نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع العيّاشي في رحلته الحجازيّة المقدسيّة (3) العيّاشي (أبو سالم عبد الله بن محمد) 1628 – 1679 م وبعد وصف مسجد السلطان حسن وأشغال ترميمه استأنف صاحب الرحلة كلامه عن محمل الكسوة المشرّفة بقوله : « ثمّ يسار بالمحمل على هيئته وتعبئته حتّى ينزل ذلك اليوم بالعادليّة خارج باب القصر، فيقيم هناك إلى اليوم الثالث والعشرين، فيرحلون من هنالك إلى البركة . ويخرج أمير الحجّ وجميع عسكره . ويخرج مع الركب من المشيّعين ومن العساكر والأمراء أضعافهم، فتنصب الأسواق هناك ويخرج غالب الباعة والمتسبّبين، بحيث يوجد هناك ما يحتاج إلى السفر بأرخص من سعر مصر . ويقيمون هناك إلى آخر اليوم السابع والعشرين « ( ص 79 – 80) . وأضاف عن ركب المغاربة : « وأمّا ركب المغاربة فلا يخرج منهم إلاّ من قصده الذهاب مع المصري مؤثرا مشي الليل على مشي النهار، مستسهلا مشقة السهر بالليل على حرّ النهار، سيما في أيّام الصيف. وإنّما يؤثر ذلك غالبا صنفان من الناس : أهل القوّة الذين لهم شقادف ومحامل وهوادج ينامون فيها بالليل على ظهور الإبل ويصبحون بالنهار كأنّهم مقيمون. ولا شكّ أنّ هذا أولى لهم من السير نهارا إذا وطّنوا أنفسهم على بذل الدينار والدرهم للجمال والعكام ( أي الحبال والروابط) والسقاء والطباخ وقائد الإبل وغيرهم . والنصف الآخر الفقراء الذين لا إبل لهم ولا أمتعة، فيسترفقون عند المصري بالماء المسبل في أوقات من الليل وعند الرحيل نهارا، مع ما ينالهم من أهل الثروة من التصدّق بفضل الأطعمة. إلاّ أنّهم يكابدون مشقة عظيمة في المشي والسهر ليلا، وفي النهار يشتغلون بالسعي على ما يقوتهم، فلا يكادون ينامون إلاّ قليلا . وأمّا المتسوّقة والباعة والجمّالون من فلاّحي مصر فلهم قوّة وفرط صبر على مكابدة أعظم من ذلك، فبالليل يسيرون وبالنهار يعملون في البيع والشراء والسقي والطبخ وعلف الإبل وإصلاح أقتابها ومداواة جراحاتها، فلا يكادون ينامون حتّى القليل» ( ص 79 – 80) . . وبعد مراحل ومحطّات وصل ركب المؤلّف إلى مكّة في الخامس من ذي الحجّة، وشرع ومن معه في أداء المناسك ( ص 103 – 107) واغتنم فرصة فتح البيت العتيق للدخول والصلاة إلى جوانبه الأربعة، وهي فرصة تعليق الكسوة الجديدة وإزالة القديمة، وفيها ازدحام وسوء أدب من ضرب وشتم بالألفاظ، على حدّ عبارته ( ص 107). وهذه صفته : « من داخله بيت مربّع، ونقص من الركن الذي عن يمين الداخل مقدار السلم نحو ثلاثة أذرع، يصعد منه إلى السطح، وأرضه مفروشة بالمرمر الملوّن المجزّع، مكسوّ الحيطان والسقف بكسوة على هيئة الكسوة الخارجة في الصنعة والكتابة، مخالفة لها في اللون، فإنّ الخارجة سوداء كلّها والداخلة بياض في حمرة . وفيه مصابيح كبيرة معلّقة، بعضها من الذهب وبعضها من البلاّر الأبيض الصافي المكتوب بلون أزوردي . وله ثلاثة أعمدة من خشب مصطفّة في وسطه ما بين اليمين والشمال، وكلّ عمود منها قد سمّرت