نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. الحشائشي (محمد بن عثمان): 1261853 – 12111912 ولد بتونس في بيت علم تولّى أفراده الخطط الشرعيّة والإداريّة السامية. درس بجامع الزيتونة على أمثال الشيخ سالم بوحاجب فأحرز التطويع، ثمّ تعلّم الفرنسيّة والإيطاليّة مشافهة، واشتغل بجمعيّة الأوقاف فمتفقّدا للمكتبات الزيتونيّة. نشر مقالات أدبيّة واجتماعيّة وقصائد وطرائف في مجلّة « السعادة العظمى» وجرائد « الزهرة « و» الحاضرة» و» الرائد الرسمي» . وألّف عدّة كتب أكثرها مازال مخطوطا، فمنها : الدرّة النقيّة في مقاصد الدولة الفرنسيّة، عبّر عن موقف التطبيع مع الاستعمار حسب عنوانه الثاني « الدرّة النقيّة في النوايا الصادقة للحكومة الفرنسيّة «، ط . باريس 1882 ؛ رحلة الشتاء أو العهد الوثيق في هناء الصديق، وصف فيه سوسة بمناسبة حضور عرس أحد الأعيان، ط. تونس 1895 ؛ معرض باريس 1900 ؛ تاريخ جامع الزيتونة . – تح . ج . بن الحاج يحيى، المعهد القومي للآثار والفنون، تونس 1974 ؛ جلاء الكرب عن طرابلس الغرب أو النفحات المسكيّة في أخبار المملكة الطرابلسية . – تح . علي مصطفى المصراتي، 1965 ؛ العادات والتقاليد التونسيّة . – تح . ج . بن الحاج يحيى، تونس 1995 ؛ الرحلة الصحراوية عبر أراضي طرابلس وبلاد التوارق، ضاع أصلها العربي بعد أن نقلها إلى الفرنسيّة فكتور سار (Victor Serres) ومحمد الأصرم ونشراها بباريس في 1903 ثمّ عرّبها محمد المرزوقي بمساعدة ولديه فصدرت عن الدار التونسيّة للنشر في 1988 .وهي المرجع في التعريف والمختارات. الرحلة : شرع محمد بن عثمان الحشائشي ( 1853 – 1912 م ) في رحلته الصحراويّة عبر أراضي طرابلس وبلاد التوارق يوم 10 ماي 1896، ورجع إلى تونس يوم 25 فيفري 1897 . أبحر من تونس إلى بنغازي، ثمّ قصد الكفرة، وفيها تحدّث عن الطريقة السنوسيّة، ثمّ رحل إلى مرزق فإلى غات وتحدّث عن التوارق وسائر سكّان الصحراء الطرابلسيّة، ومنها قفل إلى مصراته فإلى طرابلس وأخيرا تونس. سجّل الحشائشي تفاصيل عن التجارة والفلاحة في بنغازي منوّها بالخصوص بالجبل الأخضر وسكّانه الذين لا يعترفون بأيّ سلطة غير سلطة مقدّمي الطريقة السنوسيّة . قال عنهم: « إنّ لسكّان بنغازي كبرياء إلى درجة اعتبار أنفسهم أنبل مخلوقات الله على الأرض. ليسوا مضيافين، ولا اعتبار عندهم للغرباء . ولولا رحمة الله الذي أرسل لهم الطريقة السنوسيّة، التي ساهمت كثيرا في تقويم أخلاقهم، لبقوا إلى الآن غارقين في الجهل « (ص 63 – 64 ) وأضاف : « وأهل بنغازي لا يشتغلون إلاّ بالفلاحة وبطرق جدّ بدائيّة . ولولا خصوبة الأرض لما تحصّلوا على ما يقيم أودهم . وخلال الأعوام التي يقلّ فيها المحصول يكادون يموتون جوعا لو لم تعنهم السلطة العثمانيّة بتوفير الأغذية لهم .» ( ص 65 ) . وعن التجارة قال : « إنّ أكثر التجّار من اليهود ومن الصفاقسيّة ومن اليونانيّين وخاصّة من الجرابة . والإيطاليّون قلّة لا يكاد عددهم يفوت الثمانية .أمّا الأتراك فإنّهم لا يتعاطون التجارة، ولا نرى إطلاقا في بنغازي بضائع أوروبيّة . وجميع المبادلات التجاريّة تنحصر في واردات طرابلسوتونس والإسكندريّة « ( ص 64) . « وأكثر الأشياء رواجا الشواشي التونسيّة إذا كانت من الصنف الرديء لأنّ السكّان هنا لا يفرقون بين البضاعة الجيّدة والبضاعة الرديئة، وكلّ همّهم يتمثّل في الاشتراء بأقلّ الأثمان « (ص 65) . « والأراضي الواقعة خارج المدينة، أي انطلاقا من مسافة ثلاثة كيلومتر، ليس لها مالكون حقيقيّون بل هي ملك الله والدولة، أو بالأحرى هي ملك أوّل من يستقرّ فيها، فإذا حرث قسما منها فإنّه يمتلكها قانونيّا لمدّة سنة « (ص 66) . وعن تقاليد أهالي بنغازي قال الحشائشي : « يلبس السكّان عامّة الشاشيّة التونسيّة غطاء للرأس، تحتها عراقيّة بيضاء . وتتركّب ملابسهم من سروال ينزل إلى الكعبين وفوقه قميص فضفاض ينزل إلى منتصف الساقين، وفرملة من قماش الإسكندريّة وحائك تونسي يلفّ الرأس ويغطّي الكتفين، ولا يلبسون البرنوس . وأحذيتهم شبيهة بأحذية عرب الريف التونسي. والأكثرون يسارا ينتعلون في الشتاء أحذية تركيّة، وأعراسهم ومآتمهم تشبه – في كلّ شيء – الأعراس والمآتم التونسيّة «. وعن الآثار قال: « وفي هذه البلاد تعترض الإنسان في كلّ خطوة آثار الاحتلال الروماني. وعلى بعد 60 كلم شرقيّ بنغازي، وعلى شاطئ البحر، توجد مدينة قورنة (قورين) العتيقة بأعمدتها وصهاريجها ومسارحها وقصورها . وفي نفس الاتّجاه توجد مدينة عين شحّات أو شحّات فحسب، حيث تركت أشغال الرومان أيضا آثارا كبيرة « ص 69). وفضّل سكّان الجبل الأخضر على أهالي بنغازي فقال : « وسكّان الجبل الأخضر بدو تقترب لهجتهم من العربيّة الفصحى. وهم ذوو طبع مرح ممتاز، لديهم اعتقاد عميق في الشيخ سيدي المهدي، ويخشون الله ورسوله، والإنسان في بلادهم يحفّه الأمن التام، والغريب أو المستكشف لا يخشى شيئا ولو كانت لديه أحمال من الذهب والفضّة « ( ص 70) . واصل الحشائشي طريقه إلى زاوية الكفرة ( بالجنوب الشرقي) حيث أحسن استقباله الشيخ المهدي مقدّم الطريقة السنوسيّة . وبالمناسبة استعرض حياة مؤسّسها سيدي محمد بن علي السنوسي المولود بمستغانم بالجزائر سنة 1202 ه / 1788 م والمتوفّى بجغبوب بليبيا سنة 1276 ه / 1859 م . وهو تلميذ سيدي أحمد التجاني بفاس بالمغرب، صاحب الطريقة التجانيّة. (يتبع)