بمشهد فسيفسائي، ضبابي ومعقّد الى حد بعيد، أزيح الستار عن الانتخابات التشريعية التي خلّفت "زلازل" بالجملة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، هذا بالإضافة الى المطبّات الحقيقية التي ستقف حائلا امام تشكيل حكومة جديدة. قضي الأمر اذن وباحت النتائج بأسرارها السعيدة لأطراف والمحزنة لأطراف أخرى وغير المرضية تماما للسواد الأعظم الذي خيّر العزوف كحركة مقاطعة او لا مبالاة او عن جهل، المهم انه اختار الصّمت. كان واضحا منذ البداية ان نسب المشاركة في العملية الانتخابية ستحدّد كثيرا المشهد السياسي الجديد، وبما أن العزوف كان هو العنوان الأبرز فإن الخسائر كانت فادحة حتى لبعض الفائزين ولمتصدّرهم تحديدا. فالنهضة مثلا رغم الفرح العارم الظّاهر على الأقل فإنّها خسرت نصف مقاعدها بالبرلمان مقارنة بالانتخابات الماضية. كما خسرت قرابة 60% من خزّانها الانتخابي مما يعني أن هذه آخر فرصة ممنوحة لهذه الحركة. أما الأحزاب الديمقراطية التقدّمية ورغم النتيجة المرضية تقريبا لتحيا تونس فإنها دفعت باهظا ثمن الصراع الداخلي على الزعامة والأحقية في القيادة والتي يكفي مثالا عليها نتائج حزب نداء تونس ذاك الصّرح الذي هوى واندثر. وغير بعيد عن ذلك وربّما الأكثر فداحة هو السّقوط المدوّي لليسار الذي يبدو أنّه وصل الى نهاية هذا الفصل من المشروع المتّبع منذ عقود وعليه القيام بمراجعة جذرية واسعة تفتح له صفحة جديدة في مسار هذه البلاد التي لا يجب أن تخلى من اي طيف سياسي. بعيدا عن هذه القراءات، وبالحديث عن الحاضر والمستقبل فإن ما أنتجته الانتخابات يمثل "متاهة" سياسية يصعب كثيرا الخروج منها بمسار سوي يحفظ أمن واقتصاد هذه البلاد خاصة بعد ان غابت الحكمة والمصلحة الوطنية عن أغلب السياسيين الفاعلين. كما عبّرت نتيجة الانتخابات أيضا عن مرحلة جديدة من التنوّع في الحقل السياسي. وهي مرحلة صعبة سمتها الأساسية التشتت، وضعف البنية الحزبية، وتقليدية الممارسة السياسية. وهذا كله طبعا سيصعّب التحالفات. ويجعل مؤسسات الدولة رهينة تقلّبات الوضع الحزبي المتحوّل ويجعل من الصعب على حركة النهضة انشاء تحالف صلب رغم ما ستقدم عليه من تنازلات كبيرة لا بدّ منها من أجل هذا التحالف. ورغم ذلك فإن حتى هذه التنازلات وان أقدمت عليها النهضة فإنها ربما لن ترضي عديد الأطراف التي أيقنت أن أي اقتراب من النهضة يعني الاضمحلال تماما كما حصل سابقا لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية ونداء تونس. لهذا تحديدا سارع حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب الى الاصطفاف مباشرة في المعارضة رغم كونهما حليفين محتملين قد تغازلهما النهضة بالإضافة الى تحيا تونس وائتلاف الكرامة. يبدو الآن أن المشهد الأقرب الى الواقع هو التوافق، عبر تكليف شخصية مستقلة تحظى بإجماع الأغلبية ويعهد لها تشكيل حكومة جديدة قائمة على شخصيات ذات