فلسفيا حول ثنائيات من أھمھا أذكر:
الخير مقابل الشر، الحق مقابل الظلم، القناعة مقابل الجشع، الحركة مقابل الجمود،
المقاومة مقابل الاستكانة، التعويل على النفس مقابل الاتكال على الآخر.
إن اختياري لمنھاج مثل ھذا كان كذلك لأنھ نابع من الإحساس بضرورة إعادة تدوير
المفاھيم السائدة، وذلك بالاتكال على المنظور العقلي الفطري، وبالتالي السعي إلى إرساء
وجودية عربية إسلامية تتميز عن الوجودية العلمانية بكونھا لا تبج لّ الموجود على
الجوھري في الإنسان، وإنما تسعى إلى البحث عن أصول الجوھر من خلال الوجود
والموجود.
وتتأكد لدي صحة النظرة الوجودية "المقلوبة"إ ن صح التعبير لمّا ألاحظ أن انتفاضة
سيدي بوزيد عبّرت، وما زالت تعبّر، عن أزمة في الوجود، وعن تقلب غريب في
وسائل الحفاظ على الوجود، وإلا فكيف نفسر لجوء الإنسان المسلم (المتمثل في شخص
محمد البوعزيزي)، بالرغم من أنھ مؤمن بتحريم الخالق للانتحار، إلى حرق نفسھ من
دون أن يخشى غضب لله وعقابھ ؟
إن انتفاضة الوجود العربي في سيدي بوزيد، بش ھُدائھا الذين لن ننساھم ولن ينساھم لا
التاريخ التونسي ولا العربي الإسلامي و لا أيضا العالمي، كانت انتفاضة شعبية تلقائية
موجھة ضد استعمار الم عَدن الإنساني الجيّد، سواء أكان صاحب ھذا المعدن مسلما أو
غير مسلم، مؤمنا أو ملحدا. و حدثت الانتفاضة عندما بلغ الإنسان ذروة الألم من رؤية
معدنھ الطيب مقموعا ومقھورا بواسطة أدوات الجشع المادي المقو ىّ بالتفقير الفكري.
تلك ل عَ مَريا نتفاضة لا ينقصھا إلا التثبيت الفكري لتصير مادة تحيا في التاريخ. أمّ ا
التثبيت فيشترط أن يكون الفكر المنفذ من الصنف الميداني التجريبي، العلمي و العملي
من حيث المنھجية، وأن يكون يساريا غير مھيكل من حيث التوجھ السياسي العام.
إ ن خيار الثورة الفكرية المييةدا نخيارٌ لطالما انتظرت لحظة ت وَح دِّ بُعد يَھ الاثنين
(النظري والإجرائي). وھا نحن نسج لّ لحظة الاتحاد ھذه بين الفكرة والعمل، الآن واليوم
وھنا: ساعة ينتفض فيھا العقل الجوعان بالاشتراك مع انتفاضة البطون الجائعة من
متسولين ومحرومين؛ وھي في الوقت ذاتھ انتفاضة شبعان البطن إذا جاعت روحھ وجاع
عقلھ.
7
وف ي كل الأحوال فھي انتفاضة ت حُ رَ كِھا رغبة عميقة في توليد الوسائل العملية التي
ستكفل لھذا ولذاك ولھؤلاء كلھم، بناء الفكرة وبناء العمل المُجسد لھا كمادة تحر كّ
التاريخ.
*******
العقيدة والمنھج المقلوب
كانت الثورة التونسية فرصة سانحة لتسھل معاينة ما معنى أن يكون منھج العبادة مقلوبا
رأسا على عقفب بم. جرد أن النخب لم تع أن م نَ قاموا بالانتفاضة ضد الحكم المستبد إنما
ھم مسلمون لا محالة، وبمجرد أن تلك النخب باختلاف ألوانھا وأطيافھا تتعنت في سحب
الثورة على الشعب على قدر تعنتھا في نكران صفة المسلمين على صانعيھا، فإن شيئا ما
في علاقة المجتمع بالدين لا يشتغل كما ينبغي.
والذي لا يشتغل كما ينبغي ھو بالضبط كل الجھاز العاطفي والرمزي والعقلي الذي
بواسطتھ يتسنى للعقل المجتمعي تقييم الفعل والحكم لھ أو عليھ بصفة الإسلام، من بين
صفات أخرى.ف إذا كان لا بد أن ت حُسب حركة مثل حركة الثورة في تونس ثم في مصر ثم
في بلدان عربية أخرى على أنھا جرت خارج التاريخ، يصح القول إنھا ليست إسلامية. لكن
لمّ ا كان العالم بأكملھ شاھدا على أن الثورة ثورتنا (بالرغم مما يقال ھنا وھناك عن ضلوع
القوى الأجنبية في بعض جوانبھا)، فليس من المعقول لا إنكار تاريخيتھا، لا إنكار إسلامية
الشعب الذي حققھا، ولا إنكار تأثيرھا وتأثير ثقافة القائمين بھا على مجرى الأحداث في
العالم بأسره. وإن تم الإنكار، وقد تم فعلا، فذلك دليل قاطع، لا على تأخر الإسلام ولا على
تقدم القوى "التقدمية" (بما فيھا الإسلام السياسي) وإنما على تخلف المسلمين، على غرار
عقل نخبھم، إزاء الواقع وتحولاتھ السريعة.
ذلك الوجھ الأول للانقلاب المنھجي. وأملي أن يعي الشعب إلى أي مدى كان تحركھ ثوريا،
حتى يتمكن من قلب جھازه التقييمي ليعيده إلى وضعھ الصحيح؛ "على رجليھ". ولن يتم
التصحيح التقييمي إلا بتصحيح الوضع العقدي الذي ينبغي أن يعود من باب أولى إلى
وضعھ الأصلي؛ "على رجليھ".
إذن فالوجھ الثاني للانقلاب يخص العقيدة. و ينطوي على عديد الأفعال التي تجسد معنى
الانقلاب. لننظر على سبيل المثال المواقف المقلوبة مقارنة بمبدأ الرغبة في ما عساھا أن
تكون: يتھافت الناس على المحرمات مثل شرب الخمر أكثر من تھافت من شرب الخمر
عندھم ليس حراما؛ يعتبر المجتمع الذكوري الممارسة الجنسية قبل الزواج من أعظم
الإنجازات لديھ، بينما يعتبر الزواج بغير العذراء إما إخلالا بواجب ديني أم تفريطا في حق
ديني؛ عندما تتعطب آلة أو دراجة أو سيارة أوغيرھا من الم رافق، ولم تعُ د تليق بالاستعمال
من طرف مالكھا، عادة ما يلوذ ھذا الأخير بترقيعھا كيفما كان الحال وتصليحھا بأبخس
8
الأثمان لكي يبيعھا مقابل أضعاف ك لفتھا الحقيقية (أمتنع عن استعمال اللفظة بالعامية التي
تجسد ھذه العقلية، لأن اللفظة جد نابية رغم دلالتھا الأمينة). والذي يليق في مثل ھذا
السلوك أن صاحب الآلة أو البضاعة يستعمل الغش عنوة لكأنھ سلوك من الإسلام لا سمح
لله. زد على ذلك فھو يكره لغيره ما يحب لنفسھ. وھو بذلك يتصرف على عكس ما جاء في
القرآن والسنة والحديث من سلوكيات. والأمثلة على الانقلاب لا تحصى ولا ت عُد.
والانقلاب الذي نشھده عند عامة الناس يُترج م عند الفقيھ في حرص ھذا الأخير على طريقة
استنباط الأحكام الشرعية (من الأصول) بينما الواقع والطبيعة يشتملان على سنن وقوانين
ونواميس قلّ وندر أن يلتفت إليھا الفقيھ، فقيھ الواقع، ليستقريھا. علما وأن الاستقراء
المطلوب والمتمثل في تجريب تلك الأصول الواقعية (سنن وقوانين ونواميس) وفي التثبت
منھا يتم لا محالة في ضوء الشريعة وفي ضوء معالمھا. والاستقراء عكس الاستنباط، بما
أن الأول استدلال ق بَلي من الأصل النظري أي قبل التجربة، بينما الثاني استدلال بَعدي أي
حسب التجربة وبَعد التجربة.
بالنھاية يمكن اعتبار الاستنباط منھجا مقلوبا، لا بسبب علة فيھ وإنما بسبب رفض أصحابھ،
وسائر النخب من أصحاب العلوم الدنيوية، الاستئناس بالاستقراء، إن لم نقل التكي ف المكثف
مع مستلزماتھ. وليس من الصدفة أن يكون أصحاب الاستنباط منتمين إلى المحافظين، سواء
من بين العامة أو غالبية الفقھاء وعلماء المذاھب والجماعات مثل السلفية والأصولية
والإسلامية السياسيوةال. منشود أن يُغيّر العلماء ما ب طِ رُ قُھم حتى يغيّر جمھور المسلمين ما
بأنفسھم و يُغيّر لله ما بالجميع. ولله أعلم.
*******
لا يميننا يمين ولا يسارنا يسار !
لقد أدى الانقلاب العقدي، بالتواطىء مع عوامل أخرى، إلى خلط رھيب بين اليمين واليسار
في السياسة. وھو خلط متصل بثنائية تحمل نفس الاسم لكن سياقھا لا يتسق مع سياق
السياسة. أعني بذلك ثنائية اليمين واليسار في الدين. باختصار، عدم اتساق يمين السياسة
(محافظة، تقليد، ثراء، إمكانية الظلم والاستبداد وما إلى ذلك) مع يمين الدين (الشھادة
والمعاھدة والأكل والمصافحة والوضوء حركات تتم باليد اليمنى، إرضاء لله بأن يكون
الكتاب في اليمين).
لكن المشكلة مشكلات. و ھي كذلك كنتيجة لذلك الخلط. ھنالك المتدين المسلم الذي يخشى
اتھامھ بالكفر لو مارس يسار السياسة. ھذا في حال استيعابھ لمفھوم اليسار في السياسة.
وإن كان الأمر كذلك تراه يختفي إما وراء العلمانية و اللائيكية، وإما وراء التزمت الديني
بمختلف أشكالھ وألوانھ. وھنالك المتدين الذي لا يختار الاختفاء وراء أحد السرطانين
9
الاثنين. وھو الذي يختار يمين السياسة لأن اسمھا "يمين" ولأن الدال عنده لا يمكن أن يدل
إلا على الخير في كل الأحوال. فھذا المتدين يوھم نفسھ بواسطة ممارسة الغش الفكري أنھ
يرضي ضميره. كما أن ھنالك المتدين الذي يمارس يسار السياسة عنوة، وذلك على حساب
الفھم والمعرفة. وھذا الصنف سرعان ما يتخلى عن أحد الممارستين، بحسب ظروفھ دون
سواھا:
- قد يتخلى عن التديّن إلى درجة اللجوء إلى الإقصاء تجاه المتدينين الممارسين للسياسة.
وفي ھذا الوضع تنتصب غالبية أھل اليسار تونس إجمالا، متكلسة مرجعياتھم ومواقفھم.
- وقد يتخلى عن السياسة اليسارية من حيث لا يشعر ويتحول إلى ناشط يميني. وسبب
تحولھ أنھ لم يوفق بين الحد الأدنى من التدين الذي أراد المحافظة عليھ ليحفظ بھ ماء
الوجھ، وبين فھمھ لطبيعة النضال السياسي اليساري من أجل المستضعفين والمظلومين
والمقھورين والفقراء والمساكين والشغالين والعاطلين عن العمل. وھذا الصنف بقي يعيش
في وھم اليسار بينما خسر تدينھ ويساره. وھو صنف متوفر بكثرة في تونس.ھم الذين
نزعوا قبعة تشي جيفارا ورزحوا تحت نير ربطة العنق، مُرتدين كسوة كبار المسؤولين في
الإدارة والحكم في تونس في فترة أواخر الثمانينات والتسعينات والألفينات. وھم الذين زكوا
النظام البائد إن بالتملق لھ ابتغاء الاعتياش من "سخاء" ذات اليد لديھ، وإن بخدمتھ والولاء
لھ عنوة ابتغاء التربع على الكراسي و الثراء الفاحش وتسلق السلم الاجتماعي بسرعة
قياسية.
والخلاصة أن لا أولئك ولا ھؤلاء كانوا على الأقل أمناء في اختياراتھم. لو كانوا يتمتعون
بحد أدنى من النزاھة ودماثة الأخلاق والوفاء للثقافة العربية الإسلامية و للشعب وللوطن
وللأمة لاضطلعوا باختياراتھم. عندئذ كان من الممكن أن يصلحوا أنفسھم بأن يسمحوا
للنخبة المثقفة أن تحسم الأمر (أمر الخلط والأخلاط) علميا وبالتالي أن تساھم في نحت
شخصية التونسي المتصالح مع يمينھ ومع يساره، إن في الدين أم في السياسة، أم في العلاقة
بينھما مثلما سنرى. لكن ھيھات، كان المثقف من المنتمين بالضرورة إلى إحدى التيارات
الھجينة إن لم نقل إلى كلاھا. فكانت الثقافة ترجمانا أمينا للخور العقدي واللغوي، ومنھ
الإيديولوجي و السياسي.
*******
ما أخذ بالدين لا يُسترجع إلا بالدين
حزب "النھضة" يمكن أن يستمر في الحكم مدة طويلة بغير اللجوء إلى مرجعية دينية، لكن
خصومھ من الأحزاب العلمانية لا يمكنھا منافستھ بلا دين.
10
لقد أثبتتل نا التجربة الانتخابية الفائتة أن حزب النھضة لم يفلح في الحصول على عدد من
الأصوات يضمن لھ الأغلبية النسبية (حوالي 42 في المائة من عدد الناخبين – أي مليون
و 400 ألف صوت من مجموع حوالي 4 ملايين ناخب؛ من أصل شعب يعد حوالي 11
مليون نسمة) إلا بتفعيل العامل الديني لدى الناخبين الافتراضيين. وما جولات وصولات
زعيم الحزب راشد الغنوشي، وكذلك سائر رموزه، في أنحاء البلاد منذ وقت طويل قبل
انطلاق الحملة الانتخابية إلا دليل على ذلك.
فلاأ ظن أن الألوف من المواطنين الذين خرجوا من بيوتھم ليُحيوا "القائد" من قرية إلى
أخرى ومن مدينة إلى أخرى قد فعلوا ذلك باستشراف منھم لأي برنامج انتخابي (حتى ولو
كان ھنالك واحدا سابقا لأوانھ). في الحقيقة كان ذلك تفاعلا للحشود الشعبية مع روح الدين
ومع عبارة "لا إلھ إلا لله محمد رسول لله" ومع عبارة "لله أكبر".
وھذا أمر جميل ومرغوب فيھ لكن لو حدث في وضعية معيشية عادية لا في مناسبة سابقة
لحدث انتخابي أين من المفروض أن لا يكون للوازع الديني تأثير مباشر على الفعاليات
الانتخابية وعلى نتائجھا، مثلما حصل.
علي ھذه الحلبة بالذات خسرت الأحزاب العلمانية. وخسر معھا أيضا حتى المستقلون
المتكلمون بالدين ولو كان اسم أحدھم عبد الفتاح مورو. ذلك أن "النھضة" في قاموس
الوعي الشعبي كان المرادف الوحيد ل"الإسلام" المتقدم للانتخابات.فلم تنفع المحاولة
المستقلةف ي إضفاء تنو ع على المرجعية الدينية لان التاريخ لن يعترف إلا بحزب النھضة
ممثلا للحساسية الدينية القادرة على خوض غمار المنافسة السياسية.
