تمهيد سأحاول أن لا ألوك ما قيل وما سمعته في عديد القنوات التلفزية والإذاعية اثر وفاة المغفور له بإذن الله المرحوم الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية التونسية. عندما تكون الأوجاع والآلام كبيرة يخير الإنسان الكريم أن يلوذ إلى الصمت باعتبار أن الصمت هو وجه من وجوه الصبر والسلوان. 1) عرفت الفقيد لعديد السنوات أثناء مباشرتنا مهنة المحاماة وكان زيادة على حضور البديهة الملفت للنظر لديه وعن أجوبته وردوده العفوية التي تتسم بالخبرة وعمق التفكير كان لبقا، ومرحا وذا تحاليل غاية في الأناقة وبُعد النظر. إنه الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي الذي رحل يوم الخامس والعشرين من شهر جويلية 2019 تاركا لنا وللعالم العربي الإسلامي وللعالم أجمع فراغا مدوّيا يصعب علينا ملؤه من بعده. دخل عالم السياسة وشارك في الملحمة البطولية التي قادها الزعيم المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وهي ملحمة الحصول على الاستقلال وإنشاء أول جمهورية وكان ذلك يوم 25/7/1957 . شغل الفقيد عديد المناصب الحساسة في دولة الاستقلال ومن أهمها وزارة الخارجية التي تمكن بجرأته وحكمة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أن ترفع شأن تونس إلى ابعد مستويات العلاء باعتبار ولأول مرة يقع إدانة الكيان الصهيوني اثر غارته الغادرة على مدينة برج السدرية بولاية بنعروس بدون أن تُفعّل الولاياتالمتحدة الأميركية حقها في النقض وكان ذلك في غضون شهر أكتوبر 1985. 2) الملحمة : إن الحديث عن وقوفه بجانب الحق وخدمة القانون وإعلاء كلمته يمثل في حد ذاته ملحمة بدأت منذ العهد البورقيبي مع تكوينه لمجموعة الديمقراطيين الاشتراكيين (M.D.S) برئاسة المغفور له السيد حسيب بن عمار واستقالته من الحزب الاشتراكي الدستوري ليؤمه من جديد بعد إعلان السابع من نوفمبر 1987 من طرف الرئيس السابق السيد زين العابدين بنعلي وكأغلبية الوطنيين والدستوريين الذين امنوا بما جاء في هذا البيان التحق بالتجمع الدستوري الديمقراطي وانتخب كرئيس لمجلس النواب لكن بعد ثلاث سنوات من صدور البيان المذكور شعر بخيبة أمل في التمشي الديمقراطي المزعوم من طرف الرئيس السابق بنعلي واعتزل السياسة وكرّس جميع وقته للكتابة والمحاماة وشاءت الأقدار أن يرجع من جديد إلى عالم السياسة بعدما انطلقت شرارة ما يسمى "ثورة 11 جانفي 2011" وهروب الرئيس السابق ولجوئه إلى العربية السعودية وأمام التحديات الجسام التي واجهتها تونس آنذاك من انخرام للنظام العام واستهتار بالقانون وخروج عديد المجموعات لتنهب البلاد وتقوض امنه وامن المواطنين استجاب لنداء الواجب الوطني بعدما دعاه السيد فؤاد المبزع رئيس الجمهورية المؤقت ليعتلي سدة رئاسة الحكومة في هذا الوقت بالضبط أظهر المرحوم الباجي قائد السبسي عبقريته في تسيير شؤون البلاد بحس وطني لا مثيل له وبتعلق مسؤول في تطبيق القانون وليتسنى له أن يسهر على إجراء أول انتخابات تشريعية نزيهة وشفافة في تونس والجدير بالملاحظة انه كان محاطا بعديد الوطنيين الأحرار الذين كانوا يقاسمونه نفس الشعارات والتي تتلخص في علوية دولة القانون ( Etat de Droit) وفي 23/10/2011 أجريت أول انتخابات تشريعية شفافة تحصلت إثرها النهضة على الأغلبية التي مكنتها من الارتقاء إلى سدة الحكم وانتخاب رئيس لها وهو السيد محمد منصف المرزوقي وان ننسى لن ننسى كيفية انتقال الحكم من يده إلى يد السيد حمادي الجبالي الذي اختارته النهضة أن يكون رئيس الحكومة الجديد فكان انتقال السلطة انتقالا ديمقراطيا لا مثيل له في العالم العربي الإسلامي وفي العالم الثالث بصفة عامة وكيف مكّن السيد حمادي الجبالي من هاتفه الجوال كرئيس حكومة ومن مفاتيح سيارته بعدما ودعه بكل لطف وبكل أناقة هنا يكمن الدور التاريخي الحقيقي للمرحوم محمد الباجي قائد السبسي في ترسيخ المد الديمقراطي في بلادنا وإرساء أسس دولة القانون بامتياز (Etat de Droit) وفي كافة بلدان العالم العربي الإسلامي وبعد تفرس النهضة بالحكم وظهور وجهها الحقيقي كحزب ديني سلطوي ينادي بالرجوع إلى الخلافة والى تطبيق الشريعة ملوّحا عرض الحائط بالمكاسب الحقيقية للشعب التونسي من مدنية الدولة ومن مساواة بين المرأة والرجل والتفتح على الشعوب الأخرى في مد ممزوج بروح المحبة والتسامح لاح للمرحوم الزعيم محمد الباجي قائد السبسي إنشاء حزب جديد يستطيع أن يحد من التمادي المخيف الذي انتهجته النهضة والذي اتسم بعديد الاغتيالات السياسية الرهيبة وبتهافت لا مثيل له من المجموعات الإرهابية على أقدس مقدسات الشعب التونسي وهي لحمته الوطنية ووحدته الصماء بإنشاء