عبدالرزاق المسعودي السبت 15جوان البحر!..هذه الفتنة الأبديّة الخالدة،هذا السرّ العجيب، هذا الجبّار المترامي، هذا الكريم اللّئيم والحنون القاسي. مؤشّرات يوم حارق قائظ جعلتني أنسلّ خلسة من المنزل وأشدّ الرّحال إلى البحر منذ الصباح الباكر. بحر أميلكار. كنت أنانيّا، أردت أن أكون وحيدا، لم أكن مستعدّا لهرج العائلة ولا لِتحمّل سماجة صديق شاعر يدمّر أعصابي بشخصيّته المتكلّسة وترديده بين اللّحظة والأخرى أنّ البحر في الشتاء أفضل وأنّه مكان الشعراء المفضّل حيث التأمّل والإلهام.. لا.. كنت أريد أن أسبح،أن أسبح فقط وليذهب التأمّل والإلهام إلى الجحيم.! استقبلني البحر، كعادته دائما، بنسماته الطريّة المالحة وأجوائه اليرقيّة حيث غوغاء المصطافين المُحبّبة إلى الأذن وصوْت المدّ والجزر الذي يشتدّ حينا ويخفت حينا آخر وحيث تلك القوارب المترنّحة المبثوثة هنا وهناك .. المصطافون متكدّسون في مساحة ضيّقة صغيرة مع أنّ الشاطىء خال تماما في طرفيْه من أيٍّ كان. الكلّ يحبّذ التدافع سرّا رغم الشكوى منه جهرا والجميع يحبّ تلك الأجواء المهرجانيّة الضّحلة بما فيها من هرج ومشاحنات وصراخ.. بائع «الكاكي» الذي عهدته منذ سنوات بوجهه الأسمر الصحراويّ جلس متهالكا واضعا قفّته جانبا.. واضح أنّه من الجنوب التونسيّ. بدا منهكا وكان يُتمتم بكلمات خافتة. جذب بعض الدنانير وشرع يعدّها ثمّ أعادها إلى جيبه مُواصلا تمْتمته. أرهقته الحياة. أكيد أنّ له منزل لم يكتمل بعد وأبناء يطلبون كلّ يوم ثمن اللّمجة ومبالغ دروس الدعم وله زوجة رديئة مثل سائر الزوجات تُرهِقه بطلباتها المتكرّرة وتستقبله عند العودة بالصراخ.. غير بعيد عنّي هنالك أنثى مُربّعة الشكل تأكل بِنهم شديد، عرضها أكبر من طولها.. إلتهمت شقالة مقرونة وبطّيخا وخوخا ثمّ سحبت سندويتشا وإلتهمته ثمّ دلاّعا ثمّ اشترت كاكي ثمّ سحبت شقالة كسكسي. جاءت إلى البحر لتأكل لالتسبح.. شابّة مستلقيّة على الرّمل في deux pieces مُزدانيْن بصُوّر واحات من النخيل بجسدها العذب المرمريّ المصقول واضعة ساقها اليسرى على ركبتها اليمنى في وضعيّة استعراضيّة تُهيّج حتّى الشيوخ . كانت مُنشغلة بمطالعة كتاب بالفرنسيّة غير مكترثة بأحد مع أنّ الجميع كان مهتمّا بكلّ حركة لها. وجهها أسمر قليلا سُمرة مثيرة مُشربة باللّون الأحمر من ملوحة البحر. سمكة على حالها.. بائع الكاكي هوّ الآخر تسمّر في مكانه ولم يعد يريد أن يشتغل .. نظر في اتّجاهها نظرة زائغة تسيل رغبة ثمّ تنهّد.. تنهّد من أعماقه.. روائح الجنّة في الشباب..وأتأمّل الموج وهو يمحو صوّرا ورسائل غراميّة محفورة على الرمل فأرى في تلك الحركة حركة الزمن بكامله. الأطفال يلعبون بلُعبٍ بحريّة متنوّعة.. لُعب لاأعرف أسماءها إلى الآن.. أتذكّر طفولتي وكيف كنت أحرق القراطيس البلاستيكيّة ثمّ اُمسكها وهي تقطر سائلا ملتهبا بأصابعي وأنا لم أتجاوز السادسة بعد وأشرع في دعْكِها على هيئة كُجّة لأقوم بلطْمِها على الأرض ثمّ أُوهم نفسي بسعادةٍ ما..وأتذكّر وحْوحتي وأنا أتخبّط من الألم بسبب ذلك السائل البلاستكيّ الملتهب.. إنّها ليست طفولة بل جريمة.. أتذكّر السباحة في الغدران الضّحلة والبِرك التي تخلّفها الأمطار.. كنت أسبح عاريّا تماما مع بنت الجيران.. كنت بريئا تماما رغم ما كان يشقّني من وميض مُبهم.. وكنت أحلم بالبحر.. ولكنّ البحر، لمّا اشتغلت قبل 7 أعوام في جهة المرسى، أصبح شيئا يوميّا رتيبا لايثير الفضول ولاالدهشة.. ولذك غادرت مدينة المرسى بسرعة حتى أستعيد علاقتي به كما يلزم.