- (وات - تحرير مفيدة بن تواتي) - صادق المجلس الوطني التأسيسي، وبأغلبية مطلقة، يوم 26 جانفي 2014 على دستور البلاد الجديد، على إثر مخاض سياسي وقانوني عسير تواصل أكثر من عامين، عرفت خلالهما تونس أحداثا صعبة وصراعات كبيرة كادت تعصف بالإنتقال الديمقراطي وتقضي على أحلام التونسيين في العيش، في ظل دستور ديمقراطي مدني يضمن الحقوق والحريات ويصون ثروات البلاد وسيادتها. ويحيي التونسيون هذه الذكرى، وهم يستحضرون ما شهدته سنوات التأسيس (20112014)، من ملابسات مثيرة وخطيرة حفّت بميلاد "الجمهورية الثانية". فقد عرفت البلاد خلال تلك الفترة صراعات فكرية وإيديولوجية وسياسية، كان محورها الأساسي مضامين الدستور الجديد، خاصة في ما يتعلق بمدنية الدولة وحرية الضمير وطبيعة النظام السياسي واستقلالية الإعلام والقضاء. وبلغت تلك الصراعات أوجها مع اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهو ما وضع تونس في مواجهة المجهول الذي هدّد عملية الإنتقال الديمقراطي واستقرار البلاد، باعتبار أن تلك الأزمة الخانقة تحمل في طياتها خطر نشر الفوضى والعنف، لا سيما في وقت تسبب الإرهاب في تهديد صارخ لأمن البلد. ومن رحم تلك الأحداث المأساوية التي امتزجت بدماء الشهداء من سياسيين وأمنيين وعسكريين، ومن صميم الأزمة السياسية التي تردت فيها تونس، خاصة إثر اغتيال محمد البراهمي في 25 جويلية 2013 ، ذكرى عيد الجمهورية، و"اعتصام الرحيل" الذى تمت المطالبة خلاله بحل المجلس الوطني التأسيسي وإسقاط منظومة حكم الترويكا (حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)، دخلت البلاد منعرجا جديدا وضع المجلس والترويكا في موقع المساءلة. وقد فرضت الأحداث على المجلس التأسيسي، تسريع الإنتهاء من كتابة الدستور كما أجبرت حكومة الترويكا على الإنسحاب من الساحة، بالنظر إلى الإتهامات التي وُجهت إليها بتعطيل تأخير سن الدستور، باعتبار أن حركة النهضة، (ذات المرجعية الإسلامية)، حكمت البلاد وفق منهج "الإسلام السياسي" الذي واجهته قوى المعارضة وممثلو المجتمع المدني الذين نادوا ب"مدنية الدولة التونسية" وتم تحميل حزب النهضة "المسؤولية السياسية في تعفن الأوضاع وانزلاق البلاد إلى حالة من الفُرقة والعنف". وسط تلك المفارقات المفصلية في مسار كتابة الدستور، تراءت نقطة ضوء بين ثنايا الصراع السياسي والمجتمعي المستعر والنزاع المحتدم آنذاك والتي مهّدت لولادة جديدة لمسار الإنتقال الديمقراطي .. بصيص الأمل هذا جسده مبدأ "التوافق"، إذ برزت مساع من شخصيات وطنية لتقريب وجهات النظر ولبناء حوار وطني من أجل الخروج من الأزمة. وانتجت تلك المساعي "حوارا وطنيا" قادته 4 منظمات وطنية، وهي الإتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وهي مبادرة نجحت في تعديل البوصلة واستحقت عن جدارة إحراز تونس "جائزة نوبل للسلام"، ممثلة في هذا الرباعي. هذا الحوار الوطني الذي امتد خلال الفترة من 17 سبتمبر إلى 14 ديسمبر 2013، جعل قيادات 21 حزبا سياسيا، تتفق