لا شيء يُمكن أن يُبرّر ذهاب المشهد الوطني إلى درجة عالية من التوتّر والضبابيّة قد تدفع إلى المجهول لا قدّر لها، خاصة في ظل موجة كاسحة يستهدف لها القضاء، الملجأ الذي لا ملجأ آخر بعده لأحدٍ كان. ما يجري منذ يومين على غاية من الخطورة، وهو في الحقيقة منتظر لأنّه نتاج استفحال ثقافة الشيطنة وانفكاك عرى التوافق الوطني وغياب فضاءات للحوار بين مختلف الفاعلين السياسيين والمنظمات الوطنية، ممّا جعل الباب مفتوحا أمام كلّ التجاوزات والخروقات والتي بلغت حدّ التعدّي الصارخ على القضاء، المعقل الأخير للسلم الأهلي والتحكيم العادل وإحقاق العدالة وحماية حقوق النّاس. فقد تحوّل الجدل القانوني حول إيقاف نبيل القروي، المرشح للانتخابات الرئاسية ورئيس حزب قلب تونس، إلى مشبك للتجاذبات وتصفية الحسابات وإطلاق منطق الغاب والإيحاء بحالة من الانفلات وبصراع خطير وبانتهاك لحرمة المؤسّسة القضائيّة، والسؤال الذي يُطرح في هذا الصدد هو ماذا يُمكن أن نستشرف للمستقبل إذا تمّ الدفع بالقضاء إلى معترك التنافس السياسي والانتخابي وجعله أداة لتصفية الحسابات بمنهج التعليمات والتدخّل في قراره المستقل؟ القراءات للأحكام القضائيّة لا يجب أبداً أن تلبس لبوس السياسة ولا يجب أن تكون وفق منطق المصلحة، لأنّ ذلك قد يكون عكسيا فتُصبح المصلحة مضرّة بل يجب أن تلتزم حدود الجدل القانوني واحترام علويّة القانون لأنّه في غياب الاحتكام للقانون سيكون الجميع دون استثناء عرضة للظلم والانتهاك وسلب الحقوق. ولكن وبرغم الانفلاتات، وبرغم ما قد يطرأ على عمل القضاة، وهم من البشر، من هنات أو سوء تقدير، فإنّ مؤشرات عديدة تدلّ على نوايا لتفاعل حكيم وعقلاني مع المسألة، تفاعل يحتكم إلى القانون ولا شيء غيره، فقد أكد مصدر مطلع بوزارة العدل أمس أنّ وزير العدل محمد كريم الجموسي أذن بتعهيد التفقدية العامة بالوزارة للبحث في ملابسات إصدار بطاقتي الإيداع في حق كل من نبيل وغازي القروي والتثبت من سلامة الإجراءات القانونية المتبعة، مُضيفا أنه سيتم تقديم المعطيات المتوصل إليها وإنارة الرأي العام بخصوصها. كما أنّ دفاع القروي أكّد عزمه الطعن في قرار إصدار بطاقة الإيداع المشار إليها مؤكدا أنّ له من المستندات ما يؤكّد بطلان القرار المذكور، كما طالبت أحزاب وشخصيات وطنيّة بالنأي بالقضاء عن كلّ توظيف أو تشكيك منبّهة الى مخاطر مواصلة الانزلاق في مثل هذه السلوكات خاصة وأنّ الظرف الذي تمرّ به البلاد دقيق وصعب يستدعي لغة العقل لا الانفعالات العاطفيّة المنفلتة في هذا الاتجاه أو ذاك. يعيش القضاء التونسي، دونما شكّ وكغيره من القطاعات، على وقع التحوّلات التي تعيشها بلادنا منذ ثماني سنوات، ولكن على الجميع أن يعلم أنّ القضاء خط أحمر، وإلا كانت لغة الغاب، بما فيها من إشاعات وأكاذيب وشيطنة متبادلة وتلفيق وتصفية حسابات لا نهاية لها، وعلى جميع المتدخلين في القطاع حمايته من كلّ الخروقات والتجاوزات والحرص على مزيد ترقية أدائه، لوجيستيا وبشريا وتشريعيا، وسدّ أبواب التشكيك في قدرته على الاستجابة للحاجة المحوريّة للعدالة في بناء دولة القانون والحريات وتمتين أسس تجربة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها بلادنا. تلطيف الأجواء عاجلا دون إبطاء، بإعلاء قوّة القانون والدفاع عن استقلاليّة المرفق القضائي وحياده، أصبح أكثر من ضروري اليوم لوقف كلّ التجاذبات الجانبية وإعادة قاطرة الفعل السياسي والانتخابي الى الوضع الطبيعي من حيث التزام الجميع بالقانون وضوابطه والتحلّي بقدر من الأخلاقيات في التعامل مع المخالفين والمنافسين. لا شكّ في أهمية اللحظة السياسيّة التي تعيشها بلادنا والمرتبطة أساسا بسباق انتخابي رئاسي وتشريعي مليء بالتطلعات ورغبات الفوز ومُثقل بالتخمينات والحسابات، ولكن لا يجب أن يكون كلّ ذلك مدخلا لافساد العمل السياسي وقطع الثقة في القضاء العادل وفسح المجال من ثمّ للفوضى ومنطق الضرب تحت الحزام والتخلي عن كلّ الضوابط والمبادئ على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة.