بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحديات الفكر الإسلامي المعاصر وربيع الثورات العربية : بين الموجود و المنشود
نشر في الوسط التونسية يوم 12 - 03 - 2012

إن أول شروط النجاح للتيار الإسلامي الوسطي، هي بلا شك، التوثق من وضوح الهدف، أي نشر فكر إسلامي يتميز، في الآن نفسه، باستلهام المبادئ الدينية، و الدفاع الحضاري عنها، ومحاولة تأصيلها في الفكر والمجتمع، وكذلك بالتفتح على الحضارات، في غير إفراط في الانبهار و التقليد، ولا تفريط في الإبداع والتجديد.
*باحث في الفكر الإسلامي متخرج من جامعة توبنغن/ ألمانيا
مع اندلاع شرارة الثورات العربية المباركة، وسقوط بعض رؤوس الاستبداد بفضل انتفاضة العقل و الجسد العربيين، انطلق ما يسميه البعض "الفكر الثوري" ليطرح تساؤلات مهمّة تمسّ مجالات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، و تتعلق بماضي الأمة وخاصّة بحاضرها ومستقبلها. و لا شك أنّ هذه التساؤلات ستنتج ما يمكن أن نسمّيه "النظر و التحقيق"، استنادًا إلى المدرسة الفكرية الخلدونية.(1)
و المتأمّل لسير الأحداث في بعض البلاد، التي نجحت في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، يرى، بما لا يدع مجالا للشك، توق شعوب أمتنا إلى إعادة صياغة الأشياء و التصوّرات، ونقل واقع الأمّة من الموجود إلى المنشود. واللافت في هذا الأمر أن هذا التوق إلى المراجعة و التغيير إلى الأفضل تشترك فيهما كلّ فئات المجتمع، الشيب و الشباب، النساء والرجال، الأمّيون والمتعلّمون، العمّال في المصانع والفلاحون في المزارع و كذا أهل الرأي والفكر. وهذا، حسب رأيي المتواضع، أوّل ثمرة إنجاز ديمقراطي واقعي للمواطن بمفهومه الشامل في البلدان العربية المنتفضة.
في هذا الإطار، يتنزل هذا البحث المتواضع حول أحد أهم القضايا التي تمس حاضر أمّتنا و مستقبلها، والتي أرجو أن يوليها إخواني من الباحثين ما هي جديرة به من الاهتمام، ألا وهي مسألة تحديات الفكر الإسلامي في ظل الزلزال الفكري والسياسي الذي أنتجته ثورات الربيع العربي. فقد وجد ما يُعرف اصطلاحًا "بالتيار الإسلامي" نفسه في مواجهة واقع جديد، يبرز فيه خاصّة تحدّيان رئيسيّان: أوّلهما في المجال السياسي، إذ أظهرت أولى الانتخابات الحرّة أنّ نسبة كبيرة من الشعوب العربية و الإسلامية تائقة إلى تجربة النموذج السياسي الذي يستند إلى مرجعية فكرية إسلاميّة. أمّا التحدي الآخر، فيتّصل خاصّة بالمجال الفكري الأيديولوجي، فأي فكر إسلامي تريد شعوبنا بعد ثوراتها؟ كيف السبيل لتعايش مدراس فكرية إسلامية على اختلاف رؤاها النظرية والعملية؟ ثم، والأهمّ من هذا كله، أيّ توجّه فكريّ هو الأنسب لأمّتنا لاستشراف مستقبلها و النجاح في تحقيق غاياتها في إقالة عثراتها السابقة و إنجاز طموحاتها اللاحقة؟ ليس في هذا البحث، في حقيقة الأمر، ادّعاء بامتلاك أجوبة نهائية عن هذه الأسئلة الشائكة والمهمة في آن، ولكنها أفكار وخواطر أطرحها على إخواني من القراء والباحثين، مستحثا نفسي وإياهم على مزيد من النظر و التحقيق، وراجيا الجميع ما قد يجودون به من النقد و التعليق.
الفكرالإسلامي و التحدّي السياسي:
أوصلت الثورات العربية، ومن بعدها الاختيارات الشعبية عبر الانتخاب، عددًا من الحركات الإسلامية إلى مجال الحكم، فتقلد بعض أقطابها المناصب السياسية. وقد مثل هذا الأمر تحوّلا كبيرا سواء من ميدان الدعوة الفكرية والمعارضة السياسية، كما هو الحال في تونس، أو من مجال العمل الاجتماعي و شبه السياسي، في النموذج المصري، إلى مجال أشدّ تعقيدًا واتّصالا بواقع الأمة، ألا وهو إدارة البلاد ومؤسساتها ورعاية مصالح الفرد والمجتمع في نموذج إسلامي مدني حديث في آن، والسهر على الوفاق بين مختلف مكوّناته، التي قد تبلغ أحيانًا من الاختلاف أقصاه، ومن التنافر أقساه.
فقه الحكم أو فقه الدولة:
إنّ المتأمل في هذا النوع من الفقه يخلص خاصّة إلى ملاحظة جديرة بالاهتمام، تفطّن لها بعض وجوه الفكر الإسلامي المعاصر. فقد أشار راشد الغنوشي مثلا، وهو من أهمّ المهتمين بمبحث الدولة الإسلامية الحديثة، خلال دراسته للوسطية السياسية في فكر الشيخ يوسف القرضاوي، أنّ هذا الأخير"سجّل في مقدّمة كتابه (فقه الدّولة) تقصير المسلمين في هذا النّوع من الفقه فلم يعطوه حقّه من البحث والاجتهاد كما أعطوا مباحث الفقه الأخرى التي توسّعت وتضخمت خصوصًا فقه العبادات، مذكّرًا بأنّ هذا التّقصير ذاته قديم، إذ كان قد اشتكى منه ابن القيّم بسبب جمود فقهاء زمانه، حتّى أنهم اضطرّوا أمراء عصرهم أن يستحدثوا قوانين سياسيّة، بمعزل عن الشّرع، فحمّلهم تبعة انحراف الحكّام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة."(2)
و إذا تأمّلنا في بدايات القرن العشرين، التي شهدت محاولة عدد من المفكرين البحث عن سبل النّهضة، و طرح العلاقة بين التراث الإسلامي و مسألة الحداثة، نجد علي عبد الرازق يوجّه نفس النّقد في نقص الإنتاج الفكري الخاص بالمسألة السياسية عند المسلمين، في كتابه الشهير(الإسلام وأصول الحكم): "من الملاحظ البيّن في تاريخ الحركة العلميّة عند المسلمين أنّ حظّ العلوم السياسيّة فيهم بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى كان أسوأ حظّ، وأنّ وجودها بينهم كان أضعف وجود، فلسنا نعرف لهم مؤلّفا في السياسة ولا مترجما، ولا نعرف لهم بحثا في أنظمة الحكم وأصول السياسة، اللّهم إلّا قليلا، لا يُقام له وزن، إزاء حركتهم العلمية، في غير السياسة من الفنون."(3)
من هذا المنطلق، فإنّ أوكد الخطوات هي ضرورة اطّلاع الحركات الإسلامية النّاشئة، أو تلك التي وصلت إلى السلطة، على هذا المجال و التعمّق فيه، قبل الاهتمام بأعباء الفعل السياسي وتفاصيله. و ذلك يستلزم بالضّرورة بلورة نموذج واضح ومتكامل عن كيفيّة تصوّر الإسلام لمسألة الحكم، ومعاملة الحاكم المسلم لشعبه و النّهوض بأموره الدينية والدنيويّة. وقد يحتجّ البعض بصعوبة هذا الأمر، لاختلاف المجتمعات الإسلامية و تنوّع خصائصها السياسيّة والاجتماعية والفكريّة، غير أنّ ذلك لا ينفي ضرورة الاجتهاد في هذا الأمر. فكثير من الحركات الإسلامية في العالم العربي يتفرّع من أصل سنّي "إخواني" واحد، أو يكاد. وهي قادرة، إن توفرت الإرادة، على الاتفاق على الأسس الكبرى للأداء السياسي الإسلامي، مع مراعاة خصوصيات بلدانها الفكرية و الاجتماعية و السياسية.
