بعد رحيل الباجي قائد السبسي، ما انفكّت التّساؤلات تتراكم من يوم إلى آخر في أذهان التّونسيين والمُتابعين عن الأسباب الّتي جعلت الفقيد يحظى بكلّ ذلك الحبّ والتّقدير الذي حباه به الناس منذ إعلان وفاته ولا سيّما يوم تشييع جنازته. تونس – الشروق لم يُقدم الباجي قائد السبسي للبلاد طيلة فترة عهدته برئاسة الجمهورية او عندما تولى رئاسة الحكومة في 2011 انجازا خارقا للعادة أو كان وراء نجاح اقتصادي باهر للبلاد. فالسنوات الماضية كانت من أصعب السنوات التي عاشها التونسيون اقتصاديا واجتماعيا وهي الحالة المتواصلة إلى اليوم. رغم كل ذلك، خرج الباجي قائد السبسي يوم السبت الماضي من الباب الكبير. وكان أول رئيس سابق في تاريخ البلاد يدخل بذلك الشكل إلى قلوب التونسيين بطريقة أبهرت العالم خصوصا يوم تشييع جنازته. فظهر في مظهر الزعماء والعظماء الذين يُخلد التاريخ أسماءهم. فلماذا حقّق الباجي هذا الاستثناء؟ احترام الدستور التزم الباجي قائد السبسي بمقتضيات الدستور واحترم حدود صلاحيته ولم يتجاوز في أي مرّة سلطته وكان راعيا لروح الدستور. وقد أعطى بهذا التصرف درسا في احترام المسار الديمقراطي. رجل قانون وفكر ودين اختزل الباجي قائد السبسي بداخله الحضارات المتعاقبة على تونس من الفينيقيين إلى القرطاجيين وصولا إلى الفتوحات الاسلامية، فكان رجل مثقفا يتقن الاقناع بالعربية والفرنسية باعتباره يؤمن بالبعد المتوسطي، ولذلك حظي باحترام البلدان المتوسطية الذين حضروا جنازته من اسبانيا إلى مالطا إلى البرتغال إلى الجزائر والمغرب. وأختزل ايضا صورة المثقف التونسي ورجل الفكر والقانون والدين المعتدل والوسطي. فهو خريج الحقوق من جامعة «السربون» فكان متشبعا بمبادئ دولة القانون والمؤسسات وبمبادئ الديمقراطية واحترام علوية القانون. وهو خريج حقبة الحركة الوطنية في السنوات الأخيرة للاستعمار. فكان متشبعا بمبادئ حب الوطن وهيبة الدولة واستقلالية القرار الوطني. وهو خرّيج المدرسة البورقيبية سياسيا. فكان متشبعا بمبادئ بناء الدولة وهيبة الدولة وإشعاع صورتها خارجيا وبمبادئ حرية المرأة والحداثة والانفتاح. كما أنه خريج المدرسة الدينية التونسية. وهو ما جعله يتشبع بمبادئ الاعتدال والوسطية التي تجد جذورها في تعاليم الدين الاسلامي الذي أثببت التجربة أنه لا يتعارض مع الديمقراطية وهذا ما جعل تونس تستقطب كل أنظار العالم وأصبحت تجربتها في الديمقراطية مثال يحسب للباجي. الديمقراطية لإتمام دولة بورقيبة رغم أن الزعيم بورقيبة لم يكن يُولي اهتماما كبيرا لمبادئ الديمقراطية والحرية لاعتقاده أن الاولوية هي لبناء مقومات الدولة اولا، اجتماعيا واقتصاديا إلا أن الباجي قائد السبسي كانت تتحرك بداخله هذه المبادئ. وعبر عنها أكثر من مرة للزعيم بورقيبة فكان مصيره «الغضب» قبل ان يساهم في تأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي كان ينوي من ورائها الى الدفاع – ضد نظام بورقيبة – عن مبادئ الحرية والديمقراطية. لكن هذا التوجه لم يكتب له النجاح أمام تعنت نظام بورقيبة. وتواصل الامر على النحو نفسه مع نظام بن علي. وهو ما دفع بالمختصين الى القول إن الباجي قائد السبسي تمكن عند عودته الى المشهد العام في 2011 ثم خلال فترة رئاسته للجمهورية من تحقيق ما حرمه من تحقيقه بورقيبة وبن علي. وهو العمل على تحقيق الديمقراطية واحترام علوية الدستور والتعددية الحزبية وحرية تكوين الاحزاب والجمعيات وحرية التعبير والصحافة الى جانب الحفاظ على وحدة الدولة وتماسكها وعلى هيبتها واظهارها في صورة مُشعّة أمام العالم. سياسي وديبلوماسي خلال الفترة المذكورة أظهر الباجي قائد السبسي من الحنكة والدراية السياسية الكثير. كيف لا وهو الذي مرّ عبر مختلف أجهزة الدولة بدءا برئاسة البلدية وصولا الى رئاسة الجمهورية مرورا بأهم الوزارات والسفارات الى جانب نشاطه السياسي صلب الحزب الاشتراكي الدستوري ثم حركة الديمقراطيين الاشتراكيين. وهو ما جعله لا يجد صعوبة في التعامل سنة 2011 ثم عندما تولى رئاسة الجمهورية في 2014 مع الشأن السياسي الداخلي خاصة بعد أن دعم كل ذلك بميله المستمر نحو التوافق والتشارك ونبذ الاقصاء وضمان التعددية والديمقراطية واحترام الدستور. على الصعيد الخارجي كان لمروره في عهد بورقيبة بوزارة الشؤون