يُحكى أن مملكة تكاثر بها الحمير بشكل لافت ومثير، وإن كانت أرضها خصبة والمرعى بها وفير يكفي لتغذية كل القطيع، فإن الحمير كانت تأكل عشب الحدائق العمومية، وتقضم أَشجار الزينة، وتنهش زرع الحقول، وتلتهم غرس البساتين، وتدوس الورود و الأزهار، فهددت غذاء الرعية، وشوهت مشهد المدن، وحرمت الأطفال من اللهو واللعب، والأسر من النزهة والترويح عن النفس. حيَّر أَمر الحمير بال الملك، وشغل فكره، وضيَّق صدره، وأَصبح مهموما شارد الذهن، فالمملكة في تقهقر مطرد، والحياة تزداد صعوبة وبؤسا يوما بعد يوم، بدا ذلك على وجوه الأطفال، وفزع الرجال، وهلع النساء، إلى أن تذكر أن في المملكة حكيما يُنير برجاحة عقله أَجهل الجاهلين، ويُقنع بحجة منطقه ووجاهة رأيه أَعند المعترضين، فَيُطوِّع العُسر، ويفك الآسرَ، ويضيء المدلهمَّ ويُزيل الغمَّ. أرسل في طلبه ولما مثل بين يديه حيَّى وقال : مُرْ أيها الملك. لما طلبتني ؟ قال الملك : لي حاجة عند حكمتك، يا فخر مملكتنا، وعز عرشنا، ودرة تاجنا، وكان ملكا يُعزُّ الفكر ويُجلُّ المعرفة، لا يترددُ في طلب النصحِ واستنجاد أهل الرأي والأمانة عند الحاجة. قال الحكيم : وما الذي به أَستطيع رفع رأس ملكنا ونفع وطننا ؟ قال الملك : إقناعُ الحمير بالرعي في الأماكنِ المخصصة لها وترك الزرع ونباتات الزينة والأشجار المثمرة، أنت ترى ما فعل فينا عيثها وعبثها، فجُدْ علينا برأيك السديد ونصحك المفيد أيها الحكيم. قال الحكيم : أمهلني يومين أيها الملك المستنير، أُقنع فيها الحميرَ. ثم إن الحكيم توجه إلى حظيرة الحمير ليلا فوجدهم يتسامرون ويتناقشون ويتهارشون ، ولما رأوه سكتوا عن الكلام. وقال زعيمهم : مرحبا بحكيم مملكتنا، لقد شرَّفت حظيرتنا بقدومك وأَنرت الدّجى بطلعتكَ . ما الذي أتى بك في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟ قال الحكيم : يا معشر الحمير، لقد حبا الله مملكتنا بالمراعي الغنية، والخمائل الندية، عشبها أَطيب طعما وأسهل هضما. فلماذا لا تتركون الزرع لغذاء البشر، والحدائق لنزهة الأُسر، و الأشجار لمتعة النظر وإنتاج الثمر والورد والزهور لنشر شذى العطر. قالت الحمير : أَمرُ حكيمنا مُطاع، غدا نُجرب ونجيب. كما كان الاتفاق، منذ صباح الغد سلكت الحمير طريق المرعى خارج المدينة. فوجدت ما طاب من العشب وما عذب من الماء. أكلت وشربت حتى امتلأت. بل ندم البعض عما فاتهم عندما كانوا لا يُغادرون المدينة. لما رجعوا إلى الحظيرة وجدوا الحكيم في انتظارهم، ودون أن يطلب ردهم قالوا له بصوت واحد : شكرا يا حكيم على النصيحة، اذهبْ إلى الملك وأَخبرْه أن بعد اليوم لن يلتهم حمارا واحدا منا نبتة من الحدائق، ولا سنبلة من الحقل، ولا ورقة من شجرة غُرست للزينة والتمتع بأزهارها أو لجني ثمارها. شكر الحكيم الحمير على تفهمها، ثم ذهب يزف البشرى إلى الملك ففرح الملك فرحا شديدا، ولما أَراد أن يُكافئ الحكيم رفض الأخير المكافأة وقال للملك : أأرفعك بعلمي وحكمتي وتُنزلني بنقودك وذهبك ؟ مرّت سنوات وتقلّد الوزارات والمراكز الحساسة "رهط" من الفاسدين لا يتورعون في إهدار المال، العام يرتشون ويُرشون، يختلسون، يعبثون بثروات وسيارات وماء وكهرباء وبنزين المملكة، ينتدبون ويُرقون ويُكرِّمون ويُكرمون من والاهم ولو كان من أسقط المتاع، يُعرقلون خيرة الكفاءات ويُثبطون أنبل الطموحات. ساءت أَحوال المملكة فأجدبت بعد الخصب، وأقفرت بعد العمران. وحل الخوف محل الأمان، والحيرة مكان الاطمئنان. أرسل الملك مرة أُخرى في طلب الحكيم، وكالعادة لبى الحكيم طلب الملك على عجل ولما مثل بين يديه دون مقدمات. قال الملك للحكيم : أَسعفني يا حكيم زماننا وأزمنة من سبقنا ومن سيلحقنا، المملكة في خطر ولّيْتُ من ظننتهم أُمناء أمر الرعية والمال العام، فلم يتركوا فسادا إلا وارتكبوه، ولا ظلما إلا واقترفوه، ولا حقا إلا وضيعوه، ولا باطلا إلا وثبّتوه، وأنت من أنت، أنت لم تستصعب إقناع الحمير رغم ما يُعرفُ عنها من بلادة الذهن والغباء، لن تُعوزك الحكمة على إصلاح ما فسد من المسؤولين والوزراء. أجاب الحكيم : ليس كما تضن أيها الملك، في المرة الأولى كانت المهمة أيسرُ فأنا في مواجهة جنس واضح من الحيوان أما هذه "الرهوط" فأنَّى لي أن أَتعامل معها وقد جمعت بين مكر الثعالب، وغدر الأفاعي، وتلون الحرابي، ونهم الدببة، ونجاسة الكلاب، وخيانة الغربان، وقذارة الخنازير، وأذى العقارب. اعذرْني، لا أستطيع يا مولاي. وما الحل إذا يا حكيمنا ؟ سأَله الملك. أَجاب الحكيم : لا حلَّ يا مولاي، إلا أن تُقيِّدهم بالأصفاد، أو تُبدِّدهم في البوادي، أو الأصلح، يا مولاي، أن تستأصل شأفتهم مرة واحدة فتُبيدهم وذاك خيرٌ جمٌّ للبلادِ ونفع عظيم للعبادِ .