على تشكيل حكومة تكنوقراط، مهمتها الإعداد للإنتخابات، وإحداث لجنة توافقات صلب المجلس الوطني التأسيسي، مكّنت من تسريع الأشغال، ومهّدت للمصادقة على الدستور، في الليلة الفاصلة بين 26 و27 جانفي 2014 ، في مشهد "توافقي" كانت من أبرز لحظاته، عناق تناقلته جميع وسائل الإعلام، بين إسلامي ويساري .. مشهد صفّق له وقتها المؤسسون واعتبره الملاحظون من علامات "الإستثناء التونسي". ولكن هذا "التوافق" اعتبره بعض السياسيين والمحللين وخبراء القانون، توافقا غير متكافئ بين الإسلاميين وغيرهم من التوجهات الفكرية والإيديولوجية المغايرة، أنتج دستورا منقوصا، كانت بعض مضامينه رهينة توازنات سياسية وإيديولوجية، وأسّس لنظام سياسي "هجين"، مثلما أن إجراءاته المعقّدة أربكت عمليات تركيز الهيئات الدستورية، فالمحكمة الدستورية مثلا والتي هي أساس هذا الدستور، لم تر النور بعد. ومن منطلق سياسوي يحمل في ظاهرة وجوها قانونية متعددة ومختلفة، برزت قراءات وانتقادات كثيرة بلغت حد مطالبة بعض الأطراف السياسية ومختصين في القانون الدستوري بضرورة تلافي النقائص التي تضمنتها النسخة النهائية المصادق عليها. غير أن تعديل الدستور (كما يقتضيه النص والسياق السياسي)، يحتاج إلى "توافق" وتحالفات متينة ومستقرة. فالتصويت على تعديل ما، يتطلب تصويت الأغلبية المطلقة، وهو أمر ليس من اليسير تحقيقه في ظل مشهد سياسي راهن يطبعه التفتت وتحكمه تجاذبات حادة، عشية استحقاقات انتخابية (تشريعية ورئاسية موفّى 2019)، تمثّل لوحدها عائقا أمام "تطوير" محتمل لنص الدستور، لا سيما في ما يخص "عيوب النظام السياسي الحالي"، وعائقا أمام نجاح مسار التنمية وتحقيق الإستقرار الإجتماعي. 2014 في دستور 2014 .. بين توترات التأسيس والتأسيس للتوترات وفي هذا السياق، اعتبر عبد الرزاق المختار، أستاذ جامعي مختص في القانون العام، أن "الثورة التونسية كان لها تمثل دستوري تجسّد في دستور 27 جانفي 2014 "، الذي نصّ في توطئته على أنه "دستور الثورة". وتابع المختار في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء: "لقد كانت الثورة ذات بعد اجتماعي، ونحن نلحظ في دستور 2014 طفرة للبعد الحقوقي والسياسي، ولكن دون رؤية اجتماعية واضحة، أو ما يسمى بالدستور الإجتماعي". ولفت في هذا الصدد إلى عدم التنصيص في الوثيقة على منوال تنمية واضح، وإلى غياب "التزامات" أو "وعود دستورية" صريحة للدولة إزاء مواطنيها، على المستويين الإجتماعي والإقتصادي. وبيّن أن الدستور في صياغته، ورغم المشاركة الواسعة للمجتمع المدني والسياسي، كان في جانب منه "دستور توترات"، معتبرا أن "التوترات السياسية التي رافقت مرحلة التأسيس، قد انتقلت إلى النص المؤسّس". ولاحظ في السياق ذاته، أن "التوافقات المجتمعية والسياسية أبقت عديد المسائل معلّقة وتنتظر التأويل اللاحق من القضاء ومن المحكمة الدستورية، مثل مسألة حقوق الإنسان، والإلتزام بالقيم والثوابت الإسلامية". وأضاف أستاذ القانون العام أن التأويلات، التي ستكون