اجمعت كل كتب التاريخ ان هارون الرشيد دأب منذ تقلد الخلافة على امرين اثنين لم يتخلف عنهما مرة واحدة ، وهي ان يقصد مكة حاجا في سنة ويخصصها للعبادة والاهتمام بالشؤون الدينية في المناطق المقدسة ، وان يخصص السنة التي تليها للغزو وفتح الامصار ورعاية الثغور بالمملكة الاسلامية المترامية الاطراف . كما عرف عنه شدة احترامه للدين وللعلماء واجلاله للزهاد والفصحاء مثل ابن السماك والفضيل بن عياض والاصمعي وعبد الله بن عقيل كما كان يحرص ان يكون لهم مكان دائم في مجلسه ومنهم من يلازمه او يحرص على الذهاب اليه اذا كان من اهل الزهد والتقلل وحكايته مع الفضيل بن عياض مشهورة فقد مر به عندما كان عائدا من الحج واراد ان يعطيه مالا فرفض فجلس الرشيد عند اقدامه طالبا النصح والموعظة فقال الفضيل « يا صبيح الوجه انت مسؤول عن هذه الامة كلها وقد قال الله تعالى « اذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب « ويقصد بذلك تذكير امير المؤمنين وخليفة المسلمين بانه مسؤول عن رعاياه وانه القدوة والمثل ، ويوم القيامة يوم يذهل كل امرئ بما اصبح عليه وكل انسان يحاول التبرؤ من سابقه ولاحقه ويتمنى ان لو كان له كرة . وقد توترت الروايات على ان الرشيد طفق يبكي يومها حتى شهق وخشي عليه اصحابه . ولم يكن الرشيد زاهدا في الدنيا لدرجة التنسك والتعبد والعزلة ولكنه في المقابل لم يكن كما صورته بعض الكتب والروايات فاجرا عربيدا . وقد ظهر في خلافة بين العباس الكثير من الزنادقة وكان هارون الرشيد اكثر بني العباس محاربة لهم وشديد الوطأة عليهم ، بل انه انشأ ديوانا خاصا لملاحقتهم واستئصالهم وتتبعهم في الاقاليم وقد اوصى ولديه فقال : « من يصير اليه امر الخلافة فليتجرد لهذه العصابة فانها فرقة تدعو الناس الى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للاخرة ثم تخرجها الى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجا وتحوبا ثم تخرجها من هذا الى عبادة اثنين احدهما النار والاخر الظلمة ثم تبيح نكاح الاخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الاطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة الى هداية النور فارفعا فيها الخشب وجردا فيها السيف وتقربا بامرها الى الله لا شريك له ، فاني رأيت العباس في المنام قلدني بسيفين وامر بقتل صاحب الاثنين « . كما كان كثير الاهتمام بالشعراء ويغدق عليهم الاموال الكثيرة وكان يحفظ الشعر وينشد بعضه ولا يخطئ في الاوزان ابدا حتى قال بعض المؤرخين ان قصره كان مرتعا للحكمة والعلماء وسوق البلاغة والشعر والتاريخ والفقه والطب والموسيقى .ولعل ذلك ما ساهم في ازدهار الحضارة الاسلامية فقد حاول كل عماله في باقي الامصار الاقتداء به والسير على نهجه مما مهد لتطور المعارف والعلوم . يتبع