إمارة سجنان وغيرها من محاولات تمزيق هذا البلد الجميل وهتك الروح الوطنية الحصن الحصين للشعب التونسي فكان حزبه حزب "نداء تونس" حزبا جامعا لكافة الطاقات الفكرية الوطنية التي ترفض الإرهاب والعبث بمصلحة البلاد وفي 29/12/2014 انتخب المرحوم الباجي قائد السبسي كأول رئيس للجمهورية التونسية اثر انتخاب عام وشامل بأغلبية مريحة ناهزت 54% من الأصوات المدلى بها وكان شاهدا وصانعا لثاني انتقال سلس ودستوري للسلطة اثر تسلمه مقاليد السلطة من طرف الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي. 3) الزعيم الباجي رجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي الإسلامي : وإن لا يتسع المجال لذكر مناقب الفقيد بأسرها فانه من المتجه التذكير بأنه أول رئيس للجمهورية وقع انتخابه بعد إجراء انتخابات حرة وشفافة لا في تونس فقط بل في العالم العربي الإسلامي، كما لا يسعنا أن نذكر القارئ الكريم بروح الدعابة التي كان يمتاز بها في جميع تدخلاته وخطبه وبعد نظره في جميع المسائل الوطنية والعالمية والصداقات التي نسج خيوطها مع ابرز رؤساء العالم أمثال اوباما ومركل والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون (Emmanuel Macron) لتمثّل حقا نبوغ الرجل واتساع معارفه الثاقبة وبعد نظره وحكمته سيذكر التاريخ بان الزعيم المرحوم أولى لدولة القانون كل مقدوراته الفكرية وكان من ابرز المدافعين عنها ومن أشجع المتمسكين بها وما رفضه ختم القانون الإضافي لقانون الانتخابات المؤرخ في 26 ماي 2014 شهرا قبل البدء في الانتخابات التشريعية والرئاسية ليمثل حقا مدى تشبع الرجل بميزات دولة القانون والذود عن حرمتها وعن احترام حقوق الإنسان في شموليتها وكونيتها بدون إقصاء أو تعدّ على حقوق الأقليات قال شاعرنا ابو القاسم الشابي : «إذا الشعب يوما أراد الحياة **** فلا بد أن يستجيب القدر» بقلم الأستاذ محمد العيد الأدب (المحامي لدى محكمة التعقيب) وكأني بالمرحوم محمد الباجي قائد السبسي انه أراد "الممات" في يوم هو أعلى وأغلى عيد وطني على التونسيين وهو عيد الجمهورية الموافق للخامس والعشرين من شهر جويلية فكان له ذلك لشدة تعلقه بدولة القانون واستجاب له الله والقدر معا ولنقلها صراحة انه ومهما اجتهدنا في ذكر مناقبه لا نستطيع أن نقف على جميع مآثر هذا الزعيم كما لا نستطيع أن نذكّر بجميع مواقفه في مثل هذا المقال وان طال ولكن يتجه القول بأنه رجل دولة بامتياز ووطني إلى حد النخاع ورجل حقوق الإنسان وكان يذكّر الجميع بمقولته الرائعة "الوطن قبل الحزب" " La Patrie avant les Partis " ولكن الانقسامات الحزبية وتدني المستوى في ما يخص "الإحاطة" بالشأن العام جعله يعيش في آخر حياته قلقا وغير مرتاح للتجاذبات التي كانت ولازالت تعصف بالطبقة السياسية التي تدعي الحداثة والوسطية وما رفضه ختم القانون الإضافي الخاص بمراجعة القانون الانتخابي المؤرخ في 26/5/2014 القانون عدد 16 لسنة 2014 وعدم الإذن بنشره ليمثل مدى تمسكه بدولة القانون ورفضه لكل إقصاء مهما كان نوعه ومهما كانت مسبباته. 4) «النداء الأخير» لنقلها صراحة ان واصلت الطبقة السياسية السير على هذا المنوال منوال التجاذبات التي لا طائل من ورائها والتي تتسم بأنانية مفرطة وبمحدودية مزعجة في تناولها للشأن العام سيزيد في عزوف المواطن العادي عن كل ما هو سياسي وسيجبره على التعبير عن إرادته وعن مشاغله وطموحاته بطريقة غير مدنية وذلك لما لحقه من هوان ومن تجاهل الطبقة السياسية لطموحاته الشرعية في العيش الكريم. أخيرا وليس بالآخر لتكن وفاة الزعيم المناضل الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي لكافة مكونات الطبقة السياسية التي تنادي بالحداثة وبالوسطية فرصة للتجميع وللمّ الشمل والاتحاد بعيدا عن المهارات الكلامية وعن الوعود الكاذبة والشعارات الخادعة ولتكن كلمة المرحوم "الوطن قبل الحزب" هي عنوان العمل السياسي في المرحلة الحالية والقادمة . إن تونس في أمس الحاجة إلى جرعة حقيقية من الوطنية يمكنها منها أبناؤها لتقف قوية وموحدة أمام التحديات الجسام التي تتلخص في قطع دابر الإرهاب والانتصار على التخلف بجميع أشكاله. الخاتمة : وليكن الحديث القدسي " لو تعلقت همة المرء لما وراء العرش لناله " منارة لنا ولجميع الوطنيين الأحرار بمختلف مشاربهم الفكرية والعقائدية الوحده، الوحده ولا غير الوحده هي طريقنا الوحيد للنجاح وللخروج من براثن التخلف والإرهاب وبذلك سوف يتسنى لفقيدنا الرئيس محمد الباجي قائد السبسي أن ينام في قبره هادئ البال مطمئن النفس. قال الله تعالى : ﴿يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي﴾.