هناك ما يُشبه العناد والمكابرة لدى غالبية الأحزاب والنخبة السياسيّة في التعاطي مع الشأن الوطني بمختلف ملفاته وقضاياه بنوع من التسطيح الذي يصل أحيانا الى حدّ محاولة تجاوز المنطق والمعقول. بل مرات استبلاه العقول وفرض أمر واقع عنوة وغصبا عن المعطيات الحاصلة. حجب حقيقة الأزمة، ذلك هو الأمر الخطير في الحياة الوطنيّة اليوم. فهي في جوهرها ومنشئها ليست أزمة قانونية ولا دستورية ولا أيضا اقتصادية او اجتماعية. هي أزمة سياسيّة بامتياز تسعى مختلف الأطراف المتصارعة إلى إلباسها ألبسة مختلفة بحسب الأهواء والمصالح وحسابات التموقع والإطاحة بالطرف المقابل أو ركنه في الزاوية. لا بدّ من الإقرار علنا وصراحة بأنّ بلادنا، منذ ماي 2018، تعيشُ على وقع أزمة سياسيّة خانقة وطاحنة دفعت بالفاعلين السياسيّين إلى معركة كسر عظام ولي أذرع عنيفة جدا استخدمت فيها، ولا تزال، الممكن والمتاح من الآليات والوسائل على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة وتعويلا على موازين قوى ناشئة ومصطنعة بعيدا عن حقيقة صندوق الاقتراع واستنادا إلى تأويلات ممكنة لنصوص قانونيّة ودستوريّة. وقد شاهدنا محطات متعدّدة من تنازع التأويلات على مدار السنة المنقضية وفي مناسبات مختلفة حول موقع الحزب الأغلبي واستحقاقاته الدستوريّة في تعيين رئيس الحكومة أو سحب الثقة منه وفي التحوير الوزاري أكثر من مرّة وتشكيل الكتل البرلمانية وصلاحيات رأسي السلطة التنفيذيّة ومعاينة الفراغ في رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب. وآخر تلك المحطات اختلاف القراءات حول ختم رئيس الجمهورية للقوانين وتفعيل تعديلات القانون الانتخابي من عدمها في ظل تواصل غياب المحكمة الدستوريّة. وأدُ وثيقة قرطاج، على ما فيها من هنات، وقطع مسار التوافق، على ما فيه من تجاذبات وحسابات، مثّلا «الخطيئة الأبرز» التي ارتكبتها النخبة في محاولة لرسم مشهد سياسي عنوة وفرض أمر واقع جديد يتجاهل بيانات الحصاد الانتخابي لسنة 2014 واستحقاقاتها ويستغني عن أدوار رئيس الجمهورية والمنظمات الوطنية الكبرى وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل. وتجد بعض الأطياف والشخصيات اليوم حرجا في الإقرار بذلك المعطى رغم ما ينطوي عليه من خطورة ورغم أنّه ما يزال يتلبّسُ بتطوّرات الأحداث والمستجدات على مختلف المستويات والتي كان من آخرها مطبّ تعديلات القانون الانتخابي. وما من شكّ في أنّ الأزمة السياسيّة ستبقى قائمة وستلقي بالمزيد من ظلالها على المستجدات القادمة. وستشهد الساحة، على الأرجح، المزيد من التقلبات والأطوار والاتهامات المتبادلة بين أطراف الأزمة ما لم تقع مجابهة الحقيقة بشجاعة والإسراع بتحكيم العقل وتغليب مصلحة البلاد العليا على ما سواها من الاعتبارات. إنّ منطق المغالبة لن يُجدي نفعا. وستوفّر التعقيدات القانونيّة الحاصلة والتأويلات الدستوريّة المختلفة مجالات لتحرّك هذا الطرف أو ذاك. فالذين ينتقدون اليوم عدم ختم رئيس الجمهورية تعديلات القانون الانتخابي ويعتبرون ذلك خرقا للدستور يوجّه اليهم خصومهم اتهاما بتعطيل إرساء المحكمة الدستوريّة. ويتهمونهم بترتيب الأمور لفرض مشهد انتخابي على أهوائهم. الحل لا يُمكن أن يكون إلاّ حلا سياسيّا. فتأويل الدستور أو التعسّف عليه من هذا الجانب أو ذاك لن تكون له نهاية. ولذلك فلن تهدأ الأمور، على الأرجح. بل قد يكون مسار الانتقال نحو الديمقراطية كلّه في خطر إذا لم يجد الفرقاء جميعا، دون استثناء لأي منهم داخل السلطة وخارجها، منطقة التقاء وسطى لفض النزاع السياسي الناشب منذ ماي 2018 وفتح صفحة جديدة على قاعدة المنافسة الانتخابيّة والسياسية الشريفة ورفض الإقصاء والقبول الجماعي بتحكيم الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع والإسراع بإتمام مستلزمات الحكم الدائم وبناء مؤسساته المستقرّة وترتيب أقصى ما يُمكن من المشتركات حول مرحلة ما بعد 2019.