أما ما نستنتجھ من ذلك فيتلخص في أمرين اثنين على غاية من التناقض: من جھة لم تعد
النھضة بحاجة لتفعيل الآلية الدينية طالما أنھا في الحكم وأن الحوكمة لم تعد تسمح، حالما تم
الإعلان على نتائج الانتخابات، لأي طرف كان، لا للنھضة ولا لسواھا من الأحزاب،
بالركوب على الدين في المجال السياسي. لقد ركبتھ النھضة، ولا أحد سواھا بقادر على
ركوبھ على غرارھا. وھذه المفارقة تفسر كيف أن النخبة السياسية نصبت لنفسھا ولشعب
تونس فخا ليس مثلھ فخ، إن عمدا أم عفويا.
في الأخير لا يتم تصحيح المُركب إلا بالم ركب. فما خلفھ مد ديني ذو اتجاه واحد لن
يضاھيھ إلا جزرٌ للموجة الدينيةو.ب ما أن المد كان، بطبيعتھ ككل مد، ذا طبيعة سياسية، فإن الجزر، في المقابل، من المفروض أن يكون اختصاصا للفكر دون سواه. ھكذا سيتمثل
العمل المأمول إنجازه في مساعدة المجتمع على أن يسترد بالفكر ما فقده بالسياسة: الوعي
بأن الدين عامل نھوض لا عامل مزايدة. فالناس في تونس قديما استمالھم سلوك الراھبات،
11
معلمات كانت أم ممرضات، بشكل جعلھم ينسجمون مع الحياة و يرتاحون إليھن . فما بالك
لو كان السلوك الحسن صادرا عن مربين من الأمة.
بھذا المعنى، لا خيار للأحزاب العلمانية مستقبلا سوى الاستئناس بفكر ديني ذي خطاب
يُم كَن المجتمع من بناء نمط العيش الذي يلائمھ ويناسب حاجياتھ الحقيقية. وتبعا لھذا، لا
خيار لھذه الأحزاب سوى الكف عن استصغار الشعب والقبول بالإصغاء إليھ.
3. نظام الحكم والمستقبل العربي الإسلامي
الشعب ينتخب ظاھرة، بانتظار اتلحو ل إلى الحقيقة
لن يتغير موقفي قيد أنملة حيال الحزب الديني في المجتمع المسلم: إنھ ظاھرة لا غير. من
ھذا المنطلق سأحاول تقييم فوز حزب النھضة الديني بغالبية الأصوات في انتخابات 23
أكتوبر. وأعلن منذ البدء عن حرصي على تفادي الإقصاء وعن تشديدي على ضرورة
الانكباب على حل ھذه المشكلة الظواھراتية.
لقد نبھنا منذ شھور وإبان ثورة 14 جانفي من أن حل المشكلة الدينية في تونس (وفي كامل
الوطن العربي الإسلامي) ليس في الاعتراف بتيار أو بحركة دينية، مثل حركة النھضة
التونسية، كحزب سياسي وبالتالي منحھ تأشيرة العمل السياسي وما يترتب عن ذلك من
مشاركة في الانتخابات ومن تنافس على السلطة.
إن الداء يعالج بالدواء لا بالجزاء. وتسليم التأشيرة لحزب حركة النھضة بُعيد سقوط النظام
السابق يُعد من باب الجزاء لا الدواء.ل كأن تونس الثورة، حكومة (مؤقتة) وشعبا، أرادت
بذلك مكافأة حركة النھضة. وھاتھ الحركة تستحق فعلا كل التكريم والمكافأة والجزاء لِما
قدمتھ من تضحيات وما أظھرتھ من معارضة للنظام السابق وما عانتھ من ويلات تباعا
لذلك. لكن الخطأ يكمن في كون المكافأة شيء والاعتراف بالنھضة كحزب ديني شيء ثان.
كان على تونس تكريم حركة النھضة بأساليب ع دِ ةّ عدا أسلوب منح التأشيرة لھا.
إن منح حزب النھضة التأشيرة للعمل السياسي العلني زاد في تعقيد المشكلة الدينية ولم
يحلھا. وما تصاعد الصراع بين إسلاميين وعلمانيين من حين لآخر إلا دليل على ذلك. ولا
أصدق م نَ يقول إن مثل ھذا الصراع مفتعلإ.ن ھ مر ضَي، أج لَ. لكنھ غير مفتعل.
12
والمر ضَي قد يُستغ لَّ من بعض الأطراف (اليسارية والعلمانية) لخدمة غايات معينة، وھنا
فقط يكمن الافتعال.ل كن لا ينبغي أن يغطي الاستغلالُ الجانب المر ضَي.
لما ذا يختار شعب مثل شعب تونس ظاھرة مر ضَية لتحك مُ ھَ؟ وماذا يحصل لما يتم الاختيار؟
إن اختيار غالبية الناخبين لحزب النھضة ليحكم البلاد دليل على خلط بين الداء والدواء.
وليس حزب النھضة الداء ولا الدواء. إنما الداء، وھو ما لا يعي بھ غالبية شعب تونس، ھو
عدم معرفتھ بحاجياتھ الأصلية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرھا. فكانت النتيجة
أن لاذوا بالتصويت ل"دواء" النھضة. وھذا جھل بالعلة نلوم النخب المثقفة على تغلغھ في
النسيج الثقافي وفي العقل المجتمعي إلى حد تفاقم الأزمة الوجودية بالشكل الذي نعيشھ الآن.
فانتخابات 23 أكتوبر تقنين لھاتھ الأزمة.
لكن الآن وقد مضى نصف عام على تسليم التأشيرة لحزب النھضة، والآن وقد تم الاختيار،
لا أحد بقادر على أن يتنبأ بحقيقة ما سيحدث من تغيرات ومن إرھاصات ومن تجاذبات
ومن صراعات، في المستقبل، نتيجة لھذا الإثبات الشرعي لمشكلة وجودية.ل كن الأكيد أن الأمر عموما، على عكس ما يمكن أن يُتوقع من كل انتقال ديمقراطي، لا تكتسيھ لا الصحة
ولا العافية. لذا يتوجب على النخب التونسية ركوب القاطرة وھي تمشي، كما يقال، مع
التعھد بالقيام بمبادرات من أھمھا أذكر:
1. الإسراع بتفكيك المشكلة الدينية ضمن المحافل العلمية المختصة أولا.
2. توسيع رقعة الحراك الفكري بخصوص ھذه المسألة الحيوية وذلك تحت رقابة فكرية
دارية ومطلعة.
3. استعانة تكتلات وأعضاء المجلس التأسيسي المنتخب بخبراء تونسيين في المسألة الدينية
الھوياتية وذلك بواسطة آليات جديدة يتم إنشاءھا للغرض.
4. التنسيق الموصول بين العمل الذي تنجزه ھيئات المجتمع المدني في إطار الحوار حول
المسألة الدينية وبين العمل في داخل المجلس التأسيسي لكي يقع من جھة الارتقاء بالمستوى
الفكري لدى الشعب، ومن جھة أخرى التوسيع في مساحة الوفاق في داخل المجلس.
5. الحرص على تأسيس دستور يقترب أكثر فأكثر من المستوى الرفيع للتطلعات التي
أبداھا الشعب بثورتھ في 14 جانفي، وبالتالي يضمن أكثر فأكثر مساحة الانسجام، داخل
المجلس وخارجھ، ممّ ا يؤ مَّن للأغلبية وللأقليات حد اّ مقبولا من الرضاء عن الدولة التونسية
الجديدة بكل مكوناتھا.
*******
13
ھل الشعب يحكم الآن؟
"د عوه يشتغل"؛ "اتركوھم يعملون"؛ "لنتركھم في حال سبيلھم الآن ثم لنحاسبھم إن لم
يفلحوا". مثل ھذه التعليقات يتوجھ بھا بعضنا إلى بعض كلما يتعلق الأمر بعدم الرضاء عن
نقد يستھدف موقف الرئيس المنتخب أو موقف أحد أعضاء الحكومة أو كلھا.
إن الذي يھم في الوضعية ھي علاقة المحكوم بالحاكم. ولأني أرى ضيرا في أن يلام
المواطن الناقد للسلطة، سيكون جوابي لو لامني أحد: "وھل أنا ماسك بالرئيس أو بالوزير
حتى تلح علي بأن أتركھ؟".إ ذ الذي استنتجھ من تلك الوضعية أن المحكوم يحسب نقده (أو
نقد نظيره المواطن) للحاكم تدخلا في شؤون ھذا الأخير وفضولا مفرطا لمعرفة عملھ أو
اندساسا في سرائر طريقة عملھ.
وموقف اللوم على نقد المواطن الناقد خاطئ لا محالة. ووجھ الخطأ فيھ أن المحكوم ينظر
إلى نفسھ بدونية مقارنة بنظرتھ إلى الحاكم. وھذه ذروة الانبطاح. أمّ ا تصحيح النظرة
واستقامة حال المحكوم فتتم بمروره من و ع ض عمودي سفلي إلى وضع أفقي متساو . وھذا
يستوجب أولا وبالذات أن يعي المحكوم أن نية الحاكم وقراره وعملھ وإنجازه من المفترض
أن تكون انعكاسا أمينا لجملة نوايا المحكومين وقراراتھم ومشاريع أعمالھم وتصاميم
إنجازاتھم.
لو لا يتحقق ھذا الشرط ستبقى العودة إلى الحكم الاستبدادي واردة. ومن التجني حينئذ أن
ي لوم السلطة لائم . إنما إن تحقق فيكون إيذانا بفجر ديمقراطي حقا.
وعندئذ يتوجب إضافة شروط أخرى من أھمھا نذكر:
أ. الثقة في النفس:ا لتي لولاھا ل مَا يكون الفرد عضوا ذا مصداقية في المجتمع ول مَا يكون
الحكم للشعب.
ب. الثقة في الآخر: والآخر ھو الفرد وھو المجتمع وھو السلطة. وإلا فكيف سيقبل الآخر
الإصغاء إليك ؟
ج. الالتزام: الذي من دونھ ل مَا كانت ھنالك ديمقراطية.إ ذ إن ممارسة الحكم التعددي عمل
يُنجز لا ھدية ت ھُدى، لا إلى السلطة الحاكمة ولا إلى المحكوم، إن الفرد أم الشعب. والالتزام
مثابرة، وتقاطع بين العمل الشخصي والعمل العمومي،و جدلية بين الواجب الأ سُ رَي
والواجب المھني والواجب الوطني.
14
د"َ عوهُ يشتغل ولا ت دَعوهُ يستأثر بإرادتكم"؛ "اتر كُوھم يعملون بما قررتم: أنت وأنا وھي
وھو"؛ ل "نتركھم في حال سبيلھم عندما نضمن أنھم تشبعوا من اّ تصورات وأفكارا، حتى لا
نلجأ إلى المحاسبة". قد يكون مثل ذھا الكلام أحلى و قَعا على مسامعنا.
*******
ھل نحن سعداء أم نحفر في الماء؟
ھل نتصور تونس، أو العراق أو مصر أو ليبيا، خالية من الاعتصامات ومن الإضرابات
ومن الاحتجاجات ومن التجاذبات العنيفة ومن أعمال الشغب والتخريب، بمجرد أن يوكل
الشعب الأمر إلى حكومة؟ إن ذلكم ن قبيل الحفر في الماء، وإن ح فُر الماء لأخطر من ح فُر
البر.
في المقابل، لكي نعيش سعداء لا بد علينا أن نھيأ أسباب السعادة بأنفسنا. لكن الذي يحصل
الآن أننا، كتونسيين وعرب ومسلمين، نجاري نظاما للحياة مفروضا علينا من الآخر. أين
نحن من فھم وتطبيق الحديث القدسي يا " دنيا خد مّي من يَخدمك واخدمي من يَخدمُني"؟
نحن نجاري نسق تعليم مستورد ونسق إنتاج مستورد ونسق ترفيھ وتسلية مستورد. نجاري
فكرا لم ينبت في تربتنا. فھل ھذا معقول لقوم يعتزون بأنھم طھروا البلاد من طاغية
ويفتخرون بثورتھم على الجبروت والاستبداد؟
لا يكفي الاعتزاز ولا الافتخار لنيل العلا. وكما قال أبو القاسم الشابي، "من لا يحب صعود
الجبال يعيش أبد الدھر بين الحفر". وللأسف نحن الآن نعيش في حفرة لأننا لم نتسلق
الجبال. نعيش في حفرة مجاراة لذلك النسق في التفكير وفي الحياة الذي ليس منا، أو الذي لا
نسيطر عليھ بما يؤشر على أننا مشاركين فيھ، أو الذي لا يملك ولو نسبة كافية من
المساھمة الذاتية لكي نعتبره من عندنا.
لكي نخرج من الحفرة لا بد أن نضع بصمتنا على سيرورة العالم وصيرورتھ. ويتحقق ذلك
بعد أن نشرع في بث فكرنا في كافة أنحاء العالم ونصدر للأمم نمط عيشنا. لكن ھل
بحوزتنا فكر يُميّزنا ونمط عيش قابل للتصدير؟
ليس لنا ذلك بالمرة. والسبب أننا لم نبادر بالتفكير في التأسيس لذلك، ناھيك أن نشرع في
بث ما نفكر فيھ. والمبادرة تستلزم الإيمان بالقدرة على الفعل. وھو إيمان بالمستقبل لا
بالماضي. فالإيمان بالماضي، وھو المتداول في ذھن التونسيين والعرب أجمعين، ما حصدنا
منھ إلا مقولات مثل "تونس صغيرة" و"تونس فقيرة" و"تونس مھد الحضارات (الوافدة)"
15
و"اتفق العرب على أن يتفقوا" وغيرھا من المحظورات الإرادية. فالإيمان بالماضي قبول
بالحاضر وتكرير لھ.
إن نحن فكرنا في الرقي بآليات الحاضر الرديء فسوف تكون صورة المستقبل بشعة بما
أنھا ستؤول إلى إعادة إنتاج ذلك الواقع (وھذا أكده العلم الحديث). عندئذ ستحبط عزائمنا
ظنا منا أننا نسعى إلى الخير بينما ستكون النتيجة أن لن نفلح. أما الإيمان الحقيقي بالمستقبل
فھو رفض للواقع الرديء وبناء فوق الواقع الجيد بفضل آليات التجاوز.
*******
مقايضة عالمية على الديمقراطية العربية؟
أصبح من المضحك المبكي تصو رّ حل الأزمة التونسية بمعزل عن الإطار العربي
والعالمي. والأزمة البَعدية للانتخابات في تونس ھي من تداعيات الأزمة الأخلاقية
والروحية العالمية. ولا يمكن اعتبارھا مجرد آثار لعنف الانتقال الديمقراطي.
فالمسألة لا تتعلق بتونس فقط وإنما ما يحدث في مصر مشابھ لما يحدث في تونس. وزد
على ذلك فإن الانتقال الديمقراطي في ھاذين البلدين محفوف بواقع حربي وذلك في ليبيا
وبواقع شبھ حربي في سوريا. لكأن ھنالك مقايضة على المصير الديمقراطي في الوطن
العربي مقابل قبول الحرب في بعض أرجائھ. والسؤال: إلى أي مدى يمكن أن يصبر العرب
على تقبل مثل ھذا الغش الممارس على وعيھم؟
إن الخارطة الحربية في الوطن العربي، وفي العالم الإسلامي عموما مكتظة إلى درجة
دق ناقوس الخطر: العراق يستغيث وليبيا تثأر من نفسھا وسوريا تتلاشى...لا نرى
ديمقراطية قبل تحديد الأھداف الاستراتيجية الكفيلة بضمان البقاء الحضاري للوطن العربي
ومنھ للمسلمين، بل للشروع في قلب موازين القوى العالمية، من ثورة ربيع إلى موسم
حرث وزراعة لبذور المستقبل.