النموذج النبوي:
إذا تأمّلنا في سيرة القدوة الأولى للتيار الإسلامي، رسول الله، صلى الله عليه و سلم، نجده أعظم نموذج ناجح لهذا التحوّل السلس و الذكي من مجال الدعوة إلى معترك الحكم والسياسة. لقد حرص أن يتحلى بحكمة القائد كما حلّاه الله بحلة الداعية والنبي، فانتبه إلى المصالحة بين الأوس والخزرج لأنهما مكوّنان رئيسيان من مكونات الدولة. كما أدرك أن السلم الاجتماعي و الشعور بالمساواة في الحقوق والواجبات أسّ ثابت لاستقرار أحوال الحكم والمواطنين، فبادر إلى المؤاخاة بين الأنصار و المهاجرين الذين تقاسموا المصالح الاقتصادية و الاجتماعية. وإذا جازت المقارنة بين واقع الأمة اليوم وبين الدولة التي شيدها النبي، صلى الله عليه و سلم، فيمكن أيضا استلهام سيرته مع الخصوم والأعداء السياسيين وحتى مثيري الفتن. لقد عامل اليهود بما تفرضه المبادئ الإسلامية من ضمان للحقوق و السلام والمواطنة، وتحمّل المنافقين من مثيري الفتن، و لم يلجأ للردع إلا بعد استنفاد الوسائل المتاحة، والتأكد من غدر هذه الفئات و تهديدها السافر للأمّة.
ابن تيمية:
لفت نظري، عند تتبع المسألة السياسية عند فقهاء المسلمين، اعتماد شيخ الإسلام ابن تيمية على الآية القرآنية الكريمة: [إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل] (النّساء 82). و بقطع النّظر عن قيمة هذا الوجه الفقهي الإسلامي البارز و اختلاف الناس فيه، فأني أرى نظريته جديرة بالاهتمام، إذ أقام رسالته (السياسة الشرعية) على أسين هامين: الأمانة والعدل، وقد أصاب بذلك، حسب رأيي، كبد الحقيقة. وإنّي أدعو كل حاكم مسلم, إلى التأمل في هذا المعنى، إذ يحتاج إلى إدراك كنهه كلّ من يتولى مسؤولية الحكم. إن تصوير ابن تيمية لمسألة القيادة السياسية للمسلمين يجمع بين الإيجاز و الاكتناز، فعلى الحاكم المسلم، حسب رأيه, النّظر إلى السلطة على أنها أمانة حمله إيّاها الله تعالى ثم الشعب المسلم، والإسلام يدعو أوّلا إلى حفظ الأمانات، و هو ما يمكن أن نسميه اليوم القيام بواجب الرعاية و العناية وحفظ حقوق الشعب كافة، و توفير حاجاته الدنيوية و الأخروية. ثم يأمر الإسلام كذلك برد الأمانات إلى أهلها، وهو ما يمكن ترجمته اليوم بالقبول بشروط الدولة المدنية، التي لا تجتهد فقط في حفظ الحرية و الكرامة لمواطنيها، بل تحرص أيضًا على التداول السلمي الرشيد للسلطة، و الرضا باختيار الشعب مادام مبنيا عل الحرّية والنزاهة.
