عاجل/ يهم هؤولاء..وزارة التربية تعلن عن بشرى سارة..    5 ٪ زيادة في الإيرادات.. الخطوط الجوية التونسية تتألق بداية العام الحالي    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    عاجل/ استشهاد 3 أشخاص على الأقل في قصف صهيوني لمبنى تابع للصليب الأحمر في غزة..    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    القيروان: تسجيل حالات تعاني من الإسهال و القيء.. التفاصيل    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    العاصمة: وقفة احتجاجية لعدد من اصحاب "تاكسي موتور"    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر بلاغ هام للمواطنين..    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    صدور قرار يتعلق بتنظيم صيد التن الأحمر    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    عاجل/ منخفض جديد وعودة للتقلّبات الجويّة بداية من هذا التاريخ..    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    وزارة المرأة : 1780 إطارا استفادوا من الدّورات التّكوينيّة في الاسعافات الأولية    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    "ألفابت" تتجه لتجاوز تريليوني دولار بعد أرباح فاقت التوقعات    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    مهرّبون متورّطون مع أصحاب مصانع.. مليونا عجلة مطاطية في الأسواق وأرباح بالمليارات    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحديات الفكر الإسلامي المعاصر وربيع الثورات العربية : بين الموجود و المنشود
نشر في الوسط التونسية يوم 12 - 03 - 2012

إن أول شروط النجاح للتيار الإسلامي الوسطي، هي بلا شك، التوثق من وضوح الهدف، أي نشر فكر إسلامي يتميز، في الآن نفسه، باستلهام المبادئ الدينية، و الدفاع الحضاري عنها، ومحاولة تأصيلها في الفكر والمجتمع، وكذلك بالتفتح على الحضارات، في غير إفراط في الانبهار و التقليد، ولا تفريط في الإبداع والتجديد.
*باحث في الفكر الإسلامي متخرج من جامعة توبنغن/ ألمانيا
مع اندلاع شرارة الثورات العربية المباركة، وسقوط بعض رؤوس الاستبداد بفضل انتفاضة العقل و الجسد العربيين، انطلق ما يسميه البعض "الفكر الثوري" ليطرح تساؤلات مهمّة تمسّ مجالات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، و تتعلق بماضي الأمة وخاصّة بحاضرها ومستقبلها. و لا شك أنّ هذه التساؤلات ستنتج ما يمكن أن نسمّيه "النظر و التحقيق"، استنادًا إلى المدرسة الفكرية الخلدونية.(1)
و المتأمّل لسير الأحداث في بعض البلاد، التي نجحت في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، يرى، بما لا يدع مجالا للشك، توق شعوب أمتنا إلى إعادة صياغة الأشياء و التصوّرات، ونقل واقع الأمّة من الموجود إلى المنشود. واللافت في هذا الأمر أن هذا التوق إلى المراجعة و التغيير إلى الأفضل تشترك فيهما كلّ فئات المجتمع، الشيب و الشباب، النساء والرجال، الأمّيون والمتعلّمون، العمّال في المصانع والفلاحون في المزارع و كذا أهل الرأي والفكر. وهذا، حسب رأيي المتواضع، أوّل ثمرة إنجاز ديمقراطي واقعي للمواطن بمفهومه الشامل في البلدان العربية المنتفضة.
