يتمتع أعضاء المؤسسات الدستورية والهيئات الأخرى بما يسمّى بالحصانة وهو مفهوم هدفه الأساسي حماية القائمين على تطبيق القانون أو المشرعين له حتى يعملوا بكل استقلالية وأريحية دون التعرض للضغوطات والتزثيرات ليقوموا بمهامهم في أحسن الظروف والوجوه. ولكن وبالرجوع الى أرض الواقع والناحية العملية فإن هذه الأداة أي الحصانة التي وُضعت لحماية ممثلي هذه المؤسسات والهئات لم يقع ضبطها وتحديدها بكل دقة تفلاديا لكل التجاوزات ومثال ذلك ما نلاحظه خلال أشغال مجلس نواب الشعب من خطاب متشنج وما يأتيه بعضهم من ألفاظ نابية وعبارات جارحة نحو زملائهم وخصومهم حتى من خارج محيط المجلس ويصل بهم الأمر أحيانا للتشابك والسب والشتم على مرأى ومسمع من الجميع خاصة وأن المداولات منقولة تلفزيا. ورغم ذلك لم نلمس اجراءات فعلية لردع مثل هذه التصرفات والممارسات وذلك بناء على ما يتمتع به النائب من حصانة. وفي المقابل يحاكم المواطن العادي على أعمال وقضايا أقل أهمية وخطر على الغير وعلى المجتمع وهذا التمييز بين الحالتين يتناقض بما جاء في الفصل 21 من دستور جانفي 2014: «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز...». ويتدعم هذا التمييز ويتأكد بالفصل 68 الذي يبين أنه «لا يمكن إجراء أي تتبع قضائي مدني أو جزائي ضد عضو مجلس النواب أو إيقافه أو محاكمته لأجل آراء أو اقتراحات يبديها أو أعمال يقوم بها في ارتباط بمهامه...». هذا الفصل يحمي النواب ويستعمله بعضهم للمسّ من الاشخاص أو المؤسسات دون التقيّد بضوابط أخلاقية وحتى في صورة تطبيق القانون أحيانا فإن النائب يجد دائما تغطية في صورة إذا ما ارتكب جريمة وذلك بناء على الفصل 69 من الدستور: «.. أما في حالة التلبس بجريمة فإنه يمكن إيقافه، ويعلم رئيس المجلس حالا على أن ينهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك». وبطبيعة الحال نحن نعرف أنه من عادة أعضاء المجلس المحترمين التضامن والتآزر في مثل هذه الحالات فقط استنادا لمبدإ: أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. ومن الأمثلة أيضا أن البلاد عاشت بعد 14 جانفي 2011 سلسلة من الاحتجاجات والاضرابات المتوحشة أحيانا والتي مسّت ميادين حيوية ومنها النقل والتعليم والصحة والمناجم وغيرها وذلك استنادا لما جاء في الفصل 36 من الدستور: «الحقّ النقابي بما في ذلك حقّ الاضراب مضمون». وأصبح شعارا تستعمله النقابات دون مراعاة ما يترتب عن بعض هذه التصرفات من مساس ومضار بالمصلحة العامة والخاصة للمواطنين وأحيانا تضامنا مع بعض «الرفقاء» حتى وإن تجاوزوا القانون. ولم يوضح هذا الفصل أن حق الاضراب مضمون ولكن حق العمل واجب مقدس وهنا يظهر الخلل وعدم التوازن في مضمون الفصل. ومما يلاحظ أخيرا خروج بعض النقابات عن المنظمة الأم التي تحتضنهم وهي الاتحاد العام التونسي للشغل وأخذ قرارات أحيانا دون موافقتها. ومن الأمثلة كذلك سلوك بعض الهيئات وما تتمتع به من حصانة نذكر هيئة الحقيقة والكرامة والتي كانت مهمتها الأساسية تحقيق مصالحة وطنية حقيقية على غرار ما وقع في جنوب إفريقيا وغيرها لكن تكوينة هذه الهيئة منذ البداية تأسست على مبدإ محاسبة رجال الفترة لاسابقة لتاريخ 