والرأي عندي، أنّ السبيل الأمثل لنجاح الحركات الإسلامية الصّاعدة في النهوض بأعباء مسؤولياتها الثقيلة هي تمثّل هذه السيرة العطرة لقائد الأمة في واقعها الحالي. فلا مجال للانزلاق في أتون حروب فكرية طاحنة مع من يخالفها الرأي و التوجه، لأنها ببساطة أصبحت مسؤولة عن كل مواطن، مهما كانت اتجاهاته و قناعاته الفكرية و السياسية، له عليها، في الشّرع و القانون، حق الاتفاق والاختلاف، وعليها واجب التحمّل و الإنصاف. فغاية ما يتمناه خصوم التيار الإسلامي، من العلمانيين مثلا، هو وقوعه في جدل عقيم دائم حول أي قضية تمس الدين والسياسة، و الظهور بمظهر ايديولوجي بعيد عن واقع الحكم وإدارة الدولة. و في الآن نفسه، فإن الإسلام السياسي، ممثلا في الحركات الوسطية خاصّة، مطالب بالتحلي بخصال هامة، لا تختصّ بالمجال الأخلاقي و الاجتماعي فحسب، بل يمكن اعتبارها أيضًا دعائم رئيسية تقوم عليها أصول العمل السياسي في القرآن الكريم و السنة المطهرة و أهمّها العدل ممثّلا في قول الله تعالى: [ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى] (المائدة 8)، و الحوار مع المخالفين والتجمل بما يتطلبه من الصبر و الهدوء و السماحة، من خلال أمر الله تعالى نبيه الأكرم بقوله: [ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين] (النّحل 125)
وفي الحقيقة, فإن مدى نجاح التيار الإسلامي في هذا التحدّي العظيم، ليس مرهونا باستعراض هذه المبادئ على الناس، فتلك مهمة يسيرة يقوم بها الوعاظ و الدعاة،و إنّما يتعدى ذلك إلى قدرتها على إنزال هذه الأسس إلى واقع الناس اليومي. إنّ الحركات الإسلامية الّتي، أوصلتها إرادة الله, ثمّ تضحيات شعوبها، إلى السلطان، مدعوّة إلى كسر الحاجز النفسي، الذي أشاعه التيار العلماني خاصة، والذي سيطر على شعوبها ردحا من الزمن، ومفاده أن الإسلام والسياسة لا يلتقيان لأن الأوّل خطر على الحداثة و التقدم، كما أنّهم مدعوون في الآن نفسه إلى مقاومة الآفة الكبرى، التي يلصقها المغرضون بالإسلام وهي مسألة التطرف والإرهاب. و يبدأ ذلك بلا شك بنشر مبادئ الإسلام الحقيقيّة، الدّاعية
إلى اتباع سبيل التيسير والسلام، النّابذة للغلوّ و التشدّد، لأن الله تعالى ارتضى تلك السبيل للإنسان، لأنه خالقه و العارف بخصائصه واحتياجاته.