فبقدر ما يستمر الوضع الاجتماعي الداخلي في الاحتقان، وبقدر ما حالة الفوضى
والاضطراب تسود على الساحة السياسية الداخلية، بقدر ما تتأكد استحالة الخروج من عنق
الزجاجة بمنأى عن الفضاء الاستراتيجي الإقليمي و العالمي.
لا برامج إصلاح في القطاعات الحساسة تلوح في الآفاق، ولا رؤية صائبة حول خلق
فرص التشغيل للمعطلين ترتسم في الأذھان. ذلك أن العقل العالمي الذي كنا (وما نزال،
حتى إشعار آخر) تابعين لھ قد استوفى مبررات وجوده. التعليم النمطي المقلد للنموذج
الإنتاجي الرأسمالي؛ نموذج اقتصاد السوق بشكلھ الحامل للسموم المروجة على أنھا
مضادات للانھيار العصبي الناتج عن الإفراط في الاستھلاك المادي والرمزي، وعن
اللھفة على الوفرة: أھذه نماذج ت حُتذى وتليق بشعب عربي ثائر؟
16
إن أية حكومة تدعي أنھا تمثل الشعب في الوطن العربي مطالبة بالانكباب على رسم
الاستراتيجية التي تتوفر فيھا أدنى شروط إعادة الإحياء الحضاري. وإلا فعن أية
ديمقراطية يتحدثون؟
*******
ھل العرب قادرون على البقاء دون إيديولوجيا؟
يبدو أن "الفوضى الخلاقة" التي يعيشھا المجتمع العربي في جانب كبير منھ إنما ھي خلاقة
لمؤسسيھا الغربيين وھدامة للمجتمع العربي، على الأقل في الآونة الحالية. في ضوء (أو
بالأحرى في ظلام) ھذه الفوضى، بودي أن أصدق الفاعلين السياسيين والإعلاميين
التونسيين والعرب حين يتبجحون بأن الثورة حدثت بلا إيديولوجيا. لكن ھل أصدقھم حين
يثابرون على استنكار كل إيديولوجيا قد تلوح معالمھا من ھنا فصاعدا؟
بودي أن أصدقھم فقط على أساس أنھم يتوجسون خيفة من كل إيديولوجيا بالية أو طوباوية
أو متكلسة أو ماضوية، وعلى أساس أنھم في الأثناء قد يكونون في طور ترصّدٍ لِما قل ودلّ
من الأفكار والمشاعر التي قد تتطور في شكل توجھٍ عام يبشر بميلاد إيديولوجيا عربية
متسقة مع اتجاه التاريخ. بودي أن أصدقھم لأني أؤمن أنھ لا يمكن لأي شعب أن ينھض بلا
إيديولوجيا. وھل يمكن أن ينجح درس بلا تصميم؟ وھل ت كُسب مباراة رياضية بلا خطة،
ناھيك الدرس الأكبر والمباراة النھائية، التي ستحدد مصير الشعب العربي؟
لكن المشھد الفكري التونسي و العربي يحثني على أن لا أصدق ھؤلاء الفاعلين السياسيين
والإعلاميين، قدامى ومخضرمين ومعاصرين. لا أصدق توجھھم القائل بإلغاء الإيديولوجيا
كمبدأ للبقاء. وكيف أصدقھم بينما منھم من يرفض اعتبار التنظير لإيديولوجيا النھوض مادة
إعلامية فيحسبھا على "خصم" إيديولوجي لھ، أو "شق" لا يتسق مع شقھ، والحال أن التنظير المطلوب استكمالھ من المفترض أن يكون أشمل وأعم وأعمق من التنظير الذي ھُ م
متعودون عليھ والذي ما يزال مولدا للخصام وللشقاق؟ كيف أصدقھم والحال أن ھّم يرفضون
أن يقحم المجتمع "الروح العليا" (التسمية مقتبسة من عند رلف ولدو امرسن) في تقرير
مصيره، بما يعيد تشكيل ما يسمى باليمين وباليسار في السياسة؟ كيف أصدقھم بينما حتى
العقلاء منھم يعترفون بأن "(بينھم) وبين السلفيين مرجعيات مختلفة، تبين الشرخ (...).
وھو أعمق وأخطر من الفارق الھزيل بين ما يسمى (...) بيسار ويمين" (مقال حامد
2012 ص 9) وفي -1- الزغل"إلى قادة الأحزاب الحداثية"، جريدة "المغرب" بتاريخ 3
نفس الوقت يُبينون بكلامھم ھذا أنھم غارقين في الفرز وبالتالي غير قادرين على سلك سبيل
الوسط: الوسطية التأليفية؟
17
بھذا المعنى أتساءل أين المؤمن الأصلي، المسلم الحداثي الذي لا تجره إليھا لا الإسلاموية
ولا الحداثوية؟ فالإسلام اليوم محاصر داخليا من طرف فئتين: أطياف الإسلام السياسي
التي اخترقھا الاستشراق والاستعراب، ومن جھة أخرى ھؤلاء الذين يواجھون الإسلامويين
بغير بديل فكري يلغي سبب وجودھم كظاھرة زائلة. والإسلام محاصر خارجيا، بسبب
حصاره داخليا، وھذه المرة من طرف قوى الھيمنة العالمية والاستقواء الفاعلة في داخل
العالم العربي بالذات، ممّ ا جعل المسلمين عرضة للتبشير الجامع بين التنصير والإيديولوجيا
السياسية العالمية المھيمنة، والذي مسيحيو العرب منھ براء.
إذن كفانا نفاقا اضطراريا إزاء أنفسنا وأخلاقنا ومبادئنا وديننا، ولنشرع كعرب مؤمنين
مجددين، في الاضطلاع بم نَ نحن في جوھرنا. ولنعترف أن نّا حزانى بمجرد إدراك أننا
منتمون إلى أمة "اقرأ" ومع ھذا عاجزون حتى عن قراءة ما ھو في داخل أنفسنا. ولنعمل
على أن نعالج ھذا العجز كي نشرع في تصور السياسة الكبرى، التي ستكون شريعتنا، وفي
ر سَم أھدافھا وإعداد الوسائل لھا. سنكون حينئذ، تونسيين ومصريين وليبيين، وكلنا، سعداء
بإدراج عبارةٍ في الدستور تنبأ بأن المجتمع العربي طائر مُح لَق فوق العالم بدافع نشر مبادئ
ثورتھ في الأرض كافة.
*******
ھكذا يُصد المخطط الإسلاموي ويُبنى البديل
الذي يقع الركوب عليھ في تونس (وفي الوطن العربي) الآن ركوبان: واحد ولااع وواحد
واع . الأول يقع على الثورة من طرف الإسلام السياسي المحلي والعربي بكل أطيافھ. أمّ ا
الثاني فيقع من طرف قوى الشر العالمية على ما ھو أھم: المشروع العربي الإسلامي
التاريخي والمنشود للرقي والنھوض الحضاري. والركوب الثاني يَعرف ذروتھ الآن بحلول
عاھل قط رَ، حامية حمى المشروع المھر بَّ.
فالذي يحز في النفس أن الركوب الأول يخدم أجندات الركوب الثاني، ممّ ا يجعلنا نصنف
المشروع العظيم المذكور، بصفتھ مركوب عليھ، في عداد المخططات العدائية. وذلك يجعلنا
حريصين لا فقط على صد ذلك المشروع وھدمھ وإنما أيضا وعلى الأخص على استبدال
ا لمشروع المختر قَ بآخر مختل قَ.
وفي سياق الصد لا يخفى علىأ حد أن القوى التقدمية في تونس وفي الوطن العربي واعية
بالخطر، بينما ھي مخطئة في المنھاج الذي ينبغي استخدامھ. و على خلفية ما يصرح بھ
يوميا الذين ينتقدون مخطط حزب النھضة (وروافدھا) من سياسيين وإعلاميين ومفكرين
ومثقفين وغيرھم، لا يسع الملاحظ إلا أن يصاب بالذھول المُو لَد للحرمان لمّ ا يرى تعنتھم
في الھدم الخالي من البناء. بينما من المفروض، بعد كل وضع دفاعي، أن يقع تنصيب
18
البديل في الموضع الذي تم تطھيره من الأفكار والتوجھات المحسوبة على الغرابة وعلى
عدم الاتساق مع العصر.
إن مثل ھذه الطريقة في المجابھة النقدية لمخطط فضفاض معركة خاسرة. أمّ ا ما يضفي
عليھا ھذا الصفة ھو أن الناقد لا يتكلم نفس "اللغة" التي يتكلمھا منافسھ ولا يمارس نفس
"الرياضة" التي يتعاطاھا ھذا المنافس. علما وأن الدين ھو تلك اللغة وتلك "الرياضة" إن
صحت الاستعارة. فحزب النھضة ربح الأغلبية (النسبية) لأصوات الناخبين التونسيين
بفضل التخاطب إلى الجمھور بلغة الدين وبفضل ممارسة "الرياضة" التي يتقنھا ھذا
الجمھور تاريخيا وثقافيا.
على فكرة، ليست تصريحات قادة ونشطاء "النھضة"ب أن حزبھم "مدني" ھي التي ستحمل
الباحث على تغيير ھذا الرأي؛ فھُم جلبوا الأصوات بالدين كما سنرى، ثم استبدلوه
ب"المدنية". وفي ھذا الاستبدال تخلّ واضح عن البُعد الديني، ما يتطلب معالجة فورية
واستغلالا نافعا من طرف خصوم ھذا الحزب .
لنتصور، قبل ذلك، أن كلا الفريقين فريق في الرياضة. ولنتصور الفريق الأول (الناقد) في
مواجھة مع فريق ثان (المنقود) يمتاز بمھاراتھ في لعبة كرة القدم بينما الفريق المتحدي
اختار مھارات كرة اليد أو السلة أو الطائرة أو أية رياضة أخرى ليقيم ضده مباراة التحدي
الأكبر. بأي شكل سيجري "اللعب" حينئذ وھل سيتمكن أي واحد من الفريقين من جلب نقاط
الفوز لفائدتھ؟
في ھذه الحالة التي ليست فيھا الشروط متكافئة ولا الفرص متعادلة، ليس ھنالك أمل في
البت بخصوص مواجھة تكون منطقية وآيلة لنيل الرضاء المتبادل عن نتائجھا.إ ذ إن الذي
سيحدث حتما ھو أن يُداوم الفريق المتحد ىَّ في الحفاظ على تألق لا يروق لخصومھ، وأن
يستمر الفريق المتحد يِّ في دفاع عشوائي، قد يكون ناجعا في الحد من قوة المنافس وضغطھ
إلا انھ لا ينفع في تسجيل نقاط للفوز طالما أن المھارات المستعملة لا تسمح إلا بشيء واحد:
تباعد الفريقين عن بعضھما البعض بما ينذر بتصادمھما مرات متعددة أخرى، موالية
للصدمة الأولى (الانتخابات ونتائجھا) لا قدر لله.
وللأسف فبوادر التباعد الممھد للصدام حاصلة في تونس وفي بعض أماكن من الوطن
العربي والإسلامي اليوم، في مجال الصراع الفكري بين فريق الإسلاموية من جھة وفريق
الحداثوية ومشتقاتھا من جھة أخرى. مع أن "اللعبة" سھلة وقوانينھا واضحة للعموم. فما ھو
المخرج من ھذا الانسداد المنھجي والاحتباس التواصلي إذن؟
لمّ ا تكون اللعبة سھلة والقوانين واضحة لم تبق سوى طريقة تعلمھا التي قد تكون مدعاة
للمراجعة.ل كن ھذا أيضا لا يكفي، حيث إن الذي يحتاج إلى تعلم وتعليم ودربة وتدريب لا
19
بد أن تتوفر لديھ إرادة التعلم في المقام الأول. وھل الحداثيون يريدون أن يتعلموا كيف
يُخاطبون الشعب التونسي، والشعب المسلم عموما، أم أنھم مُكتف وّن بما ألف وَا عليھ آباءھم
وأجداھم من قواعد لمجابھة الخصوم في الرأي؟
فلو تعلق الأمر فقط باختلاف في الرأي بين إس م لاويين وحداثويين لحُ س م الخصام أو على
الأقل لبُش رّ المجتمع ببوادر تقدم على درب التوافق وبمؤشراتٍ دالة على الاعتلاء لإدراك
العلا. لكن لمّ ا يتعلق الأمر بالفقر في كيفية مخاطبة الشعب فھذا محسوب على كيفية استجابة
المثقفين لحاجيات الشعب في الفھم.
الشعب يريد فھم مشكلاتھ بالدين. وھذا ما أكد عليھ علماء قدامى مثل ابن خلدون، وما انكب
عليھ علماء جدد مثل بن نبي وحنفي وسروش والنيفر. ثم إنھ يريد فھمھا بالدين وحلھا بالعلم
بينما لا الإسلامويون ولا الحداثيون يُلبون ھذه الرغبة لديھ. فقط أولئك يمتازون على ھؤلاء
بتلبيةٍ عاطفية أكثر من أن تكون عقلانية للرغبة الشعبية، مما يفسر فوزھم النسبي بغالبية
الأصوات في الانتخابات، ومما ينذر أيضا بتعثرھم كلما حاولوا اقتحام نھج العقلانية، من
حكم وحوكمة وقيادة وإدارة وتصرف وغيرھا؛كما تدل عليھ كل المؤشرات. بينما ھؤلاء
(الحداثيون) آثروا النزعة العقلانية حتى خسروا على الواجھتين، العاطفية والعقلانية.
وأية عقلانية ھذه التي يستسيغھا شعب عقلھ في دينھ إن لم تكن نتيجة طبيعية لتطبيع علاقتھ
مع الدين الإسلامي، شرعة ومنھاجا؟ أية عقلانية ھذه إن لم تكن الاضطلاع بالشريعة
الإنسانية كتتويج للاضطلاع المنھجي بالإسلام؟
*******
حتى يكون أسلوب الح كُم بيداغوجيّ ا
ما من شك في أن أسلوب الحكم في تونس حاليا، إذا قارناه بدرس، سنجده غير بيداغوجي:
لا غاية ولا أھدا ف ولا وسائل ولا تمش ولا منھاج ولا تقنيات ولا مقاربة ولا تمھيد ولا
استثمار. ماذا سيفعل المعلم الذي تورط في مثل ھذا الوضع، بسبب أن لا شرعة ولا منھاج
لھ ؟ سيلجأ طبعا إلى النقل من جذاذات الدروس السابقة وتطبيقھا بلا عناء أثناء درس
سيكون حتما ضحلا.
في ھذا السياق يؤسفني أن أرى ھذه المقاربة الرديئة معمول بھا الآن، وأن أعاين جذاذات
التجمع المُنحل معتمدة الآن في الدرس التونسي.
