نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. * التّجاني ( أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد ) : بين 670 و675 ه / 1271 و1276 م – بعد 717 ه / 1317 م . ولد بتونس عاصمة الدولة الحفصيّة، وتربّى في عائلة توارثت العلم والسلطة . درس على كبار العلماء فأجازوه في مختلف العلوم والآداب . ثمّ انضمّ إلى ديوان الإنشاء في عهد السلطان محمد المعروف بأبي عصيدة في بداية ق 8 ه / 14 م . ثمّ اصطفاه السلطان أبو يحيى زكرياء بن اللحياني شيخ الموحّدين لخدمته . استجاب لدعوة أمير بجاية أبي زكّرياء سنة 1285 م . وانقطعت أخباره – هو وأسرته – في ظروف غامضة. خلّف عددا من المؤلّفات ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود . منها : أداء اللاّزم في شرح « مقصورة « حازم ( القرطاجنّي) ؛ الوفاء ببيان فوائد « الشفاء» ( للقاضي عياض) ؛ الدرّ النظيم ( في الأدب والتراجم) ؛ تقييد على « صحيح « مسلم بن الحجّاج القشيري، تقييد على « المسند الصحيح» للبخاري ؛ نفحات النسرين في مخاطبة ابن شبرين ( ت 747 ه / 1347 م ) (مراسلات أدبيّة ) ؛ علامة الكرامة في كرامة العلامة ( أي مدير الديوان الملكي ) ؛ تحفة العروس ونزهة النفوس (في العلاقة الزوجيّة) . – القاهرة 1301 ه / 1883 م، ترجمة روسو (Rousseau)، الجزائر وباريس 1848 (Cadeaux des époux) ؛ الرحلة . – تح. ح . ح . عبد الوهاب، الدار العربيّة للكتاب، تونس 1981، ط 2 / 2005 . وهي المعتمدة في التعريف والمختارات . وكانت نشرتها المطبعة الرسميّة بعناية وليام مارسي سنة 1345 ه / 1927 م، ثمّ بتحقيق ح.ح. عبد الوهاب سنة 1378 ه / 1958 م . - الرحلة : رافق عبد الله التّجاني ( ق 7 – 8 ه / 13 – 14 م ) مخدومه كبير الدولة وشيخ الموحّدين الأمير أبا يحيى زكرياء بن اللحياني في سفره لطرد الإسبان من جربة والجباية والحجّ، من 706 إلى 708 ه / 1306 – 1308 م حتّى حدود مصراته من وطن طرابلس حيث منعه المرض من مواصلة الرفقة فعاد إلى تونس. قيّد في رحلته المفصّلة أخبار المدائن التي مرّ بها على الشريط الساحلي مع توغّل نحو الغرب إلى حدّ توزر، فعرّف بالسكان من جهة أصولهم وعوائدهم وترجم للأعلام الذين اتّصل بهم وأثرى النثر بالشعر ممّا ورد عليه من المراسلات العائليّة . فبذلك تعتبر رحلته وثيقة هامّة لمختلف المتخصّصين في الجغرافيا الطبيعيّة والبشريّة والثقافيّة والاقتصاديّة لأعماق البلاد التونسيّة في فترة مضطربة من العهد الحفصي، وفي الفترات السابقة بالنقول عن كتب التاريخ والجغرافيا والرحلات لأمثال ابن عبد الحكم والبكري والإدريسي. المحطّة الأولى للخارج من تونس مشرّقا هي رادس « قرية قديمة الرسم شهيرة الاسم، وبها كروم كثيرة ومزارع متّصلة وجامع للخطبة عتيق ... إلخ « ( ص 45) . استعرض التجاني أخبارها بما في ذلك قصة موسى والخضر عليهما السلام . ومنها إلى حمّام الأنف بالاسم القديم حامّة الجزيرة، أي جزيرة شريك العبسي، وهي الوطن القبلي ( ص 48) . قال إنّها « لم تزل معروفة بالخصب والبركة ... إلخ « ( ص 49) . وعاصمتها منزل باشّو « كان بلدا كبيرا آهلا، به جامع وحمّامات وأسواق عامرة . وبه كان قصر عيسى بن أحمد القائم ( أي الثائر ) على بني الأغلب. وهذا المنزل الآن خراب، لم يبق منه إلاّ مكانه. ويقال إنّ عمد الجامع الذي كان به وشيء من الرخام المنجور المحكم الصنعة نقلت في هذا الزمان القريب ( زمان المؤلّف) إلى تونس فأقيم عليها جامع قصبتها « ( ص 50-51) . مرّ الركب الأميري بصلتان والفلاّحين والمنارة بجوار الحمّامات، ثمّ بالقصر المعروف بالمدفون لما غمره من النباتات على ضخامته، فوصلوا إلى هرقلة التي يسمّيها التّجاني باسمها القديم إهريقليّة . وهي قرية كبيرة كانت شهدت نهاية ثورة صاحب الحمار ( ص 58 – 59). ثمّ تبسّط التّجاني في وصف سوسة والتذكير بتاريخها في تلك الثورة سنة 332 ه / 943 م ( ص 60 – 62) ثمّ عند غزو بني هلال لها ومن بعدهم النرمان إلى أن خلّصها عبد المؤمن أمير الموحّدين (ص 63). وبعدها المنستير بأخبارها وحتّى بالحديث الموضوع تشريفا لها وحثّا على الجهاد فيها ( ص 63). ونقل عن ابن رشيق ما سجّله في « أنموذج الزمان» من شعر شعرائها منقودا ( ص 65 – 80). وبعد ثلاثة أيّام بسوسة مرّ التّجاني والركب بزرمدين وجمّال والوردانين ثمّ نزلوا بالجمّ فوصف القصر واستعرض خبر الكاهنة والسرب الذي حفرته إلى سلّقطة من جملة أخبار فتح إفريقيّة ( ص 80 – 83). (يتبع)