التحدي الفكري:
إن المتأمل في تاريخنا الإسلامي لا يجد صعوبة تذكر في تبين أثر التحديات الفكرية في تطوره و سير أحداثه. وهو في ذلك لا يشذ عن بقية المجتمعات الإنسانية، التي هي، في نهاية الأمر، نتاج لما تعرفه من التيارات الفكرية الناشئة فيها، التي تحكمها سنّة الائتلاف و الاختلاف. فقد شهد المشهد الفكري الإسلامي ظهور اتجاهات متعددة اختلفت في رؤيتها للدين والسلطة والمجتمع. والحقيقة أن المجتمعات الإسلامية في عصرنا الحاضر ما تزال تخضع لنفس قانون الاختلاف الذي وسم به الله طبيعة الأشياء والانسان. لقد كانت في البيئة الإسلامية تيارات سنية معتدلة، وتيارات إلحادية تتربص بالإسلام، و أخرى تطرفت في الغلوّ والتكفير، و صنوف شتى من الفرق النحل والمذاهب. نفس هذا التنوّع الذي يصل إلى حد التناقض ما يزال،و سيبقى، معطى دائما، يميز واقع المجتمعات الإسلامية، وعلى الحركات الإسلامية ألا تتفاجأ، بوجود هذا التحدي، بل عليها خلافا لذلك أن تجتهد في كيفية التعامل مع التيارات الفكرية الأخرى، التي قد لا يكتفي بعضها بالاستفزاز الفكري والسياسي، بل قد يتجاوز ذلك إلى الاستهداف المباشر أو تكوين خطر حقيقي على عملها الفكري و السياسي. ينطبق هذا، على سبيل المثال، على النموذج التونسي، فالتوجه الإسلامي الوسطي العقلاني، الذي تحاول حركة النهضة تمثيله يواجه تيارين هامّين يشتركان، مع الأسف، في الغلوّ والتطرف، أحدهما يهاجم النموذج الإسلامي و يحاول تصويره معاديا للحداثة، و الآخر ينسب نفسه إلى التيار الديني، لكنّه يضر، من حيث يعلم أو لا يعلم، الحركة الإسلامية باتباعه سبيل التشدد الذي ينذر ببث الفتنة في المجتمع. و السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استعد التيار الفكري الإسلامي الوسطي، الذي حقق نجاحا سياسيا بعد الثورات العربية، لإدارة هذا الوضع الشائك و النهوض بأعباء السلطة في الآن نفسه؟
هذه مقاربتي الشخصية السريعة في أهم التحدّيات التي تواجه نموذج الفكر الإسلامي المعتدل، الذي يتفق الكثيرون أنه الأنسب لمجتمعاتنا الإسلامية، خاصة في مرحلة ما بعد الثورة و تكوين الدّولة:
وضوح الهدف و الوسائل:
إن أول شروط النجاح للتيار الإسلامي الوسطي، هي بلا شك، التوثق من وضوح الهدف، أي نشر فكر إسلامي يتميز، في الآن نفسه، باستلهام المبادئ الدينية، و الدفاع الحضاري عنها، ومحاولة تأصيلها في الفكر والمجتمع، وكذلك بالتفتح على الحضارات، في غير إفراط في الانبهار و التقليد، ولا تفريط في الإبداع والتجديد. و ينبغي أن يتبع هذا الهدف الواضح أيضا وضوح في الوسائل، و أهمها وسيلة الحوار الرصين و النقاش الهادئ و البناء. فلا مجال للإقصاء و لا للتجاهل. و يعج تاريخ الفكر الإسلامي بأمثلة كثيرة، تشترك في بيان حقيقة غاية في الرسوخ والوضوح، و تتمثل في أن العصور الذهبية للأمة الإسلامية صاحبها على الدوام تحاور فكري بين العلماء و المجتهدين و المفكرين، بلغ غاية من الرقي العقلي والأخلاقي، و انفتاح لمدارس الدين و الفكر، بعضها على بعض، و قبول للتعايش مع الاختلاف. أمّا عصور الفتن والتخلف الحضاري، فقد رافقها في أغلب الأحيان، الإقصاء و الغلوّ و الاستبداد بالرأي و التكفير.
و بالإضافة إلى وسيلة التحاور، تبرز وسائل أخرى، تلعب دورا رئيسا في تطور الفكر الإسلامي المنشود مثل التركيز على تربية الأجيال الناشئة على الاعتدال والعقلانية على أنهما مبدآن نابعان من الإسلام لا خارجان عنه، والاهتمام بالبحوث الفكرية الإسلامية الحديثة وتشجيع الأجيال الصاعدة على الإبداع فيها، والاستعداد المستمر للإصلاح و التغيير، ما استطاع الفكر الإسلامي إلى ذلك سبيلًا.
بين التطرف العلماني والغلوّ الديني:
يواجه الفكر الإسلامي، كما أسلفنا، تحديا متمثلا في الفكر العلماني المتطرف من جهة، لأنه يخالف المشروع الإسلامي برمته، في كل رؤاه الدينية و الفكرية، ويقتدي غالبا بالأنظمة السياسية الغربية، التي أقصت الدين عن المجتمع، أو فصلت بينهما. وعلينا الإقرار، بأن التيار الفكري الإسلامي، يجب أن يلزم نفسه, في الفكر و السياسة، أولا بعدم تجاهل الاتجاه العلماني أو إقصائه، مهما كان تطرفه، بل يجب أن يتعلم كيفية التعايش معه. ومن أهم السبل إلى المواجهة الحضارية مع التيار العلماني هي اجتهاد المشروع الفكري الإسلامي في
بيان تهافت حجة التناقض بين الإسلام و الحداثة، بتحديث أساليبه ووسائله وتصوراته بما يوافق ما يشهده العالم والمجتمع الإسلامي، من تغير و تطور دائمين، وبما لا يتناقض، في الآن نفسه، مع جوهر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير، و لا مع خصائص المجتمعات الإسلامية المختلفة.
من جهة أخرى يبرز تحد آخر، غير أنه ينبع من داخل التيار الإسلامي، لا من خارجه، وهو الذي يتّسم، خلافا للفكر الإسلامي الوسطي، بالتشدّد المفرط و الغلوّ الفكري و الذي قد يصل أحيانا إلى درجة التكفير و العنف الفكري أو السياسي. و لامناص للفكر الوسطي من التعامل مع هذا التيار أيضا، وعدم تجاهله أو إقصائه، فلن يؤدي ذلك سوى إلى مزيد من الغلو. لا بد من قبول هذا الطرف، كغيره من الأطراف، و لابد من الاستمرار في الحوار الفكري الرصين معه، كي يتبين مثلا، أن التحديات الحقيقية للمجتمعات الإسلامية لا ترتبط بحكم ارتداء المرأة للنقاب، أو تتبع السنّة الشريفة في اللباس واللّحى، ولا تفرض على الناس التديّن بالقوة، بل تتجاوز ذلك إلى القضاء على الاستبداد، و حل مشكلات التنمية، وبناء مجتمع إسلامي معتدل متماسك ومتوازن ومتفتح في آن واحد، يقوم التعايش فيه على قوة الحجة لا على حجّة القوّة. (4)
والخلاصة أنّ الفكر الإسلامي الوسطي، المعاصر لثورة الشعوب العربية الذي اثبت الواقع أنه ما يزال الأمل الأكبر لشعوب الأمة، مطالب بتجديد نفسه بما يتناسب مع مهامه السياسية و الفكرية الجديدة والوعي الكامل بالتحديات المذكورة، وسبل النجاح في التصدي لمهمة مواجهتها، للنهوض بواجباته المختلفة في الدولة و المجتمع، باستلهام الدروس من التجارب السالفة، وتحقيق النموذج الإسلامي المنشود في واقع الأمة الملموس.
الهوامش والملاحظات:
(1)هنا إشارة إلى قول ابن خلدون الشهير: "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق."
(2) راشد الغنّوشي، الوسطية السياسية في فكر القرضاوي، ،مركزالناقد ،الطّبعة الأولى 2009، ص 3.
(3) علي عبد الرّازق، (الإسلام و أصول الحكم)، الطّبعة الثالثة 1925، القاهرة، ص 22.
(4) من أهم الكتب التي اهتمت بدراسة تحديات الصحوة الإسلامية نذكر بالخصوص (التطرف الديني) و(الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف) للشيخ العلّامة يوسف القرضاوي، وفي (السياسة الشرعية) للدكتور عبد الله النفيسي، و(الحركة الإسلاميّة و مسألة التغيير) و(من تجربة الحركة الإسلامية في تونس) و(مقاربات في العلمانية و المجتمع المدني) للشيخ راشد الغنوشي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.