إن أول الاستنتاجات من ھذا النقل البدائي لآليات الحكم أن الإيمان الوطني، بدء من سنة
2، 012 لا بد أن يتغذى، من بين معان أخرى عديدة، بالمعنى الذي يُسھل على الفرد
20
والمجتمع استئصال أسباب الفوضى التي آلت بنظام الحكم إلى استنساخ الغاية والأھداف،
وتقليدا لوسائل، والمحافظة على تمش استبدادي ، ومنھ إلى التلعثم والتعثر والمجازفة
بالثورة.
أمّ ا ما يلزم لتشكل الوعي بضرورة الالتزام باستئصال الرداءة فھو أولا الإيمان بالمؤامرة.
وھي مؤامرة ذاتية في المقام الأول، ولو أنھ تم استغلالھا بأنانية مفرطة وبعدائية غير
مسبوقة من طرف قوى خارجية جاھلة. وھي تحاك ضد تونس وضد العرب وضد
المسلمين وضد الإسلام نفسھ. حيث إننا نزداد كل يوم يقينا بوجود محاولة، أرجو أن تكون
يائسة وأن تبوء بالفشل الذريع، لاكتساح ضمائر لعرب والمسلمين من طرف فكر مختر قَ
من طرف الاستشراق والاستعراب.
وھذه مناسبة قد ينفع فيھا التذكير بأن رجال ونساء الجيل الأول والثاني للاستقلال في تونس
العظيمة لم يقض وا ربع قرن في الدراسة لكي تنطلي عليھم فكرة وحدة خرافية يتزعمھا
ع ر اّبون، منھم م نَ يتاجر بالمحروقات ومنھم م نَ ينوي إحراق عقولنا بالعبثيات.
إذن فالمستقبل الذي ننشده لتونس، بمشاركة كل الأجيال مجتمعة، يتميز بتخليص البلاد وكل
بلاد العالم العربي من الحصار المفروض عليھا من طرف نفسھا ومن طرف الامبريالية
بمعية مشتقاتھا الأھلية والعربية.
وإلا فلن يلوم الشعب لائمٌ على توجسھ وعلى امتعاضھ من فرص ،ٍ تبقى في نھاية المطاف
ھلامية مال م تتھيأ لھا أسباب أصيلة، للتعاون الدولي، وحتى العربي، في الإطار المأمول
لشراكة متكافئة مع الغرب و العرب، ولوحدة عربية عقلانية .
*******
"الوسطية التأليفية" كحل لأزمة التجاذب
لا زلت أذكر الكلمات النفاثة لستيفن فايدنر أخصائي الإسلاميات الألماني لمّ ا قال إن صراع
الحضارات سوف يحدث في داخل المجتمعات لا في ما بين بعضھا البعض. وذلك بين قيم
الشرق المختزلة في الإسلام وقيم الغرب المختزلة في الحداثة. ويُبرز فايدنر أھم صفة في
الصراع وھي تلك المتمثلة في أن كلا الطرفين لا يقارن الجيّد لديھ بالجيّد لدى خصمھ وإنما
يقارن الجيّد عنده بالرديء عند الخصم.
إ نھ ليُسعدني ويؤلمني في الوقت نفسھ أن ھذه حقيقة نعيشھا الآن. وھي وضعية سائدة في
تونس وفي مصر على وجھ الخصوص، وفي سائر بلدان المسلمين. يسعدني ذلك سعادة
21
الطبيب الذي يضع إصبعھ على موقع الألم. ويؤلمني أن لا أسجل عناية بمثل ھذه الموضوع
الشائك والحساس والحيوي لدى الرأي العام، لدى المواطن العادي.
لقد بلغ صراع الحضارات عندنا محطة باردو (الضاحية القريبة من العاصمة) أين تعتصم
منذ بضعة أيام آلاف الجماھير أمام مقر المجلس التأسيسي، بعضھم للاحتجاج على سير
أعمالھ، والبعض الآخر للاحتجاج على الاحتجاج، وأولئك للرد ھؤلاء.إ ن ھذه الحلقة
المفرغة التي أحاطت بقصر باردو ھي الاستقطاب أو التجاذب. وھي بكلام فايدنر صراع
الحضارات الداخلي.
إذا صر فّنا عبارات فايدنر إلى معان في سياقھا التونسي (والمصري والعربي والإسلامي)
سوف نقول إن المواطن صار يقارن إصغائھ للآذان باستماع خصمھ إلى أنغام مُطرب ھِ
المفضل، وسجوده وركوعھ أثناء الصلاة بإدمان خصمھ على مشاھدة الأفلام الإباحية في
أوقات فراغھ، و تسريحة الشعر لدى زوجتھ أو أختھ بنقاب زوجة أخيھ أو جارتھ أو طالبة
العلم بجامعة منوبة (أين يتواصل اعتصام "سلفي")، وھلم جرا.
والصورة المعاكسة جد صحيحة أيضا. وإلا فكيف يُختزل الإسلام، والثقافة الإسلامية
والتونسية بل والحضارة، في لحظة يخال فيھا ھاوي الطرب أنھ ليس أھلا بالخشوع عند
الآذان ناھيك أثناء الصلاة، ويعتقد فيھا مدمن الأفلام الإباحية أن بين الصلاة وإدمانھ بون
شاسع يلاج يز لھ تجريب الصلاة، وت حَرق فيھا منقبة جامعة منوبة كل مراحل تشكل الھوية
بنزعھا التنورة وبنسيانھا "الخامة" و "السفساري" (الرداءين التقليديين التونسيين) وبقفزھا
على الحجاب فارتدائھا النقاب للتو؟
بعدئذ ليس من الصعب أن نتصور الحل. ما من شك في أن المأمو أ ل ن يقار نِ المرءُ الجيّد
لديھ بالجيّد لدى الآخر. وھذه عقلية مفقودة الآن لكن لا يستحيل تشكلھا. فالمصلي الھاوي
للطرب موجود، والمتديّن المنجذب للإباحية وللدعارة موجود، والمتبرجة المتدينة موجودة،
والمنقبة ناقصة الأخلاق الحميدة موجودة. والمطلوب أن يقارن المصلي خشوعھ بتفاني
غيره (الذي قد يكون ملحدا) في العمل، مثلا، لا أن يقارن إيمانھ ھو بإلحاد الآخر.
والمطلوب أيضا من المتديّن المنجذب للإباحية عدم إلقائھ اللوم على م نَ لا يُصلي لكنھ ذو
أخلاق حميدة تفوق أخلاقھ ھو، إن في السر أم في الجھر أم في الاثنين معا.
ما ھي المشكلة الحائلة دون المرء ودون المقارنة الصحية إذن؟ المشكلة مشكلتان على
الأقل، وھما كالآتي:
أولا، أن لا يرى المرء نفسھ قبل أن يرى غيره، مما يجعلھ يُشخ صّ العيب الموجود عنده
وعند غيره على أنھ عيب فقط لمّ ا يكون عند غيره.
22
ثانيا، أن لا يستطيع ھذا المرء أن يرى الجي د عند غيره مادام ھو حريص على أن غيره لا
يستبطن إلا السيئ، ذلك السيئ الذي يدرأه ھو عن نفسھ.
والحل؟ لا أعتقد أن ھنالك حلان. فالأجدى بالمجتمع أن يتعلم التأليف. والتأليف ليس التوليف
أو الوفاق ( مصطلح سياسي راھن في مرحلة الانتقال الديمقراطي)، ناھيك التلفيق. التأليف
ھو ما يلي:
أولا، أن يرفض المرء أن ينقاد إلى الذي كلھ "شرقي" (إسلامي) أو كلھ "غربي" (حداثي).
ثانيا، أن لا يذعن لسلك طريق ثالث إقصائي بتمرده على الإسلامي فيھ وعلى الحداثي فيھ.
ثالثا، أن يعي بالمشكلة إلى حد إدراكھ الطريق الثالث التأليفي، وذلك باعتماده ضم الجيّد إليھ
بعد أخذه من "الإسلامي"، وضم الجيّد الآخر إليھ بعد أخذه من "الحداثي"، في ذات الحين.
إ ذ إنھ نظريا منتم للاثنين. وما لا يقبلھ المنطق والنظر أن يعتبر نفسھ لا ھذا ولا ذاك.
سياسيا يمكن القول إن ما نسميھ في تونس "الأغلبية الصامتة" ھي للأسف تلك التي تشعر
أنھا "لا ھذا لا ذاك". بينما ھي قوة المستقبل، بالمنطق وبالنظر وبكل التقويمات و المقاييس.
ولكي تكون كذلك فھي بحاجة لقوة سياسية "وسط". إنما الشرط أن تكون ھذه القوة ذات
وسطية تأليفية.
لقد جربنا الوسطية مؤخرا في تونس. وكان ذلك في إطار الانتخابات وبواسطة ما كان
يُسمى ب "الائتلاف الديمقراطي المستقل"، أو ما عرف ب"طريق السلامة"، وشعبيا
ب"ائتلاف مورو"، نسبة لرئيسھ الأستاذ عبد الفتاح مورو الشخصية الدينية والقانونية
المعروفة. ولم يفلح الائتلاف الوسطي في الحصول على أي مقعد في انتخابات المجلس
التأسيسي. رغم أن كل الملاحظين، محليين وأجانب، كانوا يعلمون توجھات مورو
الوسطية، بل وشھرتھ كوجھ سياسي قابل للمساندة وللترشيح لعديد المناصب العليا.
ن فھم من ھذا أن الواقع لا يكتفي بالتوجھات الشخصية. كما نفھم أن الواقع لا يكفيھ التوجھُ
الوسطي لأي كان، ولو كان اسمھ مورو، لتھيئة مقعد واحد لجماعتھ في المجلس. وأرجح
أن ذھبت معظم أصوات مناصري مورو أدراج الرياح، إلى أحد ق طُبَي التجاذب أو إلى
كليھما. وھذا منطقي حيث نستنتج من كل ذلك أن لا مكان لوسطيةٍ لا تكون مدعومة، بل لا
تكون مسبوقة، بالعمل التنظيري. فالوسطية مسار، لا مقال.
صحيحأ ن التونسيين يشمئزون من التنظير. وھم معذورون حقا. لكن عذرھم معھم لو كان
التنظير لغاية التنظير.ب ينما الشرط المنشود تحقيقھ لإنجاح أية تجربة وسطية، فضلا عن أن مؤسسيھا مطالبون بأن يسلكوا المنحى التأليفي، أن يدرك المجتمع أن ھنالك تنظير وتنظير.
إن التونسيين عمليون ممّ ا لا شك فيھ، لذا فالتنظير الملائم لھم ينبغي أن يكون تنظيرا للعملي
23
لا تنظيرا للنظري كما يتوجسون. وكل الناس مطالبون بأن يتشاركوا مع أصحاب التنظير
العملي فيھ. وإلا فعن أية ديمقراطية نتحدث؟
في ھذا السياق العملي، وجب التشديد على خطورة التكلس في القوة الثنائية المتجاذبة الآن
التي تح وُل دون المجتمع والتحرر من التطرف. وأعتقد أن لا يُربك ھذه القوة ويفككھا سوى
قوة أكبر منھا. والقوة الأكبر من المفترض أن تكون متكونة من صُلبھا. إنھا قوة الجيّد من
ھذا القطب مع قوة الجيّد من ذاك القطب.
لذا لا أرى مقترحا ملائما لطبيعة المشكلة ولطبيعة المجتمع، إن في تونس أم في أي بلد
عربي إسلامي آخر، غير تأسيس قوة يسارية متدينة.و قد حاولت إطلاق المفھوم وأطلقت عليھ اسم"اليسار المؤمن": "يساربا" عتبار أن ھّ المكو نّ التأليفي المستمد من الانتماء إلى
الحداثة، و"مؤمنب"ا عتبار أنھ المكو نّ التأليفي المستمد من الانتماء إلى الإسلام.
ليس اليسار المؤمن قطبا ثالثا بقدر ما ھو نابع من الرغبة في تلبية شروط بُعد ثالث، بُعد
التأليف من أجل تكوين الوسطية التأليفية. فالوسطية تبقى حبرا على ورق في حال اعتبارھا
أمرا مفروغ منھ، بدعوى انتمائھا إلى سل مّ مفاھيمنا وإلى ثقافتنا الإسلامية. إنما تتحول
الوسطية إلى حقيقة فقط لمّ ا يقع العمل من أجلھا على مراحل. ويبدو أن اليسار المؤمن
مرحلة اللحظة الراھنة الموصلة إليھا.
*******
نظام ح كُم عربي وحداثة إسلامية
ما من شك في أن ممارسة الحكم عبادة. م ثلھا في ذلك م ثل خدمة الوطن بصفة أعم وما
تشملھ من سھر على سلامة الفرد والأسرة والمجتمع. إذن يحق التثبت ھل السلطة التي
تحكم شعب تونس الآن تؤدي ھذه العبادة. بالأساس، ھل ھي تحكم؟ وما ھو السبيل لتعميم
النموذج التونسي على كل بلد عربي يختار نھج الثورة الفعلية؟
في حقيقة الأمر وتبعا لما نشھده على الساحة السياسية بمختلف مجالاتھا، والتي تتعدد بتعدد
مجالات الحياة، ليس من الصعب تسجيل نسبة عالية من الفوضى (اعتصامات، إضرابات،
تجاذبات) التي تعم قطاعات مختلفة، من شغل وصناعة وتجارة وتعليم وإعلام وأمن. وھي
فوضى تتسم بالجمود. أمّ ا صفة الجمود فيھا فتتمثل في غياب الاستطاعة على إيجاد حلول
للمشاكل المتسببة في الفوضى. إذن فھو جمود يخص مناھج وأشكال العمل السياسي قبل أن
ينعكس على المضامين.
24
إ ن لھذا الانخرام من صنف "فوضى/جمود" تداعيات عد ةّ. و من أخطر ھذه التداعيات
الاختلال في موازين القوى السياسية بالبلاد. أمّ ا الخطورة فتتمثل في أن أبَت الآلة السياسية
أن تشتغل من أجل إيجاد حلول في الإبّان للمشكلات العالقة.
في باب الوعي بنوعية الورطة المنھجية التي يعيشھا المجتمع أعتقد أن لاتاريخية القوة
السياسية الحاكمة ھي السبب الأصلي؛ سبب الأسباب كلھا. ولمّ ا نعلم أن ھذه القوة في
غالبيتھا تتسم بتوجھھا الإسلامي نلوم عليھا عدم الاتساق مع البعد الأشمل في الإسلام:
صلاحيتھ لكل مكان وزمان. وإلا فأين التزامن بين "الحدث" (المشكلة الاجتماعية وغيرھا)
وبين لحظة "أخذ القرار" من أجل إيجاد الحل ثم تطبيق الحل؟
ذلك أن السلطة الحاكمة الجديدة قد أخطأت منذ البداية لمّ ا لم ت رُ كَز اھتمامھا على استعادة
التوازن في ميزان القوى السياسية، بل آثرت جذب المجتمع بأكملھ إليھا لوحدھا. وھذا يعني
أنھا لم ت رُاع ما يھدف إليھ الإسلام ويضمنھم ن نظرة شمولية متوازنة تؤ مَّن حق الجميع في
ا لعيش في جو من الألفة والتكاتف.
ك ما يعني أن ھّا آثرت العناية بالمضمون الإسلامي لفكرة الحكم والح وَكمة إلى أن أضحينا
نص بَّح ونمسي على مواقف ھزلية في معظمھا من صنف السماح بشرب الخمر في الفنادق؛
جواز ارتداء الملابس النسائية القصيرة؛ إباحة البيكيني؛ اقتراح حوار وطني حول موضوع
النقاب. بينما كان على السلطة الحاكمة، وعليھا من ھنا فصاعدا، أن تعنى بترتيب الشكل
والمنھاج، مع الحرص على ترك المضمون الإسلامي والفكرة الإسلامية في ضمانة
المجتمع. وإلا فمآل تونس العودة إلى الاستبداد.