في هذا الإطار، يتنزل هذا البحث المتواضع حول أحد أهم القضايا التي تمس حاضر أمّتنا و مستقبلها، والتي أرجو أن يوليها إخواني من الباحثين ما هي جديرة به من الاهتمام، ألا وهي مسألة تحديات الفكر الإسلامي في ظل الزلزال الفكري والسياسي الذي أنتجته ثورات الربيع العربي. فقد وجد ما يُعرف اصطلاحًا "بالتيار الإسلامي" نفسه في مواجهة واقع جديد، يبرز فيه خاصّة تحدّيان رئيسيّان: أوّلهما في المجال السياسي، إذ أظهرت أولى الانتخابات الحرّة أنّ نسبة كبيرة من الشعوب العربية و الإسلامية تائقة إلى تجربة النموذج السياسي الذي يستند إلى مرجعية فكرية إسلاميّة. أمّا التحدي الآخر، فيتّصل خاصّة بالمجال الفكري الأيديولوجي، فأي فكر إسلامي تريد شعوبنا بعد ثوراتها؟ كيف السبيل لتعايش مدراس فكرية إسلامية على اختلاف رؤاها النظرية والعملية؟ ثم، والأهمّ من هذا كله، أيّ توجّه فكريّ هو الأنسب لأمّتنا لاستشراف مستقبلها و النجاح في تحقيق غاياتها في إقالة عثراتها السابقة و إنجاز طموحاتها اللاحقة؟ ليس في هذا البحث، في حقيقة الأمر، ادّعاء بامتلاك أجوبة نهائية عن هذه الأسئلة الشائكة والمهمة في آن، ولكنها أفكار وخواطر أطرحها على إخواني من القراء والباحثين، مستحثا نفسي وإياهم على مزيد من النظر و التحقيق، وراجيا الجميع ما قد يجودون به من النقد و التعليق.
الفكرالإسلامي و التحدّي السياسي:
أوصلت الثورات العربية، ومن بعدها الاختيارات الشعبية عبر الانتخاب، عددًا من الحركات الإسلامية إلى مجال الحكم، فتقلد بعض أقطابها المناصب السياسية. وقد مثل هذا الأمر تحوّلا كبيرا سواء من ميدان الدعوة الفكرية والمعارضة السياسية، كما هو الحال في تونس، أو من مجال العمل الاجتماعي و شبه السياسي، في النموذج المصري، إلى مجال أشدّ تعقيدًا واتّصالا بواقع الأمة، ألا وهو إدارة البلاد ومؤسساتها ورعاية مصالح الفرد والمجتمع في نموذج إسلامي مدني حديث في آن، والسهر على الوفاق بين مختلف مكوّناته، التي قد تبلغ أحيانًا من الاختلاف أقصاه، ومن التنافر أقساه.
فقه الحكم أو فقه الدولة:
إنّ المتأمل في هذا النوع من الفقه يخلص خاصّة إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام، تفطّن لها بعض وجوه الفكر الإسلامي المعاصر. فقد أشار راشد الغنوشي مثلا، وهو من أهمّ المهتمين بمبحث الدولة الإسلامية الحديثة، خلال دراسته للوسطية السياسية في فكر الشيخ يوسف القرضاوي، أنّ هذا الأخير"سجّل في مقدّمة كتابه (فقه الدّولة) تقصير المسلمين في هذا النّوع من الفقه فلم يعطوه حقّه من البحث والاجتهاد كما أعطوا مباحث الفقه الأخرى التي توسّعت وتضخمت خصوصًا فقه العبادات، مذكّرًا بأنّ هذا التّقصير ذاته قديم، إذ كان قد اشتكى منه ابن القيّم بسبب جمود فقهاء زمانه، حتّى أنهم اضطرّوا أمراء عصرهم أن يستحدثوا قوانين سياسيّة، بمعزل عن الشّرع، فحمّلهم تبعة انحراف الحكّام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة."(2)
و إذا تأمّلنا في بدايات القرن العشرين، التي شهدت محاولة عدد من المفكرين البحث عن سبل النّهضة، و طرح العلاقة بين التراث الإسلامي و مسألة الحداثة، نجد علي عبد الرازق يوجّه نفس النّقد في نقص الإنتاج الفكري الخاص بالمسألة السياسية عند المسلمين، في كتابه الشهير(الإسلام وأصول الحكم): "من الملاحظ البيّن في تاريخ الحركة العلميّة عند المسلمين أنّ حظّ العلوم السياسيّة فيهم بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى كان أسوأ حظّ، وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجود، فلسنا نعرف لهم مؤلّفا في السياسة ولا مترجما، ولا نعرف لهم بحثا في أنظمة الحكم وأصول السياسة، اللّهم إلّا قليلا، لا يُقام له وزن، إزاء حركتهم العلمية، في غير السياسة من الفنون."(3)
