نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. واستأنف التّجاني قائلا : « وحللنا الحمّة يومنا ذلك، وتعرف بحمّة مطماطة تفرقة بينها وبين حمّة توزر المعروفة بحمّة البهاليل، فرأيت مدينة حاضرة تحفّ بها غابة نخل تحمل حمله. وجميع مياه هذه البلدة شروبة، وهي في غاية السّخانة، وبسخانة مائها سمّيت الحمّة « (ص 136). ومنها توغّل في نفزاوة المنطقة التي استوطنها بنو نفزاو من عرب الجزيرة الذين يرتفع نسبهم إلى نزار ( ص 142) . وقاعدتاها طرّة وبشّرى، وبينهما اثنى عشر ميلا (ص 143) . ومن قراها كليكل وياسك وبني يوسف. قال : « ودخلت إلى بشرى فرأيت قرية أضخم من جميع ما قبلها من قرى نفزاوة . وبخارجها عين تعرف بعين تاورغا أعظم اتّساعا من عين طرّة وأقوى ماء إلاّ أنّ في تلك حسنا ليس في هذه. وبها سفرجل قلّ في جميع البقاع ما يناظره أو يقرب منه طيب طعم وضخامة جرم وكثرة ماء وخلوص صفاء، وليس يشبهه إلاّ السّفرجل الموجود بتاجورة من قرى طرابلس . وحدث عندهم في وقتنا هذا صنف من أصناف الكمثرى بديع الشكل شهيّ الأكل» ( ص 149) . ثمّ دخل التّجاني توزر فأسهب في وصفها، قال : « رأيت بلدا خارجه يجمع الحسن ويستوفيه، وداخله يصدق ما قال ابن زنون فيه، وأشعار أبي عبد الله محمّد ابن زنون أشهر من أن تذكر. وتوزر هي قاعدة البلاد الجريديّة، وليس في بلاد الجريد غابة أكبر منها ولا أكثر مياها، وأصل مياهها من عيون تنبع من الرّمل وتجتمع خارج البلد في واد متّسع، وتتشعّب منه جداول كثيرة، وتتفرّع عن كلّ جدول منها مذانب يقسمونها بينهم على أملاك لهم مقرّرة مقاسم من المياه معروفة . ولهم على قسمها أمناء من ذوي الصّلاح فيهم يقسمونها على السّاعات من النّهار والليل بحساب لهم في ذلك معروف، وأمر مقرّر مألوف . وعلى ذلك الماء أرحاء كثيرة منصوبة . ومن العجب أنّ هذا الوادي يحتمل ما يحتمل من غناء أو غيره فإذا انتهى إلى المقسم افترق هنالك أجزاء بالسويّة على عدد المسارب فمضى كلّ قسم منها إلى مسرب منها، وهذا ممّا شاهدته فيها عيانا. وكثير من أهلها إنّما يسكنون بغابتها، ولا مناسبة بين مباني الغابة ومباني داخل البلد، فإنّ مباني الغابة أضخم وأحسن. وبداخل البلد جامعان للخطبة وحمّام واحد. ومتفرّجهم بموضع يعرّفونه بباب المنشر. وهو من أحسن المتفرّجات لأنّ مجتمع الماء هنالك ومنه يتفرع كما تقدّم، ويجتمع به القصّارون ( أي الغسّالون) فينشرون هنالك من الثياب الملوّنة والأمتعة الموشية ما يعمّه على كبره فيخيّل للنّاظر أنّه روض تفتّحت أزهاره، وأطردت أنهاره . وليس بتوزر أحسن من هذا الموضع، وهو خارج عن غابتها، والغابة ملاصقة لسور المدينة فهي بذلك تمّت حصانتها « ( ص 152) . وبعد الاستشهاد بقصيدة تمجّدها أضاف : « وأهل توزر من بقايا الروم الذين كانوا بإفريقيّة قبل الفتح الإسلامي، وكذلك أكثر بلاد الجريد لأنّهم في حين دخول المسلمين أسلموا على أموالهم. وفيهم قوم من العرب الذين سكنوها بعد الافتتاح، وفيها أيضا من البربر الذين دخلوها في قديم الزّمان عند خروجهم من بلادهم، فإنّ بلاد البربر إنّما كانت أرض فلسطين وما جاورها من بلاد الشام، وكان ملكهم جالوت المذكور، فلمّا قتله داوود عليه السّلام تفرّقوا في البلاد « ( ص 