في ھذا السياق نعتقد أن المجتمع المدني بأسره، بجمعياتھ وبمنظماتھ وبسائر ھياكلھ، ھو
المكلف دون غيره بمجاراة المضامين الإسلامية لحياتھ وحياة أفراده. فھو المقرر لجواز
ھذه الممارسة ولعدم جواز تلك. وھو القابل للسلوك كذا والرافض لسلوك كذا. وھو المُعدل
للسلوك العام وللسلوك الشخصي. وانطلاقا من قرارات الفرد والمجتمع وكل الفاعلين في
المجال المدني يتشكل المضمون لدى السلطة الحاكمة ليكون موردا خاما موضوعا على
ذمتھا.
ھكذا من جھة يكون المجتمع سيّد نفسھ في ما ھو مُناط بعُ ھدتھ، مع التزامھ بأن يوكل إلى
السلطة السياسية الحاكمة إنجاز ما ھو من صلاحياتھا من جھتھا : التصرف في أفكار
المجتمع بواسطة منھاج يقوم بمھمة المزاوجة بين سياساتھا وبين عقلية الشعب وقيمھ
وإرادتھ والتصورات الفكرية للمجتمع الموضوعة على ذمتھا.
إذن فالذي جرى إلى حد الآن عموما، كنتيجة للتھافت على المضمون على حساب
الأسلوب، ھو فشل السلطة السياسية الحاكمة في تبرير خيارھا الإسلامي حتى جرت الرياح
25
بما لم تشتھ سفينتھا.و يبدو أن ھّ ليس ھنالك مخرج يَن اثنين من ھذه الورطة العامة الخانقة؛
إن بالمنطق الإسلامي: م"ثلما تكونوا يُو لَى عليكم" - حديث نبوي صحيح؛ وإن بمنطق
الح وَكمة المعاصرة والمتمثل في التشاركية وفي التبادلية وفي الجدلية وفي الأفقية وفي
التداولية وفي غيرھا من التقنيات والمبادئ: حكم الشعب للشعب.
*******
أية سياسة لمشروع الرقي العربي الإسلامي؟
مشروع الرقي العربي الإسلامي ليس عملية تجارية تخضع لقانون السوق السياسي حتى
يوكل أمره إلى أحزاب لا تملك من علم السياسة سوى الميكايفيلية. إنھ درس يستلزم
تخطيطا، وشرعة، ومنھاجا يتمثل في علوم أصول التدريس. والدرس يتطلب معلمين أكفاء
د يَدنھم العقلانية العلمية بينما لا يملكون من العاطفة سوى ما يوثق ربْ ط أواصرھم بالوطن
الذين سخروا أنفسھم لخدمتھ.
الاشتراكية والماركسية والشيوعية، وحتى الرأسمالية اليوم، لم تنجح في الوطن العربي
بالرغم من أنھا نماذج علمية. وھي لم تنجح لا لأنھا مستوردة من الخارج وإنما لأنھا لم تلق أمامھا وعاءً علميا ذاتيا يستقبلھا فيسمح بتحويلھا إلى منوال ذاتي. ھذه مشكلتنا بخصوص
أي الخيارات نتبع في المجال الاجتماعي والاقتصادي.
في سياق تخطي الصعاب التي تنصبھا المشكلة ما من شك في أن تونس الثورة مطالبة
بإيجاد البديل أو في أسوأ الحالات بإرساء حجر الأساس لنظام ملائم لمشروع التنمية العامة.
ولن يكون البديل مُجديا إلا إذا كان عالمي الأبعاد. فمن العبث بمكان أن يفكر المرء في
استبعاد النماذج الإيديولوجية التاريخية بط م طميمھا. بل من الضروري أن تقع إماطة اللثام
المذھبي عنھا لتأصيلھا في داخل الوعاء العلمي الذاتي. حينئذ لا مناص من استحداث
النموذج أو النماذج الصالحة لھذا الزمان ولھذا المكان.
أما طريقة صنع الوعاء العلمي الذاتي فتمر حتما بإعداد خطة تعليمية وإعلامية متكاملة
تضع الإنسان التونسي والعربي أمام مسؤوليات تواصلية قبل أن تكون خدمات إجرائية.
فالتلميذ والطالب والشاب المتابع للإعلام مسؤولون عن الإعداد نق لإاذ عالم قابع في سرداب
من الفساد الأخلاقي والروحي، لا عن إعداد العدة المادية للدخول في دوامة الربح المالي
والكسب الع يني وعبادة الوفرة.
بالنھاية من الممكن جدا الشروع العاجل في تھيئة الظروف الملائمة لبعث مثل ھذه الطريقة.
المطلوب فقط إرادة سياسية وقوة تواصلية وحوار وطني علمي. وإلا عن أية سياسة
يتحدثون؟
26
*******
من أجل دستور يكر سّ التعامل الند للند مع الخارج !
في ھاتھ الفترة الصعبة التي تمر بھا البلاد والمتسمة بالفتن وبكثرة الملل والنحل السياسية
وبغياب بارز لبيداغوجيا التسيير السياسي العام، نعتزم القيام بمبادرة استراتيجية من أھم
غاياتھا نذكر:
أ.ب ناء فكر سياسي جديد يسد المتاھة الفكرية التي تعيشھا النخب والمجتمع، ويخضرّ
الصحراء السياسية التي نھيم فيھا.
ب. تحقيق التوازن بين قوى اليمين وقوى اليسار، علما وأن الخارطة السياسية في تونس
من أتعس ما يوجد في العالم: يمين ذو مرجعية دينية لا يستنكر أبدا اقتصاد السوق
والرأسمالية المتوحشة التي كادت تذھب بالبلاد في خبر كان؛ يسار لا يعترف بالإرث
الثقافي إلا بالكلام والشعارات، ما يجعلھ قوة متعالية على الشعب؛ يمين مستقل يزيد في
الطين بلة بتبَنيھ الفكر اللبرالي والديمقراطي الموجھ بآلھة التطرف الرأسمالي؛ والكل يسبح
في عالم سريالي لا يعي حتى حقيقة ما يحصل جنوبي البلاد في الق طُر الليبي الشقيق ولا
يبالي بالمؤامرات الأجنبية التي ت حُاك بكل سلاسة وت طُبق بكل ثبات من أجل احتواء الثورة
العربية عموما وتوجيھھا نحو أھداف مكر سِّة لأھداف الأجندات الجاھزة.
وفي ما يلي بعض المبادئ والتوجھات العامة :
-ن عتقد أن لتونس عديد المشكلات الداخلية والعلل التي ينبغي أن تعالج فورا بفضل وصفات
ملائمة. مع ھذا نعتقد أيضا أن غياب الأھداف الاستراتيجية ذات البُعد العالمي عن الفكر
السياسي التونسي يكرس الأزمة الداخلية. لذا فمجابھة المشكلات الداخلية لن تنجح بغير
تصميم استراتيجي لأھداف عالمية.
- أھم غاية عالمية يتوجب على الفكر السياسي التونسي أن يتبناھا من الآن ھي مقاومة
ا لتغو لّ الامبريالي مھما كان مأتاه ومصدره.
- تونس ليست بلدا صغيرا ولا فقيرا مثلما وقع إيھام الكثير منا، بل ھي بوابة إفريقيا والعالم
العربي من الجھة المتوسطية، وھمزة وصل ذات أھمية خيالية بين الشرق والغرب والشمال
والجنوب. لذا فنرشحھا ونرشح أنفسنا، نخبا وشبابا، إلى مھمة الاضطلاع بھذا الدور الرابط
شريطة أن يكون الاضطلاع من منطلقات إيمانية وسياسية ذاتية.
- ولئن نحرص على حريتنا التي اكتسبناھا في ثورة 14 جانفي و بفضل مساھمة كافة
القوى الحية وكنتيجة لتراكمات نضالية مختلفة، الأمر الذي يدعم حرصنا على تكريس
27
سياسة ذاتية، فإننا لا نرفض الحوار البن اّء مع القوى الأجنبية التي لھا مصالح في المنطقة.
وضالتنا في ذلك التشاركية وصيانة المصالح المشتركة وقاعدة الأخذ والرد والمد والجزر
والتفاعل الجدلي.
- لسنا ضد القوى العظمى وعلى رأسھا الولايات المتحدة الأمريكية وليس من مصلحتنا
الحضارية أن نكون كذلك. إلا أننا ن عُبر عن استيائنا للسياسات الرسمية لمثل ھذه القوى،
وخاصة في تحركاتھا المسجلة في بعض البقاع بالوطن العربي الكبير ومن خلال مواقفھا
من انتفاضات شعوب عربية دون سواھا.
- كما نعتبر أنفسنا ذوي فكر عالمي بفضل ما يمتلكھ جانب لا بأس بھ من النخب في بلادنا
من تكوين لغوي وفلسفي وفكري عالمي. لذا فتعاملنا مع القوى العالمية المھيمنة تعاملٌ
يفرضھ تكويننا فضلا عن كوننا حريصين في الآن ذاتھ على إحياء ثقافتنا الذاتية وعلى
اكتساب استقلاليتنا في كافة أبعاد.
-ن عتبر شعوب البلدان العظمى صديقة لنا ولا نكن لھا أي حقد بالرغم من الويلات التي
عانتھا الشعوب العربية والإسلامية من سياسات البلدان التي تنتمي إليھا تلك الشعوب. بل
نكن لتك الشعوب مشاعر حميمة في معظم الأحيان ونقد رّ حسن تصرفھا لمّ ا تكون واعية
بالأسباب الحقيقية لقضايانا المصيرية على غرار قضايا فلسطين والعراق وأفغانستان. كما
نساند تلك الشعوب في أية محاولة لھا لتعديل مواقف حكوماتھا باتجاه احترام المجتمعات
الطموحة مثل مجتمع تونس.
- نود أن يتم تعاملنا مع القوى العظمى التي أصبحنا، ھكذا، نشترك معھا في الثقافة وفي
الحضارة عن طريق المجتمع والشعب في تلكم البلدان، وذلك بفضل وسائط الاتصال
الحديثة وكذلك اللقاءات المباشرة.
-ي أخذ الاستياء منا مأخذه لمّ ا نلاحظ أن بعض الأطراف الأجنبية توفد مبعوثيھا لا لتصغي
إلى شواغلنا ولا لتسجل حاجياتنا الحقيقية وإنما لتطبيق أجندات بلدانھم، وھي أجندات ليس
لنا فيھا ناقة ولا جمل. وفي ھذا الباب، بقدر ما نلوم على التذبذب لدى البعض من نخبنا
وعلى التبعية لدى البعض الآخر وعلى التواطىء مع الصھيونية لدى آخرين، بقدر ما نركز
لومنا على نخبنا الواعية والتي، مع ذلك، تتھاون في قرار التعبير عن ھويتھا السياسية وفي
قرار الإدلاء بدلوھا في كافة المسائل العالقة، وذلك من أجل ھذا الوطن العزيز ومن أجل
لعب دور رائد في العالم.
- ندعو كافة القوى الفكرية الحية أن تساھم في إثراء الحوار بشأن إيجاد السبل الملائمة
ل حركة تنوير وطنية وذلك في مسع ىً رام إلى الارتقاء بشأن ھذا البلد على كافة المستويات.
28
4. النضال الإعلامي
الجبالي والإعلام والبُعد الثالث
ما من شك في أن الإعلام مطالب بأن يمثل الشعب كافة، لا الحكومة وحدھا ولا الأغلبية
(النسبية) الفائزة في الانتخابات وحدھا ولا الأقلية وحدھا. لكن كيف نقيّم الخلاف الحاصل
الآن بين ممثلي الإعلام من جھة والحكومة من جھة ثانية بعد إعلان الوزير الأول عن نيتھ
في بعث "ھيئة تعديلية" للإعلام؟
أبدأ بالتذكير بأنھ ما من شك في أن الإعلام التونسي اليوم يعكس الفكر التونسي. وإن تميّز
ھذا الفكر بشيء فيتميّز بافتقاره للبعد الثالث. وھو البعد الذي من شأنھ أن يجنبھ الغلو في نقد
الأصالة باسم الحداثة، وكذلك الغلو في نقد الحداثة بدعوى الأصالة، ويمنعھ من التأليف في
منزلة تتغذى من المنزلتين.
فالإعلام التونسي في وضعھ الحالي بالغ في اجتناب" الوسطية التأليفية". لا فقط لأنھ يفتقر
2011 ) لتبرير -12- إلى المھنية، كما ذھب إليھ بعض الإعلاميين (جريدة المغرب في 27
تأخر الإعلام، وإنما إما لأنھ ليس ھنالك فكرا "معدلا" (اقتباسا من " ھيئة تعديلية") يعبر
عنھ في الصحف والمجلات وفي الإذاعة والتلفزة، وإنما لأن الھيئات الإعلامية الموجودة
تحس بِ كل فكر "معدل"، يقدم نفسھ للنشر وللبث، على أحد قطبي التجاذب الإيديولوجي.
وھنا يكمن الخطأ الذي يُسحب على الإعلام.
أما المخاوف من إعلان الحكومة عن نيتھا في تأسيس "ھيئة تعديلية" للإعلام فھي أيضا لا
تخرج عن ھذه القاعدة المختلة.إ ذ إن إمكانية حصول الخلط، من طرف قادة الرأي
الحكومي، بين مادة إعلامية (وفكرية) "معدلة" أو "معتدلة" وبين مادة مستلبة أو مغتربة
(كما لا تشتھي الحكومة بحكم ميلھا الإسلامي) وارد جدا.
فانطلاقا من ھذا المستوى، مستوى الخلط من طرف الإعلاميين وأيضا من طرف الحكومة،
يتوجب العمل على تھيئة المساحة الضرورية لتنامي ثقافة البُعد الثالث. ولله أعلم.
*******
حرية الأقلام والخط التحريري للإعلام
ليست "حرية التفكير" ھي "حرية التعبير". كما أنھ ليس ھنالك علاقة سببية بين الديمقراطية
و"حرية التفكير"، بل العلاقة قائمة بين الديمقراطية و"حرية التعبير". وإلا فسوف نقول إن
29
في تونس اليوم وفي مصر اليوم وفي ليبيا وفي العراق ، أين نسجل تقدما نسبيا تتغير نسبتھ
حسب ظروف كل بلد في إرساء حياة ديمقراطية، ھنالك ممارسة لحرية التفكير.
في الواقع ما من شك في أن ھذه البلدان تتمتع بأكثر حرية في "التعبير" لكن ھذا لا يعني أن
"تفكير" شعوبھا حر. فحرية التعبير شيء وحرية التفكير شيء آخر بالرغم من العلاقة
التكاملية بينھما.ل نر كيف يلعب الإعلام دورا سلبيا في حرمان الشعب من الارتقاء إلى
مستوياتٍ مرموقة من التفكير الحر.
