اشتهر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز بالعفة والزهد والتقوى والإصلاح حتى أنه لُقّب ب(الخليفة الخامس) ومن مآثره التي سجلها له التاريخ أنه وضع حدا لما كان عليه خطباء يوم الجمعة من التعرض بالسوء لسيدنا علي ابن أبي طالب وعوّض ذلك بقول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذّكرون} ولما وليَ الخلافة وفد عليه الشعراءُ ليمدحوه وينالوا جوائزه كما اعتادوا مع الخلفاء السابقين ولكنه لم يأذن لهم ولكنهم لم ييأسوا وبقوا ملازمين لبابه أياما إلى حين مرّ بهم (رجاءُ بن حيوة) وكان من أصدقاء الخليفة وجلسائه فلما رآه الشاعر جرير داخلا استوقفه ورجاه أن يُكلّم عمر في شأنهم وقال له: يا أيها الرجل المُرْخي عمامته هذا زمانُك فاستأذنْ لنا عمرا ولكل رجاء دخل وجلس إلى الخليفة ولم يذكر له من أمر الشعراء شيئا ثم مر بهم (عديُّ بنُ أرطأَة) فاستسمحه جرير أيضا أن يوصل أمرهم إلى الخليفة وأكد على ذلك بقوله له: لا تنسَ حاجتنا لُقِّيتَ مغفرة قد طالَ مُكْثِيَ عن أهلي وعنْ وطني ولمّا دخل عدي على عمر قال له يا أمير المؤمنين لقد طال مُكثُ الشعراء ببابك فإن رأيت أن تأذن لهم وتتجنب سهامهم وهجاءهم فقال له عمر: مالي وللشعراء فقال له عدي: عليك أن تقتدي برسول الله الذي امتدحه شعراء وأعطاهم ومنهم العباس بن مرداس السُّلميّ الذي أعطاه رسول الله حُلّة على قصيدة امتدحه بها وبذلك قطع لسانه عما لا يُرضي الله ورسوله فقال عمر أسمعني شيئا من هذه القصيدة فأنشده منها هذه الأبيات: رأيتُك يا خيرَ البريّة كلّها نشرتَ كتابا جاء بالحق معلما شرعتَ لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلما ونورتَ بالبرهان أمرا مدنسا وأطفأت بالإسلام نارا تضرما فمن مبلغ عني النبي محمدا وكلُّ امرئ يُجزى بما كان قدّما أقمتَ سبيل الحقّ بعد اعوجاجه وقد كان قدما ركنه قد تهدما وهنا طرب الخليفة عمر لما سمع وقال لعديّ: من بالباب من الشعراء؟ قال: عمر بن أبي ربيعة والفرزدق، والأخطل، والأحوص، وجميل بن معْمر، وجرير فقال له: كلُّهم حادوا عن الطريق وعُرفوا بفحش القول والتجاهر بالمعصية وإن كان لا بد فليدخل عليَّ منهم جرير. ولما دخل جرير قال له عمر: يا جرير اتقِ الله ولا تقل إلا حقا فأنشده قصيدته الرائية المشهورة ومنها هذه الأبيات: إنّا لنرجو إذا ما الغيثُ أخلفنا من الخليفة ما نرجو من المطر جاء الخلافة أو كانت له قَدرا كما أتى ربّهُ موسى على قدر هذي الأراملُ قد قضيْت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرملِ الذَّكَرِ الخيرُ ما دُمتَ حيّا لا يفارقنا بُوركتَ يا عُمرَ الخيراتِ من عُمرِ ولما انتهى جرير من قصيدته المدحية أعطاه الخليفة مائة درهم من ماله الخاص وقال له لقد ولينا هذا الأمر يا جرير ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتْها أم عبد الله ومائة هي لك يا جرير فأخذها جرير وانصرف قائلا: والله إنها لأحبُّ مال اكتسبته في حياتي، وعند خروجه قال له الشعراء: ما وراءك فقال لهم ورائي ما يسوؤُكم فقد كنت عند خليفة يُعطي الفقراءَ ويمنع الشعراء، وأنشد: رأيتُ رُقى الشيطانِ لا تستفزّهُ