من هذا المنطلق، فإنّ أوكد الخطوات هي ضرورة اطّلاع الحركات الإسلامية النّاشئة، أو تلك التي وصلت إلى السلطة، على هذا المجال و التعمّق فيه، قبل الاهتمام بأعباء الفعل السياسي وتفاصيله. و ذلك يستلزم بالضّرورة بلورة نموذج واضح ومتكامل عن كيفيّة تصوّر الإسلام لمسألة الحكم، ومعاملة الحاكم المسلم لشعبه و النّهوض بأموره الدينية والدنيويّة. وقد يحتجّ البعض بصعوبة هذا الأمر، لاختلاف المجتمعات الإسلامية و تنوّع خصائصها السياسيّة والاجتماعية والفكريّة، غير أنّ ذلك لا ينفي ضرورة الاجتهاد في هذا الأمر. فكثير من الحركات الإسلامية في العالم العربي يتفرّع من أصل سنّي "إخواني" واحد، أو يكاد. وهي قادرة، إن توفرت الإرادة، على الاتفاق على الأسس الكبرى للأداء السياسي الإسلامي، مع مراعاة خصوصيات بلدانها الفكرية و الاجتماعية و السياسية.
النموذج النبوي:
إذا تأمّلنا في سيرة القدوة الأولى للتيار الإسلامي، رسول الله، صلى الله عليه و سلم، نجده أعظم نموذج ناجح لهذا التحوّل السلس و الذكي من مجال الدعوة إلى معترك الحكم والسياسة. لقد حرص أن يتحلى بحكمة القائد كما حلّاه الله بحلة الداعية والنبي، فانتبه إلى المصالحة بين الأوس والخزرج لأنهما مكوّنان رئيسيان من مكونات الدولة. كما أدرك أن السلم الاجتماعي و الشعور بالمساواة في الحقوق والواجبات أسّ ثابت لاستقرار أحوال الحكم والمواطنين، فبادر إلى المؤاخاة بين الأنصار و المهاجرين الذين تقاسموا المصالح الاقتصادية و الاجتماعية. وإذا جازت المقارنة بين واقع الأمة اليوم وبين الدولة التي شيدها النبي، صلى الله عليه و سلم، فيمكن أيضا استلهام سيرته مع الخصوم والأعداء السياسيين وحتى مثيري الفتن. لقد عامل اليهود بما تفرضه المبادئ الإسلامية من ضمان للحقوق و السلام والمواطنة، وتحمّل المنافقين من مثيري الفتن، و لم يلجأ للردع إلا بعد استنفاد الوسائل المتاحة، والتأكد من غدر هذه الفئات و تهديدها السافر للأمّة.
ابن تيمية:
لفت نظري، عند تتبع المسألة السياسية عند فقهاء المسلمين، اعتماد شيخ الإسلام ابن تيمية على الآية القرآنية الكريمة: [إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل] (النّساء 82). و بقطع النّظر عن قيمة هذا الوجه الفقهي الإسلامي البارز و اختلاف الناس فيه، فأني أرى نظريته جديرة بالاهتمام، إذ أقام رسالته (السياسة الشرعية) على أسين هامين: الأمانة والعدل، وقد أصاب بذلك، حسب رأيي، كبد الحقيقة. وإنّي أدعو كل حاكم مسلم, إلى التأمل في هذا المعنى، إذ يحتاج إلى إدراك كنهه كلّ من يتولى مسؤولية الحكم. إن تصوير ابن تيمية لمسألة القيادة السياسية للمسلمين يجمع بين الإيجاز و الاكتناز، فعلى الحاكم المسلم، حسب رأيه, النّظر إلى السلطة على أنها أمانة حمله إيّاها الله تعالى ثم الشعب المسلم، والإسلام يدعو أوّلا إلى حفظ الأمانات، و هو ما يمكن أن نسميه اليوم القيام بواجب الرعاية و العناية وحفظ حقوق الشعب كافة، و توفير حاجاته الدنيوية و الأخروية. ثم يأمر الإسلام كذلك برد الأمانات إلى أهلها، وهو ما يمكن ترجمته اليوم بالقبول بشروط الدولة المدنية، التي لا تجتهد فقط في حفظ الحرية و الكرامة لمواطنيها، بل تحرص أيضًا على التداول السلمي الرشيد للسلطة، و الرضا باختيار الشعب مادام مبنيا عل الحرّية والنزاهة.