ل قد حاولت التأكد من المفارقة مال ر ضَية مرارا عديدة وثبت لدي أن نوعية النص الذي
تأبى ج لُ الصحف التونسية نشره يتعلق بالضبط بكل محاولة لتجديد آليات التفكير باتجاه
التحرر. فإما أن ينشر لك مقال في صحيفةٍ ذات توجھ عروبي بعنوان أنھ يستبطن روحا
عروبية، وإما أن ينشر آخر في صحيفة ذات توجھ إسلامي بعنوان أنھ متشبع بروح
إسلامية؛ وإما أن يُقبل آخر لأن الناشر العروبي يرتئي أن في النص نقد لموقف إسلامي،
أو يُقبل آخر لأن الناشر الإسلامي يرتئي أن في النص نقد لموقف عروبي؛ أو على أن المقالة لم ترُ ق للناشر الإسلامي بدعوى أن فيھا نقد علماني لموقف ديني، أو على أن المقالة
لم ترُ ق للناشر العلماني بدعوى أنھا تحتوي على نقد ديني لموقف علماني؛ أو على أن
المقالة لم ترُ ق للناشر المتحزب بدعوى أنھا تحتوي على نقد حزبي معيّن لموقف حزب
الناشر؛ وھلم جرا.
ويعني ھذا أن لا الكاتب ولا الناشر ولا جھاز الإعلام، ولا الصحيفة ولا قراءھا، ولا
الإذاعة ولا مستمعيھا، ولا التلفزيون ولا مشاھديھ، فاھمون أن الثورة تعني تذويب مفاھيم
مثل العروبة والإسلامية والعلمانية واليمين واليسار، وغيرھا مما لم ينفع قبل الثورة، في
بعضھا البعض، ومن ثمة تشكيل مفاھيم مستحدثة تتماشى مع المسار الثوري وأھداف
الثورة.
فھل نحن في تونس قمنا بثورة لكي نحرر التعبير وفي الوقت نفسھ لكي نكبّل التفكير لكأن الثورة كانت صكا متأخر الدفع مقابل حرية تفكير تم استھلاكھا بعد بدعوى أنھا ھي التي
أدت إلى الثورة؟ ثم ھل المطلوب أن يبقى بلد عربي بلا ثورة لكي تكون صح فُھ مواكِ بة
للتجربة الفكرية التحررية؟
إن الجواب لا يتعلق بطبيعة ما يحصل في تونس أو بطبيعة المجتمعات الشقيقة التي لم تثر
على أنظمتھا. إنما يتعلق الجواب بالخلط الخطير بين حرية التعبير وحرية التفكير، وأيضا
في غياب المزاوجة بينھما. كيف ذلك؟
يقول قائل إن متطلبات سياسة النشرو الخط التحريري لكل جھاز إعلامي ھي التي تؤ ثْر
ممارسة الحجب على المادة الفكرية التي لا تتماشى معھا، وبالتالي فإن ھذه الممارسة
30
الغريبة ت حُسب على أنھا أمر عادي لا يستدعي الاستنكار. لكن في ھاتھ الحالة أتساءل: ھل
الكاتب العربي مسؤول عن تثقيف القراء بخصوص حرية التفكير وآلياتھا و في الوقت نفسھ
مسؤول عن سياسة النشر إن ثبت، كما ثبت أعلاه، أنھا لا تلبي حاجيات الفكر الحر بما فيھا
حاجيات الك تُاب والقراء؟
طبعا ليس الكاتب ولا القارئ بحاجة لمثل ھذا التحديد في حرية التعبير طالما أنھ تحديد
لحرية التفكير، حارمٌ المواھب والملكات المتعلقة بھذه الحرية من التفتق والارتقاء. إذن
فتعاملُ بعض أجھزة الإعلام مع الأقلام الحرة بھذه الطريقة ينم على ما يلي:
- أولا، على سوء تقدير لمفھوم حرية التفكير وعلى افتقار لممارستھا.
-ث انيا، على اعتدادٍ سحري وغريب مفاده أن الإعلام ھو قائد "الفكر والتفكير" بينما
الإعلام من المفترض أن يكون قائدا ل"الرأي" وذلك بشرط أن يكون الرأي آتٍ من عند
خبراء في الفكر، بناءً على أن الفكر ھو الضابط للرأي، وأيضا من عند الخبراء في القلم
وفي بيداغوجيا التواصل والتبليغ.
- ثالثا، على خلط رھيب بين حرية الإعلام، التي ھي من حق الإعلاميين والشعب، وحرية
التفكير، التي ھي عملية تربوية تستدعي طريقة ود رُبة، والتي ھي حق الجميع لكنھا ليست
من مشمولات الإعلام بل من مشمولات أصحاب القلم والفكر.
ثم إن موضوع "الإسلام" لوحده، كمادة فكرية متداخلة في الفكر العربي يستوجب صفحات
طويلة لشرحھ. فقط ندعو أجھزة الإعلام العربية إلى اعتباره مادة إعلامية وذلك بتخلصھا
من التبعية في تحديد السياسة النشرية إزاء ھذا الموضوع.إ ذ إن ما يعتبره الإعلام الغربي
المسيحي دعاية حزبية باسم الدين أو باسم الحزب السياسي إنما ھو عند العرب من
مرتكزات العقل. فتطبيق المبدأ الغربي على الإعلام العربي بات من باب المعاداة للعقل
وللفكر. وذلك لسبب بسيط:إ ن عقل العرب في دينھم. وھل يعقل حجب المادة الدينية من
الإعلام دون أن تعاق العقلانية العربية؟
بالنھاية يتأكد لدينا أن الإعلام مطالب بمجاراة الفكر الحر وبتعديل سياسات النشر والتحرير
بمقتضى ما وصل إليھ الفكر من منجزات ونتائج ومقاربات وآليات البحث عن الحقيقة تقطع
شيئا فشيئا مع الفكر الواحد والرأي الواحد، لا بمقتضى التجاذبات الإيديولوجية والحزبية
القبْ لية للثورة، أو التبعية للغرب.
4. النضال الاقتصادي
31
الثورة والإصلاح الاقتصادي
كث ر الحديث عن البرنامج الاقتصادي للأحزاب السياسية المتبارية على حلبة الانتقال
الديمقراطي. لكن في المقابل قلّ الحديث عمّن في حوزتھ برنامج اقتصادي يرقى إلى
مستوى تونس الديمقراطية التي نرغب في تشكيلھا. فھل أن جاھزية البرنامج الاقتصادي
مسألة حياة أم موت؟ أم ھيم سألة مرحلة لم يحِن بعد وقت المرور بھا، ممّ ا يجعل إثارتھا
ا لآن مسألة مر ضَية لأنھا غير متسقة مع حاجيات البلاد والعباد؟
أعتقد إجمالا أن الإصلاح لا يبدأ بالاقتصاد. إنما يبدأ الإصلاح بما يسند الاقتصاد: الفكر
الشعبي والفلسفة الشعبية. لذا عندما تبدأ آلية الإصلاح العام في الاشتغال، ستتضح معالم
الإصلاح الاقتصادي. وكل ما يتضح قبل ذلك الوقت فھو تلفيق وترقيع. وفي دينامية الثورة
والإصلاح سيفقد الاقتصاد مكانتھ المھيمنة وصفتھ المر ضَية وسيعود إلى مرتبتھ الأصلية.
وھو تابع للتربية ولإرادة الشعب المتحرر لا مُكيفا لھاتھ الإرادة. كيف ذلك؟
رأينا في ما سبق من الدراسات كيف أن السبق الذي سجلتھ الحداثة على التجديد الديني
تسبب في الانقلاب في فھم وتطبيق الدين.و قد انجر عن السبق، من جملة ما انجر عنھ، أن شعب تونس يعيش فوق طاقتھ. وھذه معاينة معروفة لدى الخاص والعام عندنا. أما الطاقة
التي يتجاوز التونسي سقفھا فھي من جھة طاقة عقلية وفكرية ومعنوية (تستوجب تأسيس
القاعدة الرمزية - البنية الفوقية- لنموذج تطبيق الإسلام الذي نقترحھ). كما أنھا من جھة
أخ رى طاقة مادية ت عُد إفرازا للخ وَ رَ الرمزي.
وھذا الجانب الحسي مرئي بالعين المجردة.أ ما ذروة الوقاحة في المشھد الذي يجسمھ أن العاطل عن العمل في بلادنا سمحت لھ الظروف بارتداء آخر صيحات الملابس و بتدخين
أفخر ماركات السجائر، وبارتياد أفخم المطاعم والنوادي الليلية. بينما الموظف من الكوادر
المتوسطة وحتى فوق المتوسطة لا يقدر على اقتناء سيارة من غير اللجوء إلى التداين لدى
البنوك. كما لا يستطيع ھذا الأخير أن ينعم بعطلة في واحدٍ من المنتجعات وفي واحد من
آلاف الفنادق التي تعدھا بلاده، د عَ عنك لو أراد أن يقضي عطلتھ خارج البلاد ولو كان ذلك
مرة كل عشرة أعوام.
أھذه ھي الحداثة؟ ما من شك في أنھا ليست حداثة. ولا ھي ما أوصى بھ الإسلام. لا حداثة
ولا إسلام. وإلا أية حداثة ھذه وأي دين ھذا، اللذين يورطان الإنسان، مسلما كان أم غير
مسلم، مدى الحياة وذلك بالح كُم عليھ عبدا للمادة؟
أما الحل فھو بسيط. والشرط إنجاز كافة الإصلاحات اللازمة. في ھذا المضمار لا بد أن
يلبي الإصلاح الغاية التالية: فرملة الجھد الإضافي المتلاشي وتوجيھ حجم الطاقة الإنسانية،
التي سيتم ادخارھا بواسطة الفرملة، نحو أھداف تحقق التوازن بين الطلب والعرض.
32
والمأمول أن لا يطالب المرء بالشيء إلا بسبب الحاجة إلى ھذا الشيء. والحاجة تبرر
الجھد. والجھد يبرر الأجر والربح الماديين.
وھذه القاعدة قد توافق الكفاف والكفاية في الإسلام. لكن فضلا عن ذلك يمكن استقراء عديد
القواعد الوضعية في ضوء الشريعة الإسلامية لكي يتحدد حد الث رَّ ىَ وسقف الث رُّيا. وبين
الحد يّن تقع المساحة التي تتشكل فيھا ھوية الشخص الثر يِ ووھوية الشخص الأقل ثراء.
كما أنھا مساحة يمكن أن يغنى فيھا الفقير ويمكن أن يفقر فيھا الغني. لكنھا مساحة لا ينبغي
أن يكتسح فيھا الغني مجال الفقير فيغنى على حسابھ. ولا ينبغي أن يتمرد فيھا الفقير على
مجال الغني. ولا يجوز أن يأكل فيھا الشغال حق نظيره الشغال بعنوان كلامت خير أ رُيد بھا
شر مثل "التجارة الحرة" أو "التجارة حلال" أوا"عمل مثل جارك وإلا حو لّ باب دارك" و
غيرھا.
والمقياس في توفير الفرص المتساوية للجميع ھو جودة العلاقة بين الجھد/العمل من جھة
والأجر المادي من جھة أخرى. وح سُن إدارة ھذه العلاقة ھو الضامن لجودتھا. والإدارة
الجيدة ليست قانونا في الاقتصاد. لو كان ذلك كذلك في المبدأ (وھو كذلك الآن في دينامية
التبعية للإيديولوجيات العالمية وفي زمن الامبريالية الاقتصادية). لكننا غادرنا ھذه
الدينامية، بالقلم على الأقلإ.ذ ن فلم تعُ د مرجعية تعُ تمد في تونس الثورة، لكان حري بنا أن
لا نأمل في النھوض. فإدارة الاقتصاد نتيجة للإدارة السليمة للوجود. والإدارة السليمة
للوجود نابعة من إرادة في النھوض. والنھوض من الآثار الطيبة التي يتركھا المسك بعروة
الدين. والنھوض أيضا نتاجٌ لإرادة الحياة. فلا مناص من أن يكون الاقتصاد مرآة تعكس
االة حايلتي ننشدھا، لا و صَفة يُتقيّدُ بھا فت كُيف الحياة حسبما يقررھا صاحب الوصفة.
ن تخلص إلى القول إن ما يلزمنا ھو إعادة ترتيب البيت كما يُقال. والبدء يكون بسبق الفكر
على العمل. بينما العمل سابق الفكر الآن. ولمّ ا يكتمل الفكر نضجھ بفضل نضج العقل
(اللغوي الديني)، يكون الفكر سابقا للفعل. وعندئذ يكون الفعل مشحونا بحداثة أصيلة. عندئذ
يُكبحُ جماح الحصان المادي ويُصفدُ عفريت اللھفة وراء الوفرة. عندئذ يستسلم سلطان
ا لاقتصاد المستبد ويولدُ راعي الاقتصاد الجديد.
*******
عن أي اقتصاد يتحدثون؟
صيحات بعضھا للإنذار وبعضھا للفزع تتعالى الواحدة تلو الأخرى منذ أسابيع. ومحورھا
إجمالا إعادة وضع الاقتصاد الوطني على السكة. لكن الملفت للانتباه بخصوص فحوى
33
النداءات أنھا في معظمھا تدير نفس الاسطوانة القديمة القب لية للثورة: تنشيط السياحة، جلب
الاستثمارات، تحديد نسبة النمو، وما إلى ذلك.
بينما مثل ھذه العبارات تنم عن غرق العقل الاقتصادي المدبر في يم من المحافظة.
والمحافظة من منظور الثورة ھي الإبقاء على نفس السياسة الاقتصادية، التابعة للرأسمالية
المتوحشة، وعلى نفس التوجھات التي تتميز بھا. وإلا فأين الجديد بإزاء الموقف من
الخوصصة مثلا، أو في ما يتعلق بدور رأس المال في الاقتصاد الب عدي للثورة، أو
بخصوص توزيع الثروات، أو في مجال إصلاح الجباية، أو في بُعد العلاقة بين الجھد
والأجر.
فبقدر ما يصاب المرء بالإحباط لِما يشاھده من تفاقم في البطالة ومن اعتصامات
وإضرابات، بقدر ما يتألم لعدم وجود أناس تفكر في مصلحة البلاد والعباد من الزاوية التي
ينبغي النظر من خلالھا في المقام الأول: الزاوية التي تعنى بالأساس بسعادة المواطن
التونسي. في ھذا السياق، ھل السعيد من يراكم رأس المال ولو كان ذلك على حساب كرامة
الشغيلة وأمانھا وصحتھا ورفاھتھا؟ ھل السعيد من يقبل بالاستغلال الفاحش وبأن يذھب
ضحية أصحاب رأس المال باسم اقتصاد الوفرة وخلق فرص العمل؟ ھل السعيد من يقبل
بسلعنة العامل، وحتى الطالب والتلميذ، بعنوان تنظيم العمل وانفتاح المدرسة والجامعة على
سوق الشغل؟
إن طرح مثل ھذه الأسئلة كان من المفترض أن يبدأ، وطنيا، مباشرة إثر الثورة حتى يكون
للمجموعة متسع من الوقت لإعداد تنفيذ البرامج التي قد تتولد من الطرح والمناظرة
والحوار. فھل من تدارك الآن؟
*******
عقليتنا الاقتصادية خارجة عن موضوع الثورة
روى مرة الطبيب والعالم المعروف أحمد بن ميلاد رحمھ لله في برنامج تلفزي أن في زمنھ
كانت الناشئة تؤم المدرسة وفي نفس الوقت ترتاد ورشة أو دكانا أين كانوا يتعلمون حرفة
من الحرف المتعارفة آنذاك. وحتى من جيلي كانت ھذه الممارسة سارية المفعول. ولو لم
أكن من الكسالى لأصبحت بارعا في الحلاقة أو في النجارة إلى جانب تحصيلي في اللغة
والآداب الانقليزية... والمغزى من ذكر ھذه العادة القديمة أن ليست الدراسة وحدھا الضامنة
للشغل، بل يبقى التكوين المھني، الھاوي،ن وعا من صمام الأمان لمّ ا يعاضد ا لتمدرس بأن
يكون في حوزة الشاب.