14 جانفي 2011 وتحميلهم كل المآسي التي تعيش فيها تونس حاليا وهو تجنّ صارخ وواضح في حق من ساهم في تحرير البلاد وبناء الدولة العصرية بتلفيق تهم وشهادات لا تمت للحقيقة بأي صلة فحادت هذه الهيئة عن مهمتها الأساسية وبثت الأحقاد والتفرقة بين المواطنين مستندة الى حصانة تحدّت بها رئيستها كل الآراء والقوانين وحتى عدد من أعضاء الهيئة نفسها وما سببته من فساد وإهدار للمال العام. ومن أنواع الحصانة ما تمتع به الاعلام في هذه الفترة من حرية تمّ استعمالها في عديد الحالات في غير موضعها وأصبحت وسيلة بيد بعض القوى السياسية أو الاقتصادية لتمرير بعض الايديولوجيات أو خدمة مصالح وأهداف أطراف معينة فتناسلت المحطات الاذاعية والتلفزية والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت تتسابق لما يُعرف ب «البوزْ» الاعلامي فتشابهت البرامج وأعطت الفرصة لأشباه الصحفيين والدخلاء على المهنة فاختلط الحابل بالنابل وابتعد الاعلام التونسي عن مهامه الاصلية المتمثلة في التوعية والتثقيف والتربية الوطنية الصادقة والتسلية الذكية دون السقوط في التهريج والتجريح والتقليد الأعمى وحتى لا تتحول بعض الوسائل الاعلامية الى «مؤسسات خيرية» والأخرى الى مؤسسات وعظ وإرشاد والبعض الآخر اختص في البرامج الهابطة وهتك الأعراض. ومن المظاهر الأخرى للحصانة ما يُسمّى بالحصانة الديبلوماسية حيث لاحظنا منذ مدة ما يأتيه بعض ممثلي البعثات الديبلوماسية حيث لاحظنا منذ مدة ما أتيه بعض ممثلي البعثات الديبلوماسية ببلادنا من تدخل مبالغ فيه في الشأن الوطني وتنقل بعضهم من مكان الى آخر ومن حدث الى آخر، ومن مناسبة الى أخرى دون رقيب حتى ولو كانت بعيدة عن مشمولاته وهذا يعدّ من أنواع التجسس وهو بعيد عن العمل الديبلوماسي ويتطلب مزيدا من اليقظة والتابعة من السلطة الوطنية. ويمكن في هذا السياق ذكر التداخل والتعامل والتعاون بين بعض الجمعيات أو المنظمات والهيئات ودول أجنبية أو منظمات دولية التي تغدق عليها الأموال وتدعمها سياسيا وإعلاميا دون تحرّ أو مراقبة جدية من الجهات المعنية. وفي خاتمة هذا المقال أقول إن الفصل في مختلف هذه المسائل يرجح بطبيعة الحال للقضاء والذي يتمتع هو الآخر بحصانة حسب الفصل 102 من الدستور والذي جاء فيه: «... القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون...». ويؤكد الفصل 104 هذه الحصانة: «يتمتع القاضي بحصانة جزائية، ولا يمكن تتبعه أو إيقافه ما لم ترفع عنه، وفي حالة التلبّس بجريمة يجوز إيقافه وإعلام مجلس القضاء الراجع إليه بالنظر الذي يبتّ في مطلب رفع الحصانة». وهذه الوضعية تُحيلنا الى ما تمّ تحليله في خصوص رفع الحصانة البرلمانية وهي هنا مرتبطة برأي المجلس الأعلى للقضاء ومع احترامنا لهذه الهيئة فإن ما صاحب تكوينها من تجاذبات سايسية وتأثيرات خارجية يجعل مهمتها صعبة على شرط تخلصها من التأثيرات السياسية وغيرها ويتحرّر القاضي اليوم برسالته حسب ما يمليه القانون. وخلاصة القول أن مفهوم الحصانة يتطلب مزيدا من التدقيق والتوضيح وإن تفعيله وتطبيقه في شتى المجالات يتطلب النزاهة والشفافية والشجاعة عند تطبيق القانون دون محاباة أو مراعاة طرف على حساب طرف آخر.