الفيصل، قد تطرح إشكاليات على مستوى التطبيق في المحكمة الدستورية التي يخضع أعضاؤها إلى الإنتخاب من قبل البرلمان، خاصة في بعض المسائل من قبيل حرية الضمير ودور الدولة الراعية للدين وحماية المقدسات وتطوير التشريع المتصل بالميراث، على سبيل المثال، متسائلا: "هل ستكون المحكمة الدستورية يمينية محافظة، أم ليبرالية متحررة ؟". وبخصوص النظام السياسي وحديث الكثيرين عن وجوب تعديله، وخاصة من قبل رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، قال عبد الرزاق المختار "إن من صاغوا الدستور لم يقعوا في خطأ تقديري عند وضعهم للنظام السياسي الحالي، وإنما تعمّدوا إرساء هذا النظام"، مبّينا أن معظم الأطراف وجدت ضالتها في النظام السياسي المزدوج، بين الرئاسي والبرلماني، فالأطراف التي بحثت عن دور برلماني لها، دافعت عن النظام البرلماني، وتلك التي كانت متخوفة من تغوّل رئيس الجمهورية، حرصت على تقليص صلاحيات الرئيس. وبيّن أن التصوّر كان ملائما لحسابات عديد الأطراف السياسية، "غير أن المعادلة طالها التزييف لاحقا بواسطة الممارسة السياسية، إمّا عبر التحالف بين نداء تونس والنهضة، والذي أدّى إلى عدم وجود قوّة معارضة رئيسية وقوّة برلمانية قوية، أو من خلال سعي رئيس الجمهورية الحالي إلى تعطيل عمل حكومتي الحبيب الصيد ويوسف الشاهد". وأضاف أن مصالح الوافدين الجدد على العمل السياسي بعد انتخابات 2014، لا تتماشى مع النظام السياسي الحالي، لأن مدار اللعبة السياسية يصبح في ظل نظام سياسي مغاير، "مدارا فرديا". كما أعرب الجامعي عن اعتقاده بأن مسألة تقييم الدستور، ستكون خلال العهدة البرلمانية القادمة أي بعد انتخابات 2019، مشيرا إلى ضرورة أن يتم الشروع في التقييم مبكرا وذلك لضمان استكمال تطبيق الدستور، مؤكدا في ختام تصريحه أن "وثيقة الدستور في صياغتها الحالية، رغم النقائص، فهي تظل جيدة، وهناك متسع من الوقت لاستكمال تنزيلها وتقييمها". دستور يضمن عدم الإنزلاق نحو الفراغ .. والتعديل يحتاج إلى مزيد من الوقت من ناحيته، اعتبر مقرّر دستور 2014، النائب الحبيب خضر (كتلة النهضة)، أن الخلاف الأخير بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية حول التحوير الوزاري، أثبت عكس ما دعت إليه أصوات تعالت في الفترة الأخيرة، وقالت إن الدستور الحالي "غير مناسب لواقعنا". وأوضح أن مقتضيات الدستور كانت خير ضمانة للحيلولة دون الإنزلاق نحو المجهول والفراغ خلال فترة اتسمت باحتدام الأزمة السياسية بين القصبة وقرطاج، خاصة في مستوى توزيع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وكيفية اشتغال ثنائية رأس السلطة التنفيذية. وتابع خضر قوله: "هذا يجعل الدعوات إلى تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي، دعوات متسرّعة لا وجود لمبرر لها في النص"، مؤكدا أن "تحقيق الأفضل يقتضي العمل على إكساب المشهد السياسي، وخاصة المشهد الحزبي، مزيدا من الصلابة والعمق، وجعله مشهدا قائما على الأفكار والرؤي والبرامج، وليس مجرد