34
ومن جھة أخرى كان العمل اليدوي أيضا خيارا متميزا للشباب الذي يميل إلى التعويل على
المال الموروث من الآباء، كما جاء في المثل الشعبي القائل ي"ُوفىَ مال الجد يّن وتبقى صنعة
اليدين".
لكن الأشياء أخذت منعرجا سيئا في ما بعد. وحدث ذلك منذ أن صار التكوين المھني عنوانا
لمادة مدرسية، ثم سرعان ما صار عنوانا لشعبة في التعليم يو جَھ إليھا كل من لم يفلح في
التحصيل المدرسي النظري. بل وتأسست مراكز مختصة في التكوين المھني أتساءل ما
الذي جناه المجتمع منھا وما مدى تأثيرھا الجيّد على اقتصاد البلاد.
بالعكس، كل المعطيات تدل أن منھجة العمل اليدوي على ذلك النحو بداعي خدمة الاقتصاد
انقلبت إلى نقمة حيث إن المدرسة ككل، بشعبھا المعرفية وبشعبھا الحِرفية، أضحت حبيسة
لنظام الإنتاج الصناعي العالمي المھيمن. فالطالب الذي يختص باللغة كالطالب الذي يختص
بالرياضيات أو بالھندسة أو بالاقتصاد، كلھم تحولوا من طلاب علم إلى طالبي عمل قبل
الأوان. وھاھُم اليوم معطلين عن العمل بالآلاف.
إذن قبل الحديث عن خلق فرص العمل لفائدة المعطلين عنھ في تونس الآن، أليس من
الأجدى التفكير في خلق عقلية جديدة للعمل ومنھا خلق عقلية جديدة للاقتصاد. حتى ولو أن الأمر يستدعي برمجة متوسطة وبعيدة المدى، فلا بأس، على المدى القصير، أن تتضافر
جھود نقابات الشغل واتحاد الشغل والحكومة والأحزاب السياسية وكافة المجتمع المدني لكي
تشرع في بناء مثل ھذه العقلية.
لكي لا يكون الناشئة والباحثون عن عمل مطبوعين بالسيئ في الواقع الحاضر، أرشح
أجھزة الإعلام، المسموعة والمرئية على الأخص، كوسيلة مُجدية لتنمية الوعي بھذه
المشكلة الدقيقة، لو التزمت من الآن بتثقيف المواطنين حول لزوم رؤية المستقبل بأكثر
تفاؤل. كما أن للمدرسة اليوم مسؤولية كبرى في استئصال المخاوف من المستقبل وفي
زرع بذور التفاؤل البن اّء لدى المتعلمين. ولا ننسى دور المسجد في إنقاذ المؤمنين وغير
المؤمنين والناس أجمعين من مثل ھذه الأزمة الخانقة.
5. النضال التربوي والتعليمي
مدخل لإصلاح التربية والتعليم
35
ت عد تونس من البلدان العربية الأكثر حداثة. وبقدر ما كان ھذا إيجابيا بقدر ما تسبب في
العديد من المشاكل أھمھا مشكلة مكانة الثنائي الجبّار، الدين واللغة، في المجتمع، ومشكلة
ا لتواصل بصفة أعم .
وفي تقديرنا يمكن تشخيص المشكلة العامة إجمالا بالقول إن الحداثة سبقت الفكر والفكر
السياسي لأن ھّ من جھة لم يتم تجديد التناول الديني في التربية وفي المجتمع. كما أن الحداثة،
من جھة أخرى، لم تكن لتتحول إلى نقمة لو ل مَ يتأزم العقل اللغوي للإنسان التونسي
(والعربي) بالتوازي مع العقل الديني، ولو ل مَ تتأخر اللغة العربية عن المراتب التي كانت
تحظى بھا في العصر الذھبي للحضارة العربية الإسلامية.
وھذه المشكلة ذات البعدين،ا لمترابطين في الأصل كما بين اّ ذلك في عديد الدراسات، لھا
خصوصية خطيرة. إنھات نتج ل و حدھا عشرات المشكلات الأخرى التي تحرم الذكاء
التونسي، والعربي، من توليد الحداثة أولا ثم من التعبير عنھا بأقصى إمكانياتھ وفي أسرع
الأوقات. فالمشكلة تتوجب إذن تدخلا إصلاحيا سريعا في المجالات الموصولة، ومن باب
أولى في مجال التربية والتعليم.
إن ھذا اقلطاع حساس إلى أبعد الحدود. ومكانتھ المركزية في أية خطة عامة للإصلاح تعود
بالأساس إلى كونھ يشترك مع قطاعات أخرى في تحديد الھوية الدينية والھوية اللغوية
للمجتمع من جھة، وفي إطلاق العنان للشخصية لتشرع في الاضطلاع بنفسھا .
في باب الدين، ونظرا لِما للعبادات وللفكر الديني من تأثير على المعاملات، وھي ممارسة
الحداثة، المطلوب التشارك بين مختلف القطاعات الموصولة، لتصحيح النظرة إلى الدين.
وعندما يتح وَل الدين في ذھنية الناشئة من عامل تواكل واستسلام إلى عامل نھوض ورقي
وسلام، حينئذ تتمكن المدرسة من أداء دورھا على أفضل حال.
و ب مِا أن الفضاء المدرسي يتداخل فيھ التعليم الديني مع التعليم الدنيوي، فالمنشود إنجازه
تثوير المنھجيات وتثوير البرامج العامة والمناھجا لمُفصَلة. وما من شك في أن مثل ھذا
الإنجاز لا يتعلق بمادة التربية الدينية فحسب وإنما بكل المواد التي تبرز فيھا حاجة طبيعية
لتوليف العقل الديني الإنساني مع العقل العلمي.
كماأ ن التربية والتعليم قطاع تلعب فيھ اللغة، إلى جانب الفكر الديني، دورا مركزيا. لذا
يتوجب تركيز اھتمما مُعادل على إصلاح تعليم اللغات. ويتمثل ذلك بالخصوص في تدعيم
تعليم اللغات الأجنبية مع توصيف مدقق للمنھجيات التي ينبغي إتباعھا لتحقيق الارتياح
والانفتاح: الأريحية في تقبل اللغة الأجنبية بلا مركبات؛ والانفتاح على العالم بأسره، مع
التأصيل في الثقافة النسبية وإعادة ترويجھا وضخھا في الثقافة العالمية.
36
وبطبيعة الحال سيكون الإسھام في الثقافة العالمية بواسطة مختلف اللغات التي في حوزة
المتعلم التونسي، والعربي، وعلى رأسھا العربية. طالما أن تعليم اللغة العربية، سوف ينتفع،
وبصفة طبيعية، من دعم اللغات الأجنبية. وذلك تبعا لخطط على غرار تلك التي أطلقناھا
:"التعريب العكسي"، وھو استخدام العقل اللغوي الذي ترب ى على صرامة اللغات الأجنبية
لتحويل الذكاء من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
وليست المدرسة فضاء يختلط فيھ الديني واللغوي فقط ليخدمان المعرفي والعلمي بل إن الثنائي الجبّار يتحول أيضا إلى أداة لتصحيح التواصل، سواءً كان معرفيا أم فنيا أم علميا أم
تربويا أم اجتماعيا.
*******
من لغة التشرذم إلى لغة التعميم بفضل إصلاح التعليم
ت عد تونس من البلدان العربية الأكثر حداثة. وبقدر ما كان ھذا إيجابيا بقدر ما تسبب في
العديد من المشاكل أھمھا مشكلة مكانة الثنائي الجبّار، الدين واللغة، في المجتمع، ومشكلة
ا لتواصل بصفة أعم .
وفي تقديرنا يمكن تشخيص المشكلة العامة إجمالا بالقول إن الحداثة سبقت الفكر والفكر
السياسي لأن ھّ من جھة لم يتم تجديد التناول الديني في التربية وفي المجتمع. كما أن الحداثة،
من جھة أخرى، لم تكن لتتحول إلى نقمة لو ل مَ يتأزم العقل اللغوي للإنسان التونسي
(والعربي) بالتوازي مع العقل الديني، ولو ل مَ تتأخر اللغة العربية عن المراتب التي كانت
تحظى بھا في العصر الذھبي للحضارة العربية الإسلامية.
وھذه المشكلة ذات البعدين،ا لمترابطين في الأصل كما بين اّ ذلك في عديد الدراسات، لھا
خصوصية خطيرة. إنھات نتج ل و حدھا عشرات المشكلات الأخرى التي تحرم الذكاء
التونسي، والعربي، من توليد الحداثة أولا ثم من التعبير عنھا بأقصى إمكانياتھ وفي أسرع
الأوقات. فالمشكلة تتوجب إذن تدخلا إصلاحيا سريعا في المجالات الموصولة، ومن باب
أولى في مجال التربية والتعليم.
إن ھذاا لقطاع حساس إلى أبعد الحدود. ومكانتھ المركزية في أية خطة عامة للإصلاح تعود
بالأساس إلى كونھ يشترك مع قطاعات أخرى في تحديد الھوية الدينية والھوية اللغوية
للمجتمع من جھة، وفي إطلاق العنان للشخصية لتشرع في الاضطلاع بنفسھا .
في باب الدين، ونظرا لِما للعبادات وللفكر الديني من تأثير على المعاملات، وھي ممارسة
الحداثة، المطلوب التشارك بين مختلف القطاعات الموصولة، لتصحيح النظرة إلى الدين.
37
وعندما يتح وَل الدين في ذھنية الناشئة من عامل تواكل واستسلام إلى عامل نھوض ورقي
وسلام، حينئذ تتمكن المدرسة من أداء دورھا على أفضل حال.
و ب مِا أن الفضاء المدرسي يتداخل فيھ التعليم الديني مع التعليم الدنيوي، فالمنشود إنجازه
تثوير المنھجيات وتثوير البرامج العامة والمناھجا لمُفصَلة. وما من شك في أن مثل ھذا
الإنجاز لا يتعلق بمادة التربية الدينية فحسب وإنما بكل المواد التي تبرز فيھا حاجة طبيعية
لتوليف العقل الديني الإنساني مع العقل العلمي.
كماأ ن التربية والتعليم قطاع تلعب فيھ اللغة، إلى جانب الفكر الديني، دورا مركزيا. لذا
يتوجب تركيز اھتمما مُعادل على إصلاح تعليم اللغات. ويتمثل ذلك بالخصوص في تدعيم
تعليم اللغات الأجنبية مع توصيف مدقق للمنھجيات التي ينبغي إتباعھا لتحقيق الارتياح
والانفتاح: الأريحية في تقبل اللغة الأجنبية بلا مركبات؛ والانفتاح على العالم بأسره، مع
التأصيل في الثقافة النسبية وإعادة ترويجھا وضخھا في الثقافة العالمية.
وبطبيعة الحال سيكون الإسھام في الثقافة العالمية بواسطة مختلف اللغات التي في حوزة
المتعلم التونسي، والعربي، وعلى رأسھا العربية. طالما أن تعليم اللغة العربية، سوف ينتفع،
وبصفة طبيعية، من دعم اللغات الأجنبية. وذلك تبعا لخطط على غرار تلك التي أطلقناھا
:"التعريب العكسي"، وھو استخدام العقل اللغوي الذي ترب ى على صرامة اللغات الأجنبية
لتحويل الذكاء من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.
وليست المدرسة فضاء يختلط فيھ الديني واللغوي فقط ليخدمان المعرفي والعلمي بل إن الثنائي الجبّار يتحول أيضا إلى أداة لتصحيح التواصل، سواءً كان معرفيا أم فنيا أم علميا أم
تربويا أم اجتماعيا.
شاھدنا في الأشھر الأخيرة في تونس تضاربا شرسا بين عقلية "دينية" وأخرى "حداثية"
علمانية، أو بين تيار وتيار مقابل. ويتمثل الأول في حزب حركة النھضة الفائز بالأغلبية
النسبية في الانتخابات، مع أطياف دينية بَحتة منھا من تدور في فلك ھذا الحزب ومنھا من
لا تدور. ويتمثل الثاني إجمالا في سائر الأطياف غير الدينية.
ولئن اتكأ التيار "الديني" عموما على الاستحقاق السلطوي كمبرر لتعميم وجوده على واقع
تونس الجديدة بأكملھ، فإن التيار غير الديني ھو بدوره لم ينفك عن السعي إلى تعميم
مبررات وجوده على الواقع نفسھ، سواء من داخل المجلس التأسيسي أومن خارجھ. وقد أثر
ھذا التضارب وھذا الانقسام على سير فعاليات المجلس.
38
ن ستنتج مما سبق أن ھذه الحالة في عموميتھا تتسم بالتشرذم الفكري والسياسي. كما نفترض
أ ن الذي يغذيھا إنما ھو التباين بين الديني والحداثي في عقلية كلا التيارين، وأن ھذا التباين
يشكل عُ مق المشكلة: ھشاشة الخلفية العقائدية "المشتركة" بين التيارين العريضين، وأيضا
بين مختلف الأطياف، سواء تلك الممثلة في المجلس أو تلك المتفاعلة معھ من خارجھ.
ونعني بالھشاشة النقص المفضوح في الانصھار العقائدي.
إن ھذا غير مقبول منطقيا لأن الرقي الحضاري، لأي مجتمع، وبمنأى عن فكرة
الديمقراطية، يستوجب حدا محترما من الانصھار الع قَائدي. ناھيك لمّ ا يتعلق الأمر بالانتقال
الديمقراطي، وھو بالتحديد انتقال وفاقي وائتلافي، ولو أنھ يتضمن مبدأ قبول الاختلاف
والتنوع بل يشترطھما. فالانصھار مطلوب ليتحقق بفضلھ ما ترنو إليھ مختلف الأطراف
السياسية من وفاق ومن ائتلاف. أمّ ا "اختلاف الرحمة"، والاختلاف الديمقراطي التعددي
بلغة العصر، الذي نرنو إليھ كلنا، فلا يمكن الحديث عنھ وتناولھ إلا بعد تحقيق الانصھار
المبدئي.
إ ن ھذه المعاينة لعدم توفر الحد المطلوب من الانصھار المبدئي، إلى الآن، في المجتمع
العربي عموما وفي الحالة التونسية على الأخص تملي على الأطراف الم عَنية التدخل
السريع.فن حن شاھدون على مظاھر ت خُبأ صراعات كامنة لم ت حُسم بعد . وھي مظاھر تبدو
غريبة لكنھا منتظ رَة من وجھة نظر الباحث.
وتأخذنا ھذه المظاھر الدالة على فقر الانصھار، وبالتالي على التشرذم، إلى حيث يتكو نّ
الانصھار أم يتقلص من أساسھ: الفضاء التربوي و التعليمي، أين أضحينا نستمع بين الفينة
والأخرى إلى صيحات مفزعة. والنقاب أحدث صيحة حيث إنھ صار يتبوأ مكانة لم تحض بھا جدتي ولا حتى جدة جدتي. ومن أحدث الصيحات أيضا ت سُجل المدرسة والجامعة
ممارسات مثل التكفير الآلي والالتحاء العشوائي والمطالبة بالتفريق بين الجنسين في قاعات
الدروس.إ ن حدوث كل ھذا في الفضاء المدرسي والجامعي ل دَليل على تصدع جدران البيت
المعرفي. بل لقد اھتز ھذا الھرم بصفة لامس تَ منوال الزلازل والبراكين.