الخارجية وبالسلك الديبلوماسي في خطة سفير الفضل الأكبر في ما تلقنه من خبرة ديبلوماسية وقف الجميع على قيمتها في السنوات الأخيرة. حيث تمكن من اعادة إشعاع مفقود الى صورة تونس في الخارج. وكان يحضر بندية إلى جانب رؤساء الدول الكبرى في الملتقيات والتظاهرات الدولية ويتكبّد مصاعب السفر رغم تقدّمه في السنّ ويعطي لتونس الصورة الناصعة، ويحثهم على ضرورة مساعدة تونس في مسارها الانتقالي ويمازحهم بطريقته وهو ما جلب له التقدير والاحترام. كما أن نجاح القمة العربية الأخيرة في تونس كان الفضل الأكبر فيه لما بذله من جهود في التواصل مع القادة العرب وفي محاولة حل المشاكل الثنائية بين بعض الدول وحرصه شخصيا على إنجاح القمة كما لا ننسى أن الباجي قائد السبسي الذي يحظى باحترام زعماء العالم كان من أهم المترافعين في إدانة عملية حمام الشط التي نفذها الكيان الصهيوني في أكتوبر 1985 والتي أجبرت الولاياتالمتحدةالأمريكية على الامتناع عن استعمال حق الفيتو في الإدانة الوحيدة من الأممالمتحدة في التاريخ التي طالت جرائم العدو الصهيوني. قريب من التونسيين عند أول ظهور له في 2011 بعد حوالي 20 عاما من الابتعاد عن المشهد العام (منذ سنة 1992) ظهر الباجي قائد السبسي في شخصية سرعان ما حازت اهتمام الناس وبلغ الأمر حد الاعجاب بها وبما ميّزها من سرعة بديهة وسهولة في التواصل معهم والقرب منهم. فكان يخاطبهم بلغتهم. ويستحضر الامثلة الشعبية المتداولة. ويستشهد دائما بالقرآن. وهو ما دعمه سنة 2012 عندما أسس حزب نداء تونس. وتمكن من إدارة الرقاب له ولحزبه وهو ما مكنه من الفوز في انتخابات 2014. ورغم أنه لم يحقق لا هو ولا حزبه الوعود الانتخابية لعدة اعتبارات (الحكم التشاركي – ضعف صلاحيات رئيس الجمهورية..) إلا أن ذلك لم يؤثر على صورة التقدير والاحترام التي حملها عنه التونسيون وكشفوا عنها يوم تشييع جنازته عندما حضروا بالآلاف لتوديعه شأنهم شأن مختلف السياسيين .. كما لم يؤثر ذلك على صورته وصورة تونس في الخارج ولا أدل على ذلك من الحضور الدولي الكبير يوم الجنازة وما قاله في حقه رؤساء وملوك العالم.. قالوا عن الباجي دونالد ترامب (رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية): نتذكر جميعا قيادته العظيمة. محمود عباس: (الرئيس الفلسطيني): فقدته الأمة العربية والإسلامية وفقدته فلسطينكتونس فائز السراج: (رئيس حكومة الوفاق الليبية): الامة العربية والإسلامية فقدت أحد العظماء الذي أنجبته تونس أفنى حياته لإعلاء راية وطنه وأمته ورجلا من أعظم رموز العصر الحديث. عبد القادر بن صالح (الرئيس الجزائري): خسارة للجزائر وللعرب والمسلمين وجميع محبّي السلام عبر العالم وكان من المدافعين بقوة عن الحق والعدالة في العالم. فيليب السادس (ملك إسبانيا) العالم فقد زعيما كبيرا كان نموذجا للديمقراطية والحرية وعبر بتونس إلى مرحلة الأمان مارسيلو ريبيلو دي سوزا (رئيس البرتغال) : نجح في تغيير التاريخ بفضل سعيه المتواصل الى تكريس الديمقراطية في تونس والمحافظة على مكاسب الجمهورية. ايمانويل ماكرون تعلمت الكثير من الباجي كانت كلمة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تأبين فقيد تونس الاطول زمنيا، ومن خلالها شدد على انه كان حريص على حضور جنازة الباجي قائد السبسي ليشارك التونسيين حزنهم مضيفا بان الباجي قائد السبسي كان مناضلا وحكيما ورئيس عظيم. وتابع ماكرون بانه يعتبر نفسه كما لو كان أحد أبناء الباجي قائد السبسي الذي تعلم منه الكثير شأنه في ذلك شأن كثير من السياسيين الشباب الذين سمحت لهم الفرصة بالتعامل معه مضيفا بالقول :"لقد تحمل الكثير من أجل تونس وكانت لديه إرادة احتضان العالم كما هو، لقد كان رجلًا حكيمًا، وجئت اليوم لتوديع الرجل الذي اقترن قدره بتاريخ عيد الجمهورية في تونس التي كان السبسي أحد مؤسسيها، وحرصت أن أكون بينكم لأعبر عن الصداقة وعن احترام الشعب الفرنسي للشعب التونسي، ولنشارككم في أحزانكم". وختم ماكرون تعديد مناقب الباجي قائد السبسي بفائق احترامه للفقيد الذي حافظ على استقرار الدستور وتعلق بالحرية والانفتاح وبتطوير المجتمع، وبالمساواة بين المرأة والرجل بكل شجاعة فيما يتعلق بمسألة الإرث، مثله في ذلك مثل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.