مشهد مرتبط بالأشخاص". ولاحظ أنه "لم يتبيّن إلى حد الآن وجود دواع جدية لتعديل سريع الدستور، وأن الواقعية تقتضي العمل أوّلا على استكمال تنزيله، ثم في ما بعد تقييم الرؤية الدستورية كاملة بعد اختبارها على محك الواقع، ليتم آنذاك تدارك ما قد يظهر فيها من نقص أو خلل، كما أنه لا يمكن الخوض في مسألة التعديل قبل تنزيل المحكمة الدستورية". وقال الحبيب خضر "دساتير الدول الديمقراطية تُعدّل بعد فترات زمنية هامة، أما دساتير الدول الدكتاتورية فتُعدّل عادة قبل المحطات الإنتخابية، وكلّما أراد الحاكمون بأمرهم ذلك"، وفق تعبيره. على صعيد آخر، أكّد النائب عن حركة النهضة، أن "التجربة أثبتت منذ الثورة، أن ما قرره الدستور من خيارات مرتبطة بالحقوق والحريات، كانت مكسبا هاما"، مستدلا بالإضراب العام الأخير الذي نفذه الإتحاد العام التونسي للشغل في القطاع العام والوظيفة العمومية. وقال في هذا الصدد: "عشنا إضرابا عاما سعى البعض إلى التخويف منه، من خلال استحضار ذكرى أحداث جانفي 1978 الأليمة، ولكن تونس الحرية والديمقراطية غير تونس الإستبداد والحكم الفردي". وبخصوص بعض "التناقضات" في باب الحقوق والحريات وخضوع المبادئ التى ضمنها الدستور لمنطق التأويل، ذكر الحبيب خضر أن دستور 2014 هو دستور "تونسي بامتياز، يعكس حقيقة الشعب والبلاد"، مُذكّرا بأن "تونس دولة نظامها جمهوري، لغتها العربية ودينها الاسلام، وهي في الوقت ذاته دولة مدنية، بما يؤكد أن مدنية الدولة لا تعني فهما متعسفا يجعل من المدنية عدوا مصادما للدين"، حسب تقديره. وأوضح أن "ما تقرر في الدستور، يجب أن يتم فهمه فهما منسجما كليا، لا فهما قائما على الإنتقائية، بما يؤدي إلى تحريف المقصد"، وهو ما أكده الفصل 146 من الدستور الذى نص على ما يلي: "تفسر أحكام الدستور ويؤوّل بعضها البعض كوحدة منجسمة". أما في ما يتعلق بالنقائص على مستوى التنمية الإجتماعية، فقد لفت الحبيب خضر إلى أن النص الدستوري لا يحدث التنمية، وإنما يضع الأسس لتحقيق ذلك. وهذا ما أكّده الدستور من خلال تثبيت الحقوق الإجتماعية، كالصحة والشغل والتغطية الإجتماعية والتمييز الإيجابي والتنمية العادلة، مبينا أنه على السلطة التنفيذية ومختلف سلطات الدولة أن تراعي هذه المعاني والتوجهات الدستورية وتلتزم بها عند معالجتها للملفات الإقتصادية والإجتماعية. وبشأن الإنتخابات، لاحظ المتحدث أن النص الدستوري، في علاقة بالقانون الإنتخابي، لم يخض في التفاصيل، وإنما اكتفى بالتوجّهات، واقتضى على سبيل المثال أن تكون انتخابات حرة، نزيهة وشفافة وأوكل مهمّة الإشراف عليها إلى هيئة مستقلة، مشيرا إلى أن القانون الإنتخابي يظل قابلا للتحسين والتعديل. وقال في هذا السياق: "ما من شك في أن بعض ما ينسب من إشكالات أو نواقص في المشهد الحالي، ترجع إلى القانون الإنتخابي، وليس إلى الدستور". تعديل النظام السياسي ضرورة ومبتغى صعب دون موافقة النهضة أما حاتم مراد، أستاذ العلوم السياسية ورئيس الجمعية التونسية للدراسات السياسية، فقد