والرأي عندي، أنّ السبيل الأمثل لنجاح الحركات الإسلامية الصّاعدة في النهوض بأعباء مسؤولياتها الثقيلة هي تمثّل هذه السيرة العطرة لقائد الأمة في واقعها الحالي. فلا مجال للانزلاق في أتون حروب فكرية طاحنة مع من يخالفها الرأي و التوجه، لأنها ببساطة أصبحت مسؤولة عن كل مواطن، مهما كانت اتجاهاته و قناعاته الفكرية و السياسية، له عليها، في الشّرع و القانون، حق الاتفاق والاختلاف، وعليها واجب التحمّل و الإنصاف. فغاية ما يتمناه خصوم التيار الإسلامي، من العلمانيين مثلا، هو وقوعه في جدل عقيم دائم حول أي قضية تمس الدين والسياسة، و الظهور بمظهر ايديولوجي بعيد عن واقع الحكم وإدارة الدولة. و في الآن نفسه، فإن الإسلام السياسي، ممثلا في الحركات الوسطية خاصّة، مطالب بالتحلي بخصال هامة، لا تختصّ بالمجال الأخلاقي و الاجتماعي فحسب، بل يمكن اعتبارها أيضًا دعائم رئيسية تقوم عليها أصول العمل السياسي في القرآن الكريم و السنة المطهرة و أهمّها العدل ممثّلا في قول الله تعالى: [ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى] (المائدة 8)، و الحوار مع المخالفين والتجمل بما يتطلبه من الصبر و الهدوء و السماحة، من خلال أمر الله تعالى نبيه الأكرم بقوله: [ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين] (النّحل 125)
وفي الحقيقة, فإن مدى نجاح التيار الإسلامي في هذا التحدّي العظيم، ليس مرهونا باستعراض هذه المبادئ على الناس، فتلك مهمة يسيرة يقوم بها الوعاظ و الدعاة،و إنّما يتعدى ذلك إلى قدرتها على إنزال هذه الأسس إلى واقع الناس اليومي. إنّ الحركات الإسلامية الّتي، أوصلتها إرادة الله, ثمّ تضحيات شعوبها، إلى السلطان، مدعوّة إلى كسر الحاجز النفسي، الذي أشاعه التيار العلماني خاصة، والذي سيطر على شعوبها ردحا من الزمن، ومفاده أن الإسلام والسياسة لا يلتقيان لأن الأوّل خطر على الحداثة و التقدم، كما أنّهم مدعوون في الآن نفسه إلى مقاومة الآفة الكبرى، التي يلصقها المغرضون بالإسلام وهي مسألة التطرف والإرهاب. و يبدأ ذلك بلا شك بنشر مبادئ الإسلام الحقيقيّة، الدّاعية
إلى اتباع سبيل التيسير والسلام، النّابذة للغلوّ و التشدّد، لأن الله تعالى ارتضى تلك السبيل للإنسان، لأنه خالقه و العارف بخصائصه واحتياجاته.
