"احذروا الردة" هذا ما كان يقوله لهم دائما، لا لأنه يشك في ان جماهيره تقبض على زمام سلطتها بيد من حديد وإنما لأنه يعرف أن أعداء اي ثورة حقيقية وطموحة، كثيرون في الخارج والداخل. ومن هنا فإنه يطالب رفاقه في كل لحظة بأن يتجنبوا الخدر. ويتصوروا ان الباب موصد بشكل نهائي امام الردة. ولذلك فإن الامر يستوجب دائما في رأيه تشديد الرقابة الفكرية العالية وتعميق الحصانة المبدئية (فلا يجب أن نبتعد عن دورنا في الرقابة في الحياة الداخلية للحزب والدولة. ولا نبتعد عن دورنا في تنشيط الرقابة الجماهيرية على أجهزة الدولة وحتى في الشعيرات الصغيرة التي لن تحتل فيها عناصر رجعية أو يمينية مواقع معينة باتجاه مضاد وان نعمل بهمة لا تلين في تطهير أجهزة الدولة في المواقع والمفاصل الحيوية التي تحتل فيها العناصر اليمينية مواقع مؤثرة وان نسد فرص الصعود بوجه العناصر المماثلة في الحزب وان نقوي ضوابط الحصانة التنظيمية والمبدئيه في الحياة الداخلية للحزب...) غير أن للردة أقنعة عديدة... وأحدث اقنعتها استعارته من حاجة المجتمعات النامية المتخلفة الى التكنولوجيا والتحديث ان ثورات عديدة في العالم الثالث تراخت قبضتها شيئا فشيئا عن زمام السلطة الحقيقية. وحلت مكانها ايدي البيروقراطيين والتكنوقراطيين.. التكنولوجيا تتحول الى اسرار خبيثة يحتفظ بها الكهنة الجدد لأنفسهم ويستخدمونها عند الحاجة. وتحت ستار الحسابات الفنية لتطبيقات التكنولوجيا الحديثة كان الثوار يتراجعون دائما لنقص علمهم بأسرار الكهانة الزائفة ويفتحون ثغرات تتسلل منها الثورة المضادة. ومع ذلك فإن صدام حسين ليس غافلا عنهم... عن حسني النية وسيئي النية على السواء (ان الكثير من الفنيين بما في ذلك بعض البعثيين يجد نفسه في كثير من الاحيان منساقا لمعالجة القضية المطروحة عليه من زاوية فنية. وينسى ان يحكم الربط بين المعالجة الفنية وبين عموم فكر الثورة... الذي هو طريق بناء المجتمع الجديد).. وهو لا يتردد في ان يقول بوضوح وبحسم ما لو قاله قادة آخرون في زمان آخر ومكان آخر لوفروا على تجاربهم مرارات الفشل والإحباط : إننا نقول هنا بمسؤولية :عليكم ان لا تتصرفوا في المسائل الاقتصادية والفنية الرئيسية بدون ان تستشيروا الفنيين. ولكن إياكم أن تتركوا للفنيين مهمة قيادة الاقتصاد الوطني... ولا تتيحوا لهم المجال لاخذ الدور القيادي وإنما يجب ان يكونوا دائما تحت توجيه وقيادة العقل القيادي الثوري الذي لا تتحدد قدراته ومعرفته بالاختصاص التقني فقط... والذي يفهم الثورة ويفهم الوسائل الحاسمة لتغيير عموم المجتمع واتجاهات هذا التغيير. فيضع كل حركة من حركات الاقتصاد في خدمتها وخدمة أهدافها). ترى لو كان الامر قد ترك بالفعل للفنيين وحدهم الذين يحسبون بطرقهم التقليدية اثناء التحضير لمعركة تأمين النفط في العراق.. هل كان يمكن للتأميم ان يتم؟ وهل كان بوسع العراق ان يحقق استقلاله الاقتصادي ويبدأ في تطبيق مشروعاته الطموحة على طريق التنمية؟ إن للفنيين دائما دينهم، وللثوريين دينهم الآخر. وفي معظم الاحيان كان الثوريون اقرب الى قلب الله لأنهم كانوا ينصتون دائما لصوت الشعب... الثورة هي علم التغير ولكنها ايضا حلم دائم بالتغيير والثوار هم أولئك الذين يناضلون على الدوام كي ينسجوا من احلامهم واقعا جديدا يقيمونه على انقاض واقع قديم والثوري الذي يفقد قدرته على الحلم يفقد في نفس الوقت قدرته على النضال. فالحلم الذي يتحقق يصبح واقعا جامدا لابد من تجاوزه بأحلام جديدة و نضالات جديدة فما شاطئ اخير ترسو عليه سفينة الثورة هناك دائما شاطئ جديد بعيد يتوجه اليه الملاح الثوري وتتعلق عيناه. والثورات الحقيقية لها دائما منظورها الشامل في عملية التغيير فليس هناك مايسمى ثورة اقتصادية او سياسية او اجتماعية او ثقافية كل على حدة مكتفية بذاتها مقطوعة الصلة عن غيرها. فالثورة تكون ثورة بحق عندما تضرب بجذورها الجديدة في مختلف مجالات الحياة. وتعيد تشكيل عناصر البنية الاجتماعية بمعناها الكلي تشكيلا جديدا يتلاءم مع اهدافها. ويتناسب مع المستوى الجديد الذي بلغه التطور الاجتماعي. ويتجاوب مع الامال والمطامح التي تعلقها الطليعة الثائرة على المرحلة الثورية التي تجتازها. الثورة تكون ثورة بحق عندما تضع على رأس مهماتها تغيير الانسان نفسه وإطلاق قدراته وملكاته وطاقاته الكامنة وتوفير الوسائل الضرورية التي تمكنه بالفعل وفي الممارسة العملية من المشاركة الايجابية في بناء حياته وامتلاك مصيره. (يتبع)