أشار في تصريحاته ل"وات" إلى أن "الدستور، الذي بدا دستورا توافقيا بين الإسلاميين واللائكيين، لم يتم التفكير عند صياغته في نتائج تطبيقه، وفي كيفية اشتغال النظام السياسي المزدوج الذي تم اختياره". وأوضح أن كيفية تطبيق الدستور مثلت تحديا مثلما أنها شكلت أمرا لا يمكن إدراكه مسبقا، وخاصة في ما يتعلق بباب الفصل بين السلط وصلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وكيفية التنسيق بين رأسي السلطة التنفيذية وتنظيم التعامل بين طرفي الحكم والمعارضة. واعتبر أنه بعد 5 سنوات من تطبيق الدستور، "اتضح أن الخطأ الكبير تمثل في النظام السياسي في حد ذاته، فتطبيقه لم يكن مستقرا، وتسبب في أزمات سياسية بين رئاستي الحكومة والجمهورية، وشهد تطبيقه تجاذبات في التأويل بين الأحزاب السياسية". ولاحظ حاتم مراد أن النظام السياسي أصبح، "نظام أحزاب سياسية ويخضع لمنطق تأويل كل طرف، حسب مصالحه"، معتبرا أن "من بين أخطاء النظام السياسي الحالي، إحداث سلطة تنفيذية برأسين، وتحصين البرلمان من المساءلة، إذ أن صلاحيات حل البرلمان التي تم إعطاؤها لرئيس الجمهورية، يستحيل تطبيقها على أرض الواقع، مقابل إعطاء صلاحيات كبيرة لرئيس الحكومة، ما عدا مراقبة البرلمان، وهو ما يفسر السياحة البرلمانية ووجود ملفات فساد لدى عدد من النواب". وأكد أن تونس اليوم على المستوى السياسي، تجد نفسها أمام وضعية تعطيل، وهو ما يطرح الحاجة إلى تعديل الدستور من أجل ضمان شروط انتقال تنموي وديمقراطي سلس ومتوازن. كما ذكر أن "تعديل الدستور لا يمكن أن يتم في صورة رفض النهضة، وذلك حتى صلب البرلمان القادم"، معتبرا أن هذا الحزب الذي كان الطرف الأغلبي في المجلس الوطني التأسيسي، "ساهم في وضع دستور يخدم مصالحه، سواء كان في الحكم أو في المعارضة" ومشيرا إلى أن "حركة النهضة تمتلك قاعدة انتخابية تمكنها من المحافظة على دور برلماني مؤثر لها في السنوات القادمة". تعديل الدستور ممكن، لكن الطبقة السياسية غير ناضجة عبد اللطيف الحناشي، الكتاب والمؤرخ، اعتبر أن الدستور يعد" مكسبا كبيرا لتونس" ووصفه ب"دستور القرن 21 في العالم"، لأنه تضمّن فصولا فريدة من نوعها، مقارنة بدساتير أخرى، مضيفا أن الدستور تضمّن العديد من الفصول الفارقة والتقدمية في المنطقة، على غرار الفصل 6 الذي ينص على حرية الضمير والفصول المتعلقة بالحريات الأكاديمية وبقضايا المرأة والبيئة. وتحدث كذلك عن أهمية السياق التاريخي الذى رافق كتابة الدستور خلال فترة المجلس الوطني التأسسي، مشيرا الى أن الدستور الذى "كتب في الشارع" شهد مشاركة مكثفة من المجتمع المدني الذي كان يلاحق النواب ويناقشهم فى كل مراحل التأسيس. وعن فترة التوافق التي أثمرت الدستور الجديد، اعتبر الحناشي أن المظاهرات والفعاليات والمواجهات التى شهدتها تونس آنذاك، هي مشاهد تحدث في الثورات الكبرى، توّجت بالتوافق الذي أنقذ تونس من حرب أهلية وتمت على أساسه المصادقة على الدستور وأوجد أرضية مشتركة بين التونسيين ترتكز على قبول