بكل فخر واعتزاز، وبما يشبه المعجزة اندلعت أول ثورة شعبية عربية في تونس التي رسخ في ذهن الكثيرين أنها بلد شعب وديع، مغلوب على أمره، مستسلم للطغيان، منشغل بلقمة العيش، زهد في السياسة والشأن العام، ولوع شبابه بكرة القدم وبألوان الترفيه بعيدا عن أحلام الحرية والديمقراطية. ومن تونس انطلقت شرارة الثورة لتشمل عديد الأقطار العربية شرقا وغربا ولتضع حدا لسبات شعوب أدركت فجأة أنها قادرة على تحطيم حاجز الخوف وعلى افتكاك الحق في الحرية والكرامة، مع دفع ما يلزم من تضحيات سخية لابدّ منها لاستحقاق الحرية والكرامة. أطاحت الثورة بنظام بن علي في تونس ونظام حسني مبارك في أرض الكنانة، ومازال المخاض الصعب متواصلا في ليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الأقطار العربية. وفي انتظار ساعة الخلاص من أنظمة اعتقدت طويلا أنها تمتلك حق التصرف كما تشاء في رقاب العباد وفي موروث البلاد بلا رقيب أو حسيب، يتابع العالم شرقا وغربا تطورات الوضع في تونس ومصر باعتبار أن الثورة ليست نهاية المطاف وليست هدفا في حد ذاتها، وإنما هي محطة الى ما بعدها، فإما أن تفضي الى الديمقراطية الحقيقية والى بناء نظام جديد ينشر العدل ويقضي على الفوارق الاجتماعية المجحفة ويبني الغد الأفضل للجميع ويكدّ الجميع، وإما أن تزيغ الثورة عن مسارها السليم وتفشل لا سمح اللّه في تجسيم وعودها لتنتشر الفوضى المقيتة التي تمثل خير مناخ ممهد للحكم الاستبدادي. صحيح أن لكل ثورة أعداء في الداخل والخارج يتربصون بها الدوائر وأن قوى الردة والثورة المضادة تنتهز كل فرصة لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، ولكن مصير الثورة يظلّ مرهونا أساسا بمدى الوعي لدى المستفيدين منها بضرورة الحفاظ عليها وتجنيبها الوقوع في أخطاء قاتلة تؤدي الى اغتيال الأمل. وقد استوقفتني هذه الأيام عبارة بليغة دأبت بعض القنوات الفضائية المصرية على ترديدها على لسان الشيخ شعراوي، وهي تستحق أن تكتب بحروف من ذهب في مواجهة ما نشاهده من انحرافات خطيرة، ومنها حركات الاعتصام الاعتباطي، والاضرابات العشوائية، وحتى التهافت على الغنيمة وأشكال الصراع العقيم حول قضايا مفتعلة، ومحاولات زرع الفتنة بين أبناء البلد الواحد، ونزاعات الغليان الدائم، وتقول هذه العبارة البليغة «إن الثائر الحقّ هو الذي يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد». وإذا حقّقت الثورة التونسية معجزة التخلّص من حكم بن علي وعصابة النهب المحيطة به، فإن المطلوب الآن هو تحقيق معجزة أكبر تتمثل في الحفاظ على نقاوة هذه الثورة، وتحصينها ضد مخاطر الانحراف والانصراف الجدي الى العمل وإنقاذ الاقتصاد الوطني من الإفلاس، والصبر علي المطالب مهما كانت حدّة تأكدها، ونبذ أسباب التمزّق والتطاحن والسعي الى كسب رهان المواعيد الانتخابية القادمة التي ينبغي أن تكون بوابة العبور الى الديمقراطية الحقيقية والى أول جمهورية بأتمّ معنى الكلمة منذ استقلال البلاد. صحيح أن الثورة أنجزت الى حدّ الآن مكاسب كانت الى عهد قريب ضربا من الأحلام ومنها إطلاق حرية التعبير بعد عهود من الكبت وإفساح المجال أمام تكوين الأحزاب والجمعيات الى حدّ التخمة، وسنّ العفو التشريعي العام، وتعطيل الدستور البائد، والإقرار بضرورة إرساء منظومة دستورية وتشريعية جديدة تستجيب لمقتضيات الثورة وأهدافها النبيلة، غير أن ما تشهده الساحة التونسية منذ أسابيع من مظاهر محزنة ومن انحرافات خطيرة تبعث على الانشغال الشديد وتدعونا جميعا الى صحوة جادة لنضع حدا لكافة أشكال العبث بمصير البلاد والعباد. ففي غمرة الحرية المفاجئة التي لم تكن يوما جزءا من ثقافتنا ولم ننشأ على ما تفرضه من مبادئ وقواعد سلوكية، لم نتعرف على حدود هذه الحرية، وانزلقنا بها الى مهاوي التسيّب كما تشهد به مظاهر البناء الفوضوي، والسطو على أراضي وممتلكات الغير بما فيها العقارات العمومية، وانتشار الباعة المتجولين واستفحال ظاهرة الاستخفاف بقواعد المرور. ونسينا الصبر على ظروف العيش مثلما نسينا منذ عهد بعيد فضيلة القناعة، فتكاثرت حركات الاعتصام والاضراب في المؤسسات، وازدهرت سوق المطالب الأنانية والفورية الى حدّ التعجيز والاسراع بغلق عديد المؤسسات ، وصار الحفاظ على مواطن الشغل الموجودة ضربا من الخيال فضلا عن إمكانية مزيد التشغيل، ولم نلمس لدى المركزية النقابية إرادة حقيقية على كبح هذا التيار