التحدي الفكري:
إن المتأمل في تاريخنا الإسلامي لا يجد صعوبة تذكر في تبين أثر التحديات الفكرية في تطوره و سير أحداثه. وهو في ذلك لا يشذ عن بقية المجتمعات الإنسانية، التي هي، في نهاية الأمر، نتاج لما تعرفه من التيارات الفكرية الناشئة فيها، التي تحكمها سنّة الائتلاف و الاختلاف. فقد شهد المشهد الفكري الإسلامي ظهور اتجاهات متعددة اختلفت في رؤيتها للدين والسلطة والمجتمع. والحقيقة أن المجتمعات الإسلامية في عصرنا الحاضر ما تزال تخضع لنفس قانون الاختلاف الذي وسم به الله طبيعة الأشياء والانسان. لقد كانت في البيئة الإسلامية تيارات سنية معتدلة، وتيارات إلحادية تتربص بالإسلام، و أخرى تطرفت في الغلوّ والتكفير، و صنوف شتى من الفرق النحل والمذاهب. نفس هذا التنوّع الذي يصل إلى حد التناقض ما يزال،و سيبقى، معطى دائما، يميز واقع المجتمعات الإسلامية، وعلى الحركات الإسلامية ألا تتفاجأ، بوجود هذا التحدي، بل عليها خلافا لذلك أن تجتهد في كيفية التعامل مع التيارات الفكرية الأخرى، التي قد لا يكتفي بعضها بالاستفزاز الفكري والسياسي، بل قد يتجاوز ذلك إلى الاستهداف المباشر أو تكوين خطر حقيقي على عملها الفكري و السياسي. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على النموذج التونسي، فالتوجه الإسلامي الوسطي العقلاني، الذي تحاول حركة النهضة تمثيله يواجه تيارين هامّين يشتركان، مع الأسف، في الغلوّ والتطرف، أحدهما يهاجم النموذج الإسلامي و يحاول تصويره معاديا للحداثة، و الآخر ينسب نفسه إلى التيار الديني، لكنّه يضر، من حيث يعلم أو لا يعلم، الحركة الإسلامية باتباعه سبيل التشدد الذي ينذر ببث الفتنة في المجتمع. و السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استعد التيار الفكري الإسلامي الوسطي، الذي حقق نجاحا سياسيا بعد الثورات العربية، لإدارة هذا الوضع الشائك و النهوض بأعباء السلطة في الآن نفسه؟
هذه مقاربتي الشخصية السريعة في أهم التحدّيات التي تواجه نموذج الفكر الإسلامي المعتدل، الذي يتفق الكثيرون أنه الأنسب لمجتمعاتنا الإسلامية، خاصة في مرحلة ما بعد الثورة و تكوين الدّولة:
وضوح الهدف و الوسائل:
إن أول شروط النجاح للتيار الإسلامي الوسطي، هي بلا شك، التوثق من وضوح الهدف، أي نشر فكر إسلامي يتميز، في الآن نفسه، باستلهام المبادئ الدينية، و الدفاع الحضاري عنها، ومحاولة تأصيلها في الفكر والمجتمع، وكذلك بالتفتح على الحضارات، في غير إفراط في الانبهار و التقليد، ولا تفريط في الإبداع والتجديد. و ينبغي أن يتبع هذا الهدف الواضح أيضا وضوح في الوسائل، و أهمها وسيلة الحوار الرصين و النقاش الهادئ و البناء. فلا مجال للإقصاء و لا للتجاهل. و يعج تاريخ الفكر الإسلامي بأمثلة كثيرة، تشترك في بيان حقيقة غاية في الرسوخ والوضوح، و تتمثل في أن العصور الذهبية للأمة الإسلامية صاحبها على الدوام تحاور فكري بين العلماء و المجتهدين و المفكرين، بلغ غاية من الرقي العقلي والأخلاقي، و انفتاح لمدارس الدين و الفكر، بعضها على بعض، و قبول للتعايش مع الاختلاف. أمّا عصور الفتن والتخلف الحضاري، فقد رافقها في أغلب الأحيان، الإقصاء و الغلوّ و الاستبداد بالرأي و التكفير.
و بالإضافة إلى وسيلة التحاور، تبرز وسائل أخرى، تلعب دورا رئيسا في تطور الفكر الإسلامي المنشود مثل التركيز على تربية الأجيال الناشئة على الاعتدال والعقلانية على أنهما مبدآن نابعان من الإسلام لا خارجان عنه، والاهتمام بالبحوث الفكرية الإسلامية الحديثة وتشجيع الأجيال الصاعدة على الإبداع فيها، والاستعداد المستمر للإصلاح و التغيير، ما استطاع الفكر الإسلامي إلى ذلك سبيلًا.
