بإعلانها ترشيح نائب رئيسها الأستاذ عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية تكون حركة النهضة قد وضعت حدا لمسلسل «العصفور النادر» الذي تابعه العديد من السياسيين وهم يمنّون النفس بالظفر ب«ودّ» النهضة... وبهذا الإعلان يسدل الستار على ماراطون النقاشات واللقاءات والصفقات والمزادات التي فتحتها قيادة النهضة مع أكثر من سياسي ومع أكثر من مرشح محتمل وأكثر من طامح ل«التزوّد» بدعمها لحسم أمره والتقدم إلى الانتخابات الرئاسية... لكن هذا الحسم النهضوي الذي جاء بعد مخاض عسير وبعد تشويق بدا وكأنه بلا نهاية يطرح جملة من الأسئلة الحارقة في مياه ساحة سياسية تموج بطبعها ويختلط فيها الحابل بالنابل. في طليعة الأسئلة يطرح سؤال عام: هل تلاعبت النهضة بكل من فاوضتهم وبكل من عرضوا «خدماتهم» للظفر بصفة العصفور النادر؟ وهل استغلت هؤلاء لإرسال رسالة إلى التونسيين توحي وكأن الحركة هي محور الحياة السياسية وبأنها الطرف المحدّد في كل المعادلات والحاسم لكل المشاريع والطموحات؟ ومن ثنايا هذه الأسئلة ينبعث السؤال المحوري والمركزي: هل خدعت النهضة رئيس الحكومة يوسف الشاهد؟ وهل استغلت تحالفها معه حتى الأمتار الأخيرة لتخرج ورقة العصفور النهضوي بعد أن جعلته يتوغّل بعيدا عن حزبه الأصلي حزب نداء تونس ويمضي في تأسيس حزب جديد «تحيا تونس» ليخوض به الانتخابات التشريعية والرئاسية... وهو ما مكّنها من فرصة إرباك وإضعاف الحزبين النداء وتحيا تونس اللذين ستواجههما في الرئاسية والتشريعية واللذين يمثلان تقريبا نفس اللون السياسي المتمركز في الوسطية والحداثة... واللذين يتوجهان تقريبا لنفس الخزان الانتخابي بما يمكنها من فرصة تشتيت أصوات هذا الطيف الانتخابي الوسطي الذي أخرجها من الحكم في انتخابات 2014 وهو ما يمكنها من دعم حظوظ مرشحيها في الفوز سواء في الرئاسية أو في التشريعية؟ بالعودة إلى تاريخية العلاقة بين حركة النهضة وأساسا رئيسها وبين رئيس الحكومة نذكر جيدا أن تلك العلاقة انطلقت على أساس التقاء مصالح بما جعل التحالف منذ البداية يظهر في ثوب تحالف مصالح. النهضة كانت تخطّط لمزيد إضعاف نداء تونس بعد أن دفعت في اتجاه إقصاء الروافد اليسارية والنقابية صلبه، كما ضجّت وقتها من تقلبات رئيس الجمهورية الراحل واندفاعه نصرة لابنه في اتجاه إسقاط رئيس الحكومة فانحازت إلى جانب ما أسمته الاستقرار الحكومي ليس لسواد عيون السيد يوسف الشاهد ولا حرصا على مصلحة وطنية لا تراها إلا هي وإنما من باب مزيد الدفع نحو إرباك ا لنداء وحشره في ركن الانشطار كمرحلة نهائية لمسار التشظي وخروج القياديين والمناضلين من صلبه. عند هذه النقطة رمت النهضة حبل النجاة باتجاه رئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد الذي وجد في الحركة ذلك الجدار الذي يستند إليه ليتخلص نهائيا من ضغط المرحوم الباجي قايد السبسي وما كان يخطط له من خلال حوارات ولقاءات قرطاج2.. وليسجل كذلك نقاطا حاسمة في معركته التي خرج بها إلى العلن وقتها مع نجل الرئيس السيد حافظ قايد السبسي... وبالمحصلة التقى الطرفان في ما يمكن أن نسميه «تحالف الضرورة» رغم تناقض القواعد الفكرية والسياسية ورغم انتماء النهضة إلى تيار الإسلام السياسي وانتماء السيد يوسف الشاهد إلى التيار الوسطي الحداثي الذي كان قارع النهضة في انتخابات 2014 وأخرجها من الحكم. ومنذ ذلك الوقت مضى كل طرف في تجيير هذه العلاقة ومحاولة الاستفادة منها وتسجيل نقاط سياسية تمكن من تموقع جيد في الترتيبات السياسية لما بعد الانتخابات القادمة... ومع الأسابيع والشهور بدا كأن العلاقة بين الطرفين تجذّرت بشكل جعلها ترتقي إلى مستوى استراتيجي يجعل تحالفهما يتواصل في الأعوام القادمة. لذلك وحتى مع ظهور حكاية «العصفور النادر للنهضة» فقد بدا الأمر محسوما لجهة فوز رئيس الحكومة بهذه الصفة وبأن الأمر لا يتعدى نظريا كونه نوعا من المناكفة لتحسين شروط التفاوض وتحصيل المزيد من الغنائم. لكن يبدو أن حركة النهضة التي تمر هي الأخرى بمخاض صعب تجسّد في تحييد قيادات تاريخية صلبها ما جعل صراعاتها تخرج للعلن في مشهد نادر لطالما تبجّحت الحركة بنجاتها منه كما تجسّد في تململ قواعدها بمناسبة الانتخابات الأولية لتحديد المرشحين للتشريعية باتت تخشى على نفسها هي الأخرى من نفس مصير النداء إن هي مضت اليد في اليد مع السيد يوسف الشاهد وذهبت حد دعم عصفور من خارجها في الاستحقاق الرئاسي بما كان سوف يظهرها كتابع ويهددها بعاصفة أعتى من عاصفة 2014 عندما ذهبت قيادة الحركة في اتجاه الباجي قايد السبسي وذهبت قواعدها في اتجاه المرشح المنصف المرزوقي. قد تتحجّج حركة النهضة بأنها حزب سياسي وأن ديدن الأحزاب السياسية هو الطموح إلى الحكم وإعداد العدة لذلك، وهو كلام منطقي ومعقول ومقبول لو أنه قيل في إبانه وليس قبيل أيام معدودة من الاستحقاق الانتخابي... لأن الإمعان في إخفاء الأوراق وفي التلويح بالجزر لابتزاز الحليف ومن ورائه طبقة سياسية برمتها يصبح ضربا من ضروب الانتهازية السياسية ويجعل هذه الانعطافة النهضوية في المنعرج الأخير نحو عصفور من داخلها نوعا من «الخديعة» لرئيس الحكومة ونوعا من «الخيانة» لشريك أعطاها الكثير على مدى سنوات رئاسيته للحكومة واستفادت من قربها منه لتنعم بالكثير من الغنائم ولتتموقع في كل مفاصل الدولة والإدارة... وهذا ا لموقف قد يكون له ثمن سياسي باهظ... قد تدفعه الحركة إن هي أخفقت في تصعيد عصفورها إلى قصر قرطاج بما سوف يرتدّ على حظوظ مرشحيها في التشريعية.