عليه ألواح من عود من أسفله مقدار وقفة . والخشب المسقف به الذي عليه اللوح ذاهب من ناحية الباب إلى الجهة المقابلة له، أحدهما رأسه على رأس السلّم، وهو أقربها لجدار البيت، وليس بينه وبينه إلاّ مقدار ما يصلّى فيه، والثاني بينه وبين الباب، والثالث عند الباب « ( ص 108). وبعد إتمام المناسك زار العيّاشي وصحبه مواقع شكّ في نسبتها إلى الرسول وآله وصحابته على أنّها موالد أو مضاجع لتوجيه المسلمين عنايتهم إلى حفظ الشريعة لا إلى حفظ الأمكنة (ص 113 – 114). ثمّ دخلوا المدينة المنوّرة ليلة الخميس الثانية من محرّم فاتح عام 1073 ه، وصلّوا الفجر في المسجد النبويّ، ودعوا وترحّموا عند قبر النبي ثمّ عند البقيع ( ص 123 – 126) . ومن الأعاجيب قوله : « حكى لي بعض المجاورين أنّه وجد في بعض المواسم رجل مع إمرأة في الحرم الشريف، فحملا إلى الحاكم، فشهدت البيّنة أنّها زوجته، وقيل له: ما حملك على ما فعلت ؟ فقال : إنّه لا ولد لنا، فرجوت أن تحمل المرأة ببركة هذا الحرم، فعذر بجهله، ولم يعاقب» ( ص 127). وذلك زيادة على ما لا يليق بالمسجد من الصياح واللغط من الرجال والنساء مع بكاء الأطفال ! ( ص 127) . وأضاف إلى ذلك عادة مذمومة لدى أهل المدينة : « وهي أنّه لا تبقى مخدرة من النساء شريفة كانت أو وضيعة إلاّ خرجت تباشر البيع والشراء بنفسها . ولهنّ على الرجال في ذلك الوقت إتاوة يؤدّونها لهنّ يبتعن بها ما أحببن من اللائق بهنّ، من طيب أو شبهه. وربّما لا تقنع إحداهنّ من زوجها إلاّ بالخمسين دينارا فما فوقها . فقد حكي أنّ امرأة بعض المدرّسين بها أعرفه طلبت منه في ذلك اليوم ما تخرج به إلى السوق على العادة، فدفع لها عشرة دنانير ذهبا، فاستقلّتها ( أي اعتبرتها قليلة) وذهبت من شدّة الغيظ فرمت بها في المرحاض وأتلفتها عليه وقالت له : أمثلي يخرج إلى السوق بهذا المقدار ؟ فلم يملك من أمره إلاّ أن ذهب وتسلّف خمسين دينارا فدفعها لها . وهذه حسرة عظيمة وذلّ للرجال الذين جعلهم الله قوّامين على النساء، فلا ينبغي لذي همّة أن يرضى بذلك، بيد أنّ نساءهم يبالغون في الستر الظاهر بحيث لا يبدو من المرأة ولا مغرز إبرة، حتّى من أطرافها، يلبسن الخفاف السود، ويتبرقعن ويسدلن من أزورهنّ ما يكون نهاية في الستر، إلاّ أنّهنّ يكثرن من الطيب عند الخروج فيوجد عرف الطيب منهنّ من مسافة فيكون ما سترنه ظاهرا أبدينه باطنا . ولا خفاء أنّ عطر المرأة من أعظم زينتها وألذّ ما يشتهى منها . وقد أمرت بإخفاء ما هذا سبيله من أوصافها، فإذا ظهر منها ذلك فهي في الحقيقة عارية وإن اكتست، فإنّ من العورات ما لا تواريه الكسوة ولا يواريه إلاّ تركه رأسا أو الخلوة، ككلام المرأة، فالصحيح أنّه عورة، وكذلك عطرها، فلا يواريه إلاّ تركه. ولذلك جاز لها الطيب المؤنّث، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، لأنّ اللون تستره الثياب، بخلاف الريح فلا يستره إلاّ الترك رأسا، أو عدم الخروج» (ص 128) . (يتبع)