على الرغم ممّا قطع من خطوات مهمة في سياق التجربة الانتقالية الديمقراطية، مازال بعض الأطراف يعمل على استعادة أنفاس الإقصاء في مجابهة خصومه ارتهانا إلى إسقاطات انتخابيّة خاطئة وتعويلا على الأكاذيب والإشاعات. لقد فشل منذ فترة قصيرة مجلس نواب الشعب في إقرار تعديل القانون الانتخابي في اتجاه إلغاء الفصل الذي يُقصي المنتمين سابقا الى التجمع الدستوري المنحل من مكاتب الاقتراع ومختلف مراحل العملية الانتخابية. وهو تمييز سالب للحريّة والحق ومكرّس للتفرقة والاستثناء لفئة من التونسيّين وضرب صريح لقيم دستورية في المساواة بين جميع التونسيّين. وما تزال جهات تضعُ إقصاء المكوّن الإسلامي ممثلا في حركة النهضة في صدارة أجندتها الانتخابية. وبات البحث عن توريط النهضة في الاغتيالات السياسية والتنظيمات السريّة هاجسا لدى قوى حزبيّة وسياسيّة إلى الدرجة التي حثّ فيها البعض إلى إعادة تجربة الاستئصال المريرة التي عرفتها بلادنا في تسعينيات القرن الماضي، والحال أنّ ملف الاغتيالات وما بات يُعرف بالجهاز السري من أنظار القضاء وتحت متابعة مجلس الأمن القومي. ويرى كثيرون أنّ أنفاس الإقصاء، المنفوخ فيها هذه الأيام والتي تعيشُ حالة من الزهوّ والغرور، غايتها انتخابيّة دعائيّة وبحث محموم عن التموقع في المشهد السياسي على اعتبار دخول البلاد في الأجواء الانتخابيّة. وقد تزدادُ ضراوة خلال الأسابيع القادمة إذا لم تكن هناك وقفة حازمة راشدة لوقف هذه الاسطوانة وربح الزمن الانتخابي في مطارحة الأفكار والبرامج وطرح البدائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة القادرة على النهوض بالبلاد وخدمة المواطنين. إنّ خطابات الإقصاء المشحونة لا تخدم أبدا أصحابها. بل قد تُصاعف من أزماتهم وعزلتهم في المجتمع. وقد تدفع بهم الى خسارة انتخابيّة جديدة. لا إقصاء الاّ لمن أقصى نفسه أو استبعده القضاء. وتلك هي الروح التي باتت تحرّك بلادنا وتحتاجها لاستكمال بناء الجمهورية الثانية. ولم يُخطئ رئيس الجمهورية في كلمته الأخيرة عندما أكّد على أهميّة الوحدة الوطنيّة ورفض الإقصاء أيا كان الطرف المستهدف. تُثبت التجارب المقارنة، ويُثبت تاريخ بلادنا منذ الاستقلال أنّ مناهج الإقصاء المعتمدة على الشيطنة أو الأجندات البوليسية والأمنية والعسكريّة مضيعة للوقت والجهد وفيها خسارة كبيرة للمجموعة الوطنيّة على جميع المستويات. وتُؤكّد تجربة الثماني سنوات الفارطة أنّه بقدر انتفاء سلوك الاقصاء والاستبعاد وتصعيد معاني الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية الواسعة بقدر ما تهدأ الأوضاع وتتحقق المكاسب. المسار التاريخي والحضاري الثابت والمؤكّد أنّ تونس للجميع. وهي الخيمة التي ستضم اليها كلّ أبنائها من مختلف المشارب والتيارات والعائلات السياسيّة والفكريّة.