قبل فتح باب العلاج معل ن ة الانقسام والتشرذم ھذه، وھي المتسمة بأعراض مثل المذھبية
والانطواء على الذات والتحجر والتطرف، فلا بد من اعتبار أمر يَن اثنين:
أ ولا، أن يعي الباحث في ھذا الشأن أن العلة والأعراض ج لُھا مرتبطة وثيق الارتباط،
حببنا أم كرھنا، بالجذع الديني للثقافة. فالأمر في الأصل يعود إلى رؤى مختلفة للدين.ل كن الخطير أن ھّ اختلاف مولد للخلاف. وذلك بالرغم من أنھ ليس اختلافا في الثابت من الدين.
إذن أفترض أن يكون اختلافا في المنھج.
39
ث انيا، ما من شك في أن المؤسسة التعليمية والتربوية عموما، بما فيھا الجامعة، أفضل
فضاء ت زُر ي عھ فبذور الانصھار، وت بُن ىَ فيھ الأعمدة لبنيان الوفاق، وت شُذب فيھ، إن لم نق لُ
ت سُتأصل، جذور التجزئة.
ولنر بعدئذ كيف يمكن للدين أن يُتناول بأسلوب يصحح المنھج المُحقق للانصھار. في ھذا
السياق أعتقد أنھ أصبح من الممكن الآن ن قَل رؤيةٍ للدين إلى رؤيةٍ للعقل اللغوي. ويتم ذلك
عبر التوليد والتحويل وعبر سائر الأدوات التي يوفرھا علم الألسنيات. وأكبر فائدة يسفرُ
عنھا ھذا العمل ھي ابتكار منھج عام للتديّن العقلي، إن صح التعبير، يشمل كافة نشاطات
الإنسان.
من ھذا المنطلق يتسنى بناء منظومة تربوية وتعليمية وأكاديمية متكاملة. ويكون التكامل
على غرار تكامل الدين، لكنھ تكامل لغوي. بالتالي سيمثل تعليم اللغات في ھذه المنظومة، لا
مادة دراسة فحسب وإنما مادة ذات قيمة مضافة تتمثل في ثلاثة وظائف مستحدثة: عامل
ترابط منھجي بين العقل والدين، بالاقتراب تارة وبالابتعاد طورا ("التناظر والتطابق")؛
وعامل ترابط بين العقل و مواد العلوم كافة ؛ وعامل تواصل مع الواقع، إن في داخل
المدرسة والكلية أم خارجھما. ويمكن أن نسمي ھذا "التعميم اللغوي".
بھذا المعنى ستلعب اللغة دور المُذ وَ بّ لا"لمُرك زّ الديني" (ظاھرة التضخم الديني إحدى
جناح يَ التجاذب الإيديولوجي) فتسترد مكانتھا الأصلية كأداة تعبير طبيعية عن كل كبيرة
وصغيرة في الحياة. حيث إن كل المشكلات اللغوية التي نعيشھا اليوم، وھي عبارة على
شراذم (الازدواجية، الصراع الأزلي بين اللغة العربية والعاميات، عدم مواكبة العربية
الفصحى للعلم وللحداثة)، تنم عن تجزئة في التعبير اللغوي عن الحياة. وھي تجزئة
موازية، بالتناظر تارة وبالتطابق طورا، للتجزئة العقائدية موضوع ھذا البحث.
ھكذا نكون قد وفرنا أسباب تحقيق المبدأ القرآن م يَ "ن شاءَ فليُؤمن وم نَ شاء فليكف رُ" أين
كان ينبغي أن يتوفر في كل زمان ومكان.إ ذ لم يعُ د لم نَ يؤمن مبررا لأن يجر إليھ قسرا م نَ
لا يؤمن، ولم يعُ د لم نَ يكفر مبررا لأن يؤاخذ م نَ يؤمن على عدم استطاعة إيمانھ مواكبة
وبرسولھ، ومن يكفر آمن باللغة.ل كن كلاھماالعصر. لأن كلاھما مؤمن: م نَ يؤمن آمن با
مؤمن باللغة في بداية المطاف وفي نھايتھ. و تصبح اللغة آنذاك القاسم المشترك في توحيد
الھوية.
من ھذا المنظور سيكون التعميم اللغوي سندا لعامة الناس. إذ ستقترب الحياة المدرسية
والجامعية والأكاديمية شيئا فشيئا من الحياة العامة، ممّ ا سيدعم الوظيفة الأكبر للمدرسة
كھمزة وصل بين الفرد والمجتمع، بين الأسرة والشارع، بين التعليم والشغل، بين الذات
والحياة، بين الدنيا والدين.
40
الإصلاح اللغوي مُضاد حيوي لفيروس التطرف
لقد ح بََانا لله بنص اسمھ "القرآن". ولم يأمرنا بإعادة كتابتھ، معاذ لله. وإنما أمرنا سبحانھ
وتعالى بقراءتھ لكي نكون قادرين على كتابة نص الحياة المتدبر منھ. والذي يحصل اليوم،
من جامعة منوبة وما تسجلھ من اعتصام سلفي إلى بن قردان في جنوب البلاد، بل ومن
البحرين و اليمن إلى المغرب، يوحي لنا بأن المسلمين لكأنھم يحاولون قسرا كتابة النص
الأصلي. ألا يستحون من التحايل النابع من الجھل؟ وألا يستحي خصومھم من التحايل النابع
من الغرور العلموي؟
في سياق الإنقاذ الذاتي من ھذه الكارثة أفترض أن الانضباط اللغوي والألسني م خرج ذو
بال من أزمة الوجود ھذه، التي نعاني من مظاھرھا االسلوكية، إن دينية أم علمانية. وھو
م خرج علمي وتعليمي وتربوي وثقافي قبل أن يكون مخرجا سياسيا مباشرا. ولنر إن كان
لإصلاح التعليم معنى، سواء في الابتدائي أم في الثانوي أم في العالي، من دون أن تمتثل
السلطة الإصلاحية لمنظومةٍ مكتملة لعقل لغوي أصيل.
لننظر مثلا إلى الوضع السياسي العام في بلاد الإسلام قبل الطفرة البترولية لسنة 1973
وبعدھا (أعتبر ھذا الحدث نقطة تحول خطيرة ومركزية في مسار الدولة في بلاد
المسلمين). سنلاحظ أن الحقبة القبْ لية اتسمت ببناء الدولة الحديثة وبتشييد المؤسسات وعلى
رأسھا المؤسسة التربوية بينما اتسمت الحقبة البَعدية بتسخير الدولة المبنية على أسس
وطنية، والمؤسسة التربوية المشيّدة على أيدي مناضلين أكفاء، لأجل خدمة الاقتصاد
المعتاش في الداخل والاقتصاد الامبريالي في الخارج. تلك كانت الصيغة التي ساھم كل من
الغرب الغاضب (مِ ن "الھزيمة" النفطية) والشرق الخليجي (الغانم مؤقتا من "ھزيمة"
الغرب) في نسجھا بكل وقاحة.
إذن منذ زمن الوھم البترولي بدأت الأز ا مت العربية تنخر المجتمع، إلى أن كشر الذئب عن
أنيابھ (تونس وحدھا عرفت أزمتين اثنتين من العيار الثقيل، مرة في سنة 1978 ومرة في
سنة 1984 ). وما بدأ في الانھيار حينئذ كنتيجة مباشرة لعقيدة الوھم ليس الاقتصاد
(الليبرالي المنفلت)ا لذي استعملتھ قوى التغو لّ الداخلية والخارجية لمساومة للشعب،
صاحبِ الثروات وسلاح النفط، ولغاية تركيعھ.إ نما الذي انھار للتو ھو البناء التربوي
القبْ لي لحرب النفط وعلى رأسھ المنظومة اللغوية العامة.أمّ ا خسارة النمط الاقتصادي
المفل ف سأ رُج ئِت إلى وقت لاحق. وھا نحن شاھدون الآن في تونس ومصر وليبيا وسوريا
على التحقيق شبھ الكلي لھاتھ الخسارة.
41
لقد در سّت في بعض الثانويات في تونس وفي الخليج العربي ولم أر أداءً لغويا أتعس مما
رأيت في الثمانينات. وبحكم احتكاكي بالعديد من الزملاء الذين يُد رَسون بالمؤسسات
"العادية"، ازددت يقينا من استدامة التدھور الكلامي في التسعينات وفي الألفينات، إلى
اليوم. عدا ربما "المعاھد النموذجية" (مدارس النخبة التلمذية) في تونس أين لي تجربة
طويلة.ل كن ھذا الاستثناء دليلٌ آخر على استفحال العلة لا تنصلّا من وجودھا. حيث إن الأداء اللغوي الجيّد في مثل ھذه المؤسسات التربوية يسير اليد في اليد وبخطى حثيثة مع ھجرة الأدمغة.
وھل أقوى من ھذا برھانا على تبعية الاستطاعة اللغوية المحلية إلى الاقتصاد العالمي
الفاسد؟ أليس ھذا دليلا كافيا على تثبيت الاقتصاد الريعي في مجتمعاتنا بالتوازي مع وأد
العقل حتى لا يقاومھ وحتى لا يعي بضرورة إيجاد البديل لھ؟ لكأن التحالف الشيطاني،
المحلي والأجنبي، يقول لھؤلاء الطلبة المتميزين:ھ"ا أنتم ن جَ وَت مُ من الموت اللغوي. لكن
ھيھات، ستدفعون ثمن ذلك بدعمكم المباشر لليبرالية المتوحشة، إن في عقر دارھا أم في
دياركم أنتم بالذات."
ھكذا كانت الت رُّبة الثقافية للتونسي وللعربي عموما مھيأة لزراعة كل أصناف التحجر
والتطرف. وما التطرف الديني الذي نعيشھ اليوم باسم الحرية والانتقال الديمقراطي، إلا
الوجھ الخفي لألوان عدة من الإخفاقات، وفي مقدمتھا الإخفاق اللغوي. كما أن "السرطان
الآخر"، وھو التطرف العلماني الحداثي، جنيس للسرطان الظاھر (الديني)، بما ھو نتاج
أيضا لتلكم الإخفاقات.
إن ھذا التطرف ذا الرأسين ھو المرحلة الأخيرة والحاسمة، مرحلة حصاد ما ز رُع. وليس
الدين مسؤولا عن رداءة الحصاد بقدر ما أن المسؤول ھو غياب التجديد الديني، وغياب
الإصلاح اللغوي المفترض أن يعاضده. وليست الحداثة أيضا مسؤولة عن فساد المحصول
ب قدر ما يُعتبر غياب تأصيلھا في العقل اللغوي وفي الثقافة الوجھ الآخر للفريضة الغائبة.
ھكذا حدث الانتحار اللغوي، المُلازم للانفجار الديني. بينما في الأصل يُراد من اللغة أن
تكون السند الرئيس للتوازن الديني (والروحي) و العقلي.أما الشرط في ذلك فھو حفاظ اللغة
على استقلاليتھا عن كل إيديولوجيا.ب ينما الذي حدث ،َ كما قدمنا أنفا، أن استأثرت إيديولوجيا
الاقتصاد (العولمة) باللغةف.ا للغة بحد ذاتھا إيديولوجيا، والذي حدث لمّ ا احتو تَھا إيديولوجيا
غير لغوية أن انھارت اللغة نفسھا. وانھارت معھا المنظومة التعبدية المترابطة بھا عضويا،
بالموازاة مع العقلانية. ھكذا خسر العرب لغتھم العربية وسائر اللغات التي أوھ مَوا أنفسھم
بأنھم يتعلمونھا، وخسروا الأھلية للتعبير الإيجابي أي العقلاني عن الإسلام.
42
لھذه الأسباب أرى أن الحل اللغوي، مع أنھ يبدو سحريا، فھو واقعي وضامن للإصلاح، إن
دينيا أم عقليا، لكنھ باھض الثمن. وما على النخب السياسية الجديدة، الحاكمة والموازية
والمعارضة، في تونس وفي مصر وفي كل بلد عربي متحرر من الاستبداد، إلا أن تدرج
خطة لاسترداد ما خسره الشعب من أموال طائلة، لكي تضخھا أين كان ينبغي أن ت ضخ من
الأول، ألا وھي التربية والتعليم عموما وتعليم اللغات على وجھ الخصوص، وبعنوان
الطوارئ.
الأحرى في نھاية المطاف أن تتحلى النخب العلمية بعقيدة الانضباط اللغوي كحصانة من
كل تطرف وضمان للصرامة العقلية. والسبب أن الشعب "يريد" طفرة لغوية كي يتخلص
من اللغو المؤدي إلى التطرف والھلاك، والمجتمع بحاجة إلى كتابة النص الإنساني المتدبر
من الإسلام.
الخاتمة: الإسلام طريق السلامة
الآن وقد اختارت بلدان مثل تونس ومصر أن تكون على مشارف عھد جديد يحق التساؤل
عم إذا كانت ھذه المجتمعات، ن خُبا وشعوبا، متفقة على نمط من المعرفة وعلى منھاج علمي
ي خ وَ لّان لھا النھوض. لا أخال ذلك الوفاق ممكنا ما لم تتضح المنھجية الملائمة لتحقيقھ.
ما أعظم لله جل وعلا وما أصغر الإنسان أمام عظمتھ! ھل ھذا الإنسان قادر على فھم كل
شيء في الكون، وعلى قراءة كل ما كتب ويكتب، وعلى استخدام كل الوسائل المتاحة في
الطبيعة وفي المجتمع ولدى الإنسان نفسھ؟ طبعا لا يشك اثنان في أنھ عاجز عن الإلمام بكل
شيء. مع ھذا ترى المسلمين اليوم يتراشقونت ب ھم مثل الجھل والغباء والسذاجة وقلة
الإطلاع وضحالة المعرفة والعزوف عن القراءة.
لكن ما الحل إذا أردت أنت وفلان وعلان وأنا أن نشھد على رقي المسلمين وبلاد المسلمين
مادمنا أحياءً ا؟ ھل نستسلم للشعور بالوھن والمذلة نتيجة لتلك التھم التي نتراشق بھا جزافا
أم نسأل لله الحل الآني، ناھيك أنھ تعالى منح بلدانا مثل تونس ومصر وغيرھا فرصة لم
ير مثلھا آباؤنا ولا أجدادنا؛ فرصة الثورة على الظلم والاستبداد وما كان ينجر عنھما من
تشكيك في القدرات الذاتية، الفردية والجماعية؟
إن التعاون والتشارك والوفاق، في إنجازم شروع ما، صفات أساسية في العمل الإصلاحي.
لكن ھّا تبقى مھددة بالعُ قم وبالسلبية وبخطر التسبب في تشتيت الغاية من العمل ما لم تكن
مندرجة ضمن نسق شامل ومندمج. وھل ھنالك نموذج للشمولية وللاندماج خير من
الإسلام؟ إذن الأھم أن يحرص العقل على أن يكون كل نموذج للإصلاح والتنمية محاكاة
لنموذج الإسلام في شموليتھ واندماجھ واتساق عناصره بعضھا مع بعض. وفي ھذا السياق
تندرج النماذج التي يقترحھا "اليسار المؤمن". ولله أعلم.
43
انتھى
محمد الحمّار
في 30 جانفي 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.