المدمّر الذي يلحق أفدح الضرر أولا وبالذات بالعمال وبغيرهم من ضعاف الحال. ولعل أشد ما يحز في النفوس الأبية ما نلحظه يوميا من تراكم الفضلات والنفايات نتيجة اضراب أعوان البلديات الذين لا يجوز الطعن في مشروعية مطالبهم، مع ما ينتج عن ذلك من تهديد مباشر لسلامة البيئة وصحة البشر، إضافة الى تلطيخ صورة تونس في أعين أبنائها وأعين الزائرين، والخوف كل الخوف أن يستمر الوضع على ما هو عليه ليقضي على حظوظ إنقاذ ما تبقى من الموسم السياحي القادم في وقت صار فيه القطاع في حكم المنكوب. ونسينا أيضا أن أرض تونس لا تزخر بالخيرات الطبيعية،وأن ثروتها الحقيقية في عمل أبنائها وبناتها وأن ما بقي لها من إمكانات بعد سنوات النهب في ظل العهد البائد وبعد ما تسبب فيه الركود الاقتصادي غداة الثورة لا يسمح بتاتا بتلبية المطالب الملحة وفي مقدمتها تشغيل العاطلين عن العمل الذين قد يصل عددهم الى 700000 نسمة خلال الصائفة القريبة القادمة، ولما دق البنك المركزي التونسي ناقوس الخطر أكثر من مرة ثم صرح أحد أعضاء الحكومة الانتقالية بأن الدولة قد تعجز بعد أشهر قليلة عن دفع الأجور خرج علينا من يعترض على هذا الكلام ويدعي أنه جزء من حملة تخويف تتستر وراءها الثورة المضادة، دون تقديم أية حجة تنفي صحة ذلك الكلام أو تفيد بأن الوضع الاقتصادي على أحسن ما يرام. ونسينا الشهداء الذين فاقت تضحياتهم كل تضحية يمكن أن يجود بها من لهم مورد رزق سواء كانوا عمالا أو أصحاب مؤسسات فجادوا بأرواحهم الزكية وأهدوا لنا ثورة أدهشت العالم وأثبتت أن سلاح العلم وتكنولوجيا الاتصال أمضى من رصاص القمع، فكانت ثورة شبابية لا تغذيها عقائد ولا تقودها زعامات، ولكن سرعان ما ازدحمت الساحة الحزبية ومنابر الحوار بأدعياء الثورية وفرسان الحرية المتهافتين على الزعامة السياسية والطامعين في السلطة، وهم لا يدركون عبء المسؤولية في هذا الظرف العصيب ولا يدركون أن المناصب بعد الثورة أبعد ما تكون عن التشريف وأن ممارسة السلطة لن تكون بعد اليوم نزعة مربحة. ومن شواهد العبث الذي انساق اليه القاصرون عن الوعي أو الراغبون في زرع بذور الفتنة ما أثاره البعض من قضايا مفتعلة لا تؤدي الا الى تغذية المخاوف المتبادلة بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية، والى إذكاء نزعات الإقصاء وتهيئة أسباب التناحر بدلا من أن ننعم جميعا بالحرية في كنف الوئام والتعايش مع الغير مهما اختلفنا معه، ونشط دعاة التطرف من أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتغافلوا عن الأهداف الحقيقية التي اندلعت الثورة من أجلها وأخطؤوا في ترتيب الأولويات فجعلوا في مقدمة اهتماماتهم مسائل خلافية مثل العلمانية وفصل الدين عن السياسة والمطالبة بالمساواة في الإرث، ومجادلة الناس في ما يلبسون ووصل الأمر بالبعض الى ممارسة العنف اللفظي والمادي والى ألوان من الاستفزاز الجماعي بل الى التبشير بدولة الخلافة التي وعد الداعون اليها بإقصاء كل الأحزاب والتيارات المخالفة لهم متى فازوا بالحكم. ان الآمال العريضة التي بعثتها الثورة في نفوسنا أغلى من أن تسمح لنا بالاستسلام لليأس السريع مهما بلغت خطورة الأخطاء والانحرافات في هذه المرحلة الانتقالية التي نتعلم فيها أبجديات الحرية والديمقراطية ولكن المخاطر الجمة التي تحدق في آن واحد بالأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وبالاقتصاد الوطني، وبالمناخ الاجتماعي الهش، وبحظوظ التعايش السلمي بين الأفراد والجهات تحتم علينا جميعا صحوة سريعة قبل فوات الأوان يكون شعارها أن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد. أما إذا كنا غير قادرين على إنقاذ الثورة وايصالها الى بر الأمان بما يضمن الانتقال الفعلي الى الديمقراطية وبناء الغد الأفضل للجميع على أساس الانخراط الجماعي في البذل والعطاء علينا أن نعتذر أولا للشهداء الذين واجهوا الرصاص الحي ووهبوا أرواحهم ثمنا للحرية، وعلينا الاعتذار ثانيا للشعوب العربية التي أيقظناها من سباتها وأججنا فيها روح الثورة فخذلناها كما خذلنا شهداءنا ولعل الذين ينامون ويصبحون على حنينهم للماضي المقيت يتمنون أن تتعفن الأوضاع الى حد قد يسمح بدعوة الرئيس المخلوع الى العودة الى تونس راجين منه تأديب شعبه والبطش بنخبه المزعومة والتربع على عرش الرئاسة مدى الحياة ليواصل نهب ما بقي من ثروات البلاد رفقة عشيرته وأصهاره الميامين.