153) هكذا يعتبر التّجاني موطن البربر الأصلي، وليس وحده في هذا. وبعد الانتهاء من جمع الجباية عاد التّجاني مع الركب الأميري إلى قابس فوجدوها موبوءة فعجّلّوا بالخروج منها إلى تبلبو وزريق، وبوغرارة باسم بربريّ عوسجيّ مشعوذ (ص 167)، ثمّ إلى مارث فإلى غمراسن حيث قلعة حمدون وقلعة نفّيق ذات الغيران المنحوتة في الجبل للحيوان والبشر. فمن غريب ملاحظاته قوله عن طريقة الدفن في قرية المقدّمين، زيادة على العداوة بينهم وبين المحاميد والورغمّيين: « ومن سيرة هؤلاء المقدّمين أن لا يدفنوا موتاهم إلاّ على هيئة الجالس في كهوف متّسعة يحفرونها لهم، ويتأكّد عندهم الدّفن على هذه الصّفة فيمن توفّي وترك ولدا فإنّهم يقولون : عزّ الولد لا ينقطع مادام أبوه جالسا، هذه عبارة من سألته منهم عن ذلك. وليس لأهل غمراسن ولا لأكثر ساكني هذا الجبل في الحقيقة من الإسلام إلاّ الاسم فقط، ولا تجد منهم من يعرف للصّلاة اسما» ( ص 172) . وأضاف ملمّحا إلى سبب ثلبهم أنّهم « ينتحلون مذهب النكّارة من الخوارج البربر، ولا يغسلون موتاهم، ولا يصلّون عليهم، ولا يورّثون البنت شيئا من مال أبيها . وعيشهم من الغارة على العرب» ( ص 173). ثمّ أدركهم العام الهجري الجديد 707 ه / 1307 م في غمراسن، ثمّ حلّ بهم عيد الأضحى، وأخيرا وبعد ثلاثة أشهر ونصف غادروها إلى طرابلس يوم الأحد 18 ربيع الأوّل ( ص 179، 183). فمرّوا على الشريط الساحلي بزوارة وزواغة وصبراتة وصرمان وزنزور ( ص 188 – 191 ) . قال عن طرابلس : « ودخلت حمّام البلد، وهو المجاور للقصبة، فرأيت حمّاما صغير السّاحة إلاّ أنّه قد بلغ من الحسن غايته، وتجاوز من الظرف نهايته . وكان هذا الحمّام من منافع القصبة فبيع من جملة ما بيع منها، وهو الآن محبّس على بعض المساجد . وبالبلد حمّامان آخران غيره إلاّ أنّهما في الحسن دونه. ورأيت شوارعها فلم أر أكثر منها نظافة ولا أحسن اتّساعا واستقامة، وذلك أنّ أكثرها تخترق المدينة طولا وعرضا من أوّلها إلى آخرها على هيئة شطرنجيّة، فالماشي يمشي بها مشي الرّخّ خلالها. ورأيت بسورها من الاعتناء واحتفال البناء ما لم أره لمدينة سواها، وسبب ذلك أنّ لأهلها حظّا من مجباها يصرفونه في رمّ ( أي ترميم) سورها وما تحتاج إليه من مهمّ أمورها» ( ص 206) . ثمّ استعرض التّجاني تاريخها ( ص 207 – 211)، ثمّ عاد إلى وصفها منوّها بتعلّق أهلها بالعلم والدين من خلال عنايتهم بالمساجد والمدارس وإجلالهم للعلماء والصلحاء ممّن جالسهم أو زار زواياهم ( ص 211 – 236). وكانت إقامة صاحب الرحلة بطرابلس أزيد من عام ونصف قضاها متواصلا مع الفقهاء والأدباء بمراسلات من شعرهم وشعره ( ص 236). رافق التّجاني مخدومه إلى تاجورة ( ص 254 – 256) لكنّه في منتصف الطريق إلى مسراتة اشتدّ به المرض وتعذّرت عليه مرافقة مخدومه في وجهته المشرقيّة فقفل راجعا إلى الحضرة التونسيّة ( ص 261). وفي طريق العودة استعرض تاريخ المهديّة من عهد مؤسّسها إلى زمن الرحلة ( ص 264 – 296) وألحق به تراجم أعلامها من الفقهاء والشعراء مع نماذج من شعرهم ( ص 296 – 313) . ثمّ غادرها إلى سوسة راجعا عبر نفس الطريق إلى تونس بعد غيبة عامين وثمانية أشهر وأيّام، وجملتها 975 يوما (ص313). (انتهى)