الإختلاف ووضع مضامين دستورية نابعة من طبيعة الهوية التونسية. وأضاف أن "المصالحة الدستورية"، سمحت لتونس بتأسيس جمهورية ثانية، بأخف الأضرار، مقارنة بدول ما يُعرف ب"الربيع العربي" والتي لم تختر التوافق وإنما انتهجت مسار "الإقصاء السياسي" و"تفرد منظومات الحكم بالقرار الدستوري"، مشيرا الى أن مرجعية الدولة التونسية التي عرفت أول دستور لها وأول دستور في العالم العربي في سنة 1861 والذي كرّس عديد المبادئ والمؤسسات السياسية والإدارية الهامّة في تونس، كان لها دور كبير في سن دستور 2014. واعتبر أن تونس التي كانت سباقة في وضع قوانين فريدة وتقدمية في العالم العربي، على غرار مجلة الأحوال الشخصية التى لاقت في بدايتها رفضا، يحتاج دستورها إلى مزيد من الوقت حتى يؤتي أُكله، قبل التفكير في تقييمه واحتمال تعديله، قائلا في هذا السياق: "نعتز بالدستور، بما فيه من نقائص وهو يعد إنجازا مميزا في تاريخ تونس". وأوضح أن الدعوات إلى التعديل، رغم أهميتها، فهي في حاجة إلى استقرار سياسي، من أجل تفعيلها وتجسيدها على أرض الواقع، مبينا أن الصراعات الحادة على المستوى السياسي والإيديولوجي، قد تحُول دون حلحلة هذه الدعوات التي تحتاج إلى فتح باب النقاش وإلى البحث عن التوافقات الواسعة كشرط أساسي من أجل التعديل. وفي هذا الصدد قال الحناشي: "النظام السياسي، يمكن مراجعته في الدستور، بالإضافة إلى الفصول ذات العلاقة بقضية المساواة، وذلك حتى تكون منسجمة مع القوانين الموجودة في البلاد وتكون خاضعة للتحولات في المجتمع". واعتبر في هذا السياق أن "الحديث عن عدم إمكانية تعديل النص الدستوري، دون موافقة حركة النهضة، أمر غير واقعي، لأن الحراك السياسي وخاصة المجتمعي هو من لديه كلمة الفيصل، مثلما ما حدث خلال كتابة الدستور"، معتبرا أن "حركة النهضة عليها أن تتكيّف مع الواقع التونسي أو أنها ستندثر من المشهد العام على المدي الطويل". وبيّن في المقابل أن "الإشكال المطروح يتمثل في النخبة السياسية المقابلة للتوجه الإسلامي وكيفية تعاطيها مع الأوضاع والمستجدات في البلاد، إذ أنها لاحت غير قادرة على رص الصفوف وتوحيد الرؤى في اتجاه خلق توازن سياسي قوي وبالتالي وضع نظام جمهوري ثابت ومستقر محمي بدستور قابل للتأويل والتطبيق". واقترح للحفاظ على "سنة التوافق" ، أن يتم الابقاء على النظام المزدوج بين البرلماني والرئاسي، مع اعطاء صلاحيات جديدة لرئيس الجمهورية، وكبح صلاحيات السلطة التشريعية التى لا تخضع للمراقبة والمساءلة في دستور 2014، واعتماد عتبة 5 بالمائة فى النظام الإنتخابي وذلك لتشكيل قوى سياسية كبرى في البرلمان يكون مرودها سواء في الحكم أو في المعارضة، ذا جدوى وفاعلية. ولكنّه تساءل في الوقت ذاته عن "مدى قدرة البرلمان القادم على مواجهة التحديات المرتبطة بالدستور، في ظل مشهد سياسي غير مستقر تتقاذفه التجاذبات الحادة أحيانا والتي تمسّ من استقرار الأنموذج الديمقراطي التونسي، قبيل إجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.