بين التطرف العلماني والغلوّ الديني:
يواجه الفكر الإسلامي، كما أسلفنا، تحديا متمثلا في الفكر العلماني المتطرف من جهة، لأنه يخالف المشروع الإسلامي برمته، في كل رؤاه الدينية و الفكرية، ويقتدي غالبا بالأنظمة السياسية الغربية، التي أقصت الدين عن المجتمع، أو فصلت بينهما. وعلينا الإقرار، بأن التيار الفكري الإسلامي، يجب أن يلزم نفسه, في الفكر و السياسة، أولا بعدم تجاهل الاتجاه العلماني أو إقصائه، مهما كان تطرفه، بل يجب أن يتعلم كيفية التعايش معه. ومن أهم السبل إلى المواجهة الحضارية مع التيار العلماني هي اجتهاد المشروع الفكري الإسلامي في
بيان تهافت حجة التناقض بين الإسلام و الحداثة، بتحديث أساليبه ووسائله وتصوراته بما يوافق ما يشهده العالم والمجتمع الإسلامي، من تغير و تطور دائمين، وبما لا يتناقض، في الآن نفسه، مع جوهر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير، و لا مع خصائص المجتمعات الإسلامية المختلفة.
من جهة أخرى يبرز تحد آخر، غير أنه ينبع من داخل التيار الإسلامي، لا من خارجه، وهو الذي يتّسم، خلافا للفكر الإسلامي الوسطي، بالتشدّد المفرط و الغلوّ الفكري و الذي قد يصل أحيانا إلى درجة التكفير و العنف الفكري أو السياسي. و لامناص للفكر الوسطي من التعامل مع هذا التيار أيضا، وعدم تجاهله أو إقصائه، فلن يؤدي ذلك سوى إلى مزيد من الغلو. لا بد من قبول هذا الطرف، كغيره من الأطراف، و لابد من الاستمرار في الحوار الفكري الرصين معه، كي يتبين مثلا، أن التحديات الحقيقية للمجتمعات الإسلامية لا ترتبط بحكم ارتداء المرأة للنقاب، أو تتبع السنّة الشريفة في اللباس واللّحى، ولا تفرض على الناس التديّن بالقوة، بل تتجاوز ذلك إلى القضاء على الاستبداد، و حل مشكلات التنمية، وبناء مجتمع إسلامي معتدل متماسك ومتوازن ومتفتح في آن واحد، يقوم التعايش فيه على قوة الحجة لا على حجّة القوّة. (4)
والخلاصة أنّ الفكر الإسلامي الوسطي، المعاصر لثورة الشعوب العربية الذي اثبت الواقع أنه ما يزال الأمل الأكبر لشعوب الأمة، مطالب بتجديد نفسه بما يتناسب مع مهامه السياسية و الفكرية الجديدة والوعي الكامل بالتحديات المذكورة، وسبل النجاح في التصدي لمهمة مواجهتها، للنهوض بواجباته المختلفة في الدولة و المجتمع، باستلهام الدروس من التجارب السالفة، وتحقيق النموذج الإسلامي المنشود في واقع الأمة الملموس.
الهوامش والملاحظات:
(1)هنا إشارة إلى قول ابن خلدون الشهير: "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق."
(2) راشد الغنّوشي، الوسطية السياسية في فكر القرضاوي، ،مركزالناقد ،الطّبعة الأولى 2009، ص 3.
(3) علي عبد الرّازق، (الإسلام و أصول الحكم)، الطّبعة الثالثة 1925، القاهرة، ص 22.
(4) من أهم الكتب التي اهتمت بدراسة تحديات الصحوة الإسلامية نذكر بالخصوص (التطرف الديني) و(الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف) للشيخ العلّامة يوسف القرضاوي، وفي (السياسة الشرعية) للدكتور عبد الله النفيسي، و(الحركة الإسلاميّة و مسألة التغيير) و(من تجربة الحركة الإسلامية في تونس) و(مقاربات في العلمانية و المجتمع المدني) للشيخ راشد الغنوشي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.