نعود كل حين وحين إلى التراث نستلهم منه قصص الحب الجميلة والرائعة والعذبة... لا يُعيدُنا إلى التراث في كُلِ مَرة .. سوى الحَنين لأيَام حُلوَة مضت وعشاق ألِفنَاهُم وأحْببنَاهُم ...ولم يَبق لنا منهم سوى ذكريات حلوة وقصص راقية وأدب خالد ...وهذه قصة أبي العتاهية مع معشوقته الجارية عتبة وهي قصة شاعر أشتهر بشعر الزهد في الادب العربي كما لم يشتهر أحد، لكن، لسنا هنا بصدد الحديث عن زهدياته، بل بصدد الحديث عن جانب آخر من جوانب حياته – ما قبل التنسك – الا وهي قصة عشقه التي ذاق منها الأمرين. وقد أوصله اليأس من هوى عتبة إلى الزهد، فصار علامة في شعر الزهاد…ومن بدائع ما قال في هجران عتبة: يا إخوتي إن الهوى قاتلي فبشروا الأكفان عاجلِ ولا تلوموا في اتباع الهوى فإنني في شُغلٍ شاغلِ وإذا كانت عتبة هي جارية الخليفة المهدي في العصر العباسي، وكان أبوالعتاهية، دميم الشكل فربما كان ذلك سببا في نفران عتبة منه، ويروى أن الخليفة قد سمع بتغزله فسجنه عقابا على إنشاده الشعر في جاريته وقد أطلق سراحه بعد أن مدح الخليفة. فمن هو أبو العتاهية؟ هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، أبو إسحاق، ولد في عين التمر سنة 130ه، ثم أنتقل إلى الكوفة... وأبو العتاهية كنية غلبت عليه لما عُرف به في شبابه من مجون ولهو. وكان أبو العتاهية في مبدأ نشأته – كسائر أهله – خزافا، يصنع الجرار ويزينها ليحصل على رزقه من بيعها. وقد أُغرم بالشعر منذ صغره ثم أشتهر به، فكان الشبان يأتون إليه ويستنشدونه شعره ويكتبونه على ما تكسر من خزفه فلما أنس في نفسه القدرة على قول الشعر الجيد ترك الكوفة ورحل إلى بغداد رغبة منه للوصول إلى الخلفاء والامراء، حتى استطاع الوصول إلى المهدي، وكان وصوله إليه عن طريق جارية من جواري الخيزران بنت عطاء أم ولد المهدي، تدعى « عتبة «. بداية قصته مع عتبة مرت عتبة بأبي العتاهية يوما مع عدة من جواريها، فاستوقفها وكلمها، فأنفت أن تتكلم أو تقف عليه، وأمرت غلمانها بتنحيته ومنذ ذلك اليوم وقعت في قلبه فكان يحتال للقائها، فحدث يوما ان خرجت بصحبة رئيس حرس القصر وكانت زوجة المهدي قد أعطته أموالا يشتري بها من سوق الرقيق من يرى من العبيد والإماء ويعتقهم لوجه الله . فانتهز أبو العتاهية الفرصة، وجاء إلى عتبة متنكرا في ثياب شيخ متنسك، فقال لها : جعلني الله فداكِ، شيخ ضعيف كبير لا يقوى على الخدمة فإن رأيتِ شرائي وعتقي فعلتِ مأجورة. فأقبلت عتبة على رئيس الحرس فقالت له : أرى هيئة جميلة، وضعفا ظاهرا ولسانا فصيحا، فاشتره وأعتقه… فأجابها … فقال لها أبو العتاهية : أتأذنين لي – أصلحك الله – في تقبيل يدك؟ فأذنت له، فقبل يدها وانصرف، فضحك رئيس الحرس والتفت إلى عتبة يقول لها : أتدرين من هذا؟ إنه أبو العتاهية، وإنما احتال عليك حتى قبل يدك. ولقد مضى أبو العتاهية في نظم الشعر مصرحا بحبه لعتبة، ومن أقواله فيها : يا عتب ما شأني وما شأنك ترفعي ستي، بسلطانك أخذتِ قلبي هكذا عنوة ثم شددتيه بأشطانك ثم تجرأ أبو العتاهية فنَّوة بحبه لعتبة في مقدمة قصائده التي يمدح بها المهدي وينشده إياها في مجلسة وهو بين حاشيته وغيرهم من الشعراء وهذه المجاهرة بحبه أمام المهدي دليل على صدق مشاعره. لكن عتبة ضاقت بذلك حتى كان يوم دخل فيها المهدي إلى جاريته الخيزران فوجد عتبة تشكو إليها ما يلحقها من ضيق وهي تبكي، فقام المهدي واستحضر أبا العتاهية، فلما حضر ووقف أمامه قال له : انت القائل في عتبة: الله بيني وبين مولاتي أبدت لي الصدَّ والملامات فمتى وصلتك حتى تشكو صدها عنك؟ ؟ فاحتال أبو العتاهية ليلهي المهدي ببعض المديح لكنه لم يفلح، فأمر المهدي بجلده، ثم أُخرج متوجعا منكسرا، فلقيته عتبة، فقال لها : بخ، بخ، يا عتب، من مثلكم قد قتل المهدي فيكم قتيل فاغرورقت عيناها، وفاض دمعها، ودخلت على الخيزران باكية، فوجدت المهدي عندها فسأل : ما لعتبة تبكي؟ فقيل له : لأنها رأت أبا العتاهية مجلودا وقال لها ما قال، فأمر له المهدي بخمسين ألف درهم، ففرقها أبو العتاهية على من بالباب، فلما علم المهدي بذلك وجه إليه من يسأله، ما حملك على أن تقسم ما أكرمتك به من مال؟ فأجاب : ما كنت لآكل ثمن من أحببت ! فوجه إليه بخمسين ألف درهم غيرها، وحلف عليه ألا يفرقها، فأخذها وانصرف. مع المهدي والرشيد ولكن أبا العتاهية استمر في أشعاره يلهج بحب عتبة، وانتهز حلول يوم نيروز، وهو يوم رأس السنة عند الفرس قبل الاسلام وكانوا يتخذونه عيدا، فلما جاء العباسيون أحيوا هذا العيد، فانتهزه أبو العتاهية، وأهدى إلى المهدي برنية صينية ثمينة وهو وعاء شبيه بالمزهرية، وكان فيها ثوب مضمخ بالمسك كتب عليه بالغالية، وهي خليط سائل من العطور، هذان البيتان : نفسي من الدنيا بشيء معلقة الله والقائم المهدي يكفيها إني لأيأس منها ثم يطمعني فيها احتقارك للدنيا وما فيها فهمَّ المهدي أن يدفع إليه عتبة هبة، فلما عرض عليها ذلك قالت له : يا أمير المؤمنين مع حرمتي وخدمتي تدفعني إلى بائع جرار يتكسب بالشعر؟ فبعث المهدي يقول له : أما عتبة فلا سبيل لك إليها، وقد أمرت لك بملء البرنية مالا. وخرجت عتبة فوجدت أبا العتاهية يجادل الكتاب في أمر هذا المال، وهو يقول : إنما أمر لي بدنانير –أي ذهب – وهم يقولون بل بدراهم – أي فضة - وقد كان أبو العتاهية من أشد الناس حرصا على المال حتى في ايام زهده، فلما رأت عتبة هذا الجدال قالت : أما لو كنت عاشقا لعتبة لما اشتغلت بتمييز ذهب الدنانير من فضة الدراهم !! ومات المهدي سنة 169ه، وتلاه أخوه الهادي على الملك ستة أشهر فقط، ثم جاء هارون الرشيد فعظمت عنده منزلة أبي العتاهية وقربه إليه في مجالسة وأسفاره لظرفه ونوادره ومدائحه. وبقي ينظم الشعر في عتبة إلى ان بلغ الرشيد يوما شعره فيها منسوبة إلى الخليفة : ألا ان ظبيا للخليفة صادني ومالي عن ظبي الخليفة من عذر فغضب الرشيد وقال: أسخر منا؟ ! فأمر بحبسة ودفعه إلى سجان فظ غليظ فبالغ في إساءته، فأرسل وهو في الحبس بيتين إلى الرشيد : إنما أنت رحمة وسلامة زادك الله غبطة وكرامة فقال الرشيد : لله أبوه، لو رأيته ما حبسته، وانما سمحت نفسي بحبسه لأنه كان غائبا عني . ثم أمر باطلاقه وعاد إلى تقريبه. فلما رأى ذلك أبو العتاهية عاود الرشيد يسأله عتبة، فوعده بتزويجها بعد ان يسألها في ذلك فإن اجابت جهزها واعطاه مالا كثيرا. فلما غدا عليه أبو العتاهية قال له الرشيد : ما قصرت في أمرك، ومسرور، وحسين، ورشيد من رجال قصري شهود لي بذلك، وشرح له الخبر. قال أبو العتاهية يحكي عن هذا الموقف : فلما أخبرني بذلك، مكثت مليا لا أدري أين أنا، قائم أو قاعد، وقلت للرشيد : الآن يا أمير المؤمنين، يئست منها إذ ردتك، وعلمت أنها لا تجيب أحدا بعدك. ومنذ ذلك الحين أحس أبو العتاهية خيبة آماله في عتبة، وترك نظم الشعر فيها وفي غيرها، ومال إلى التنسك والزهد، وانصرف عن ملذات الدنيا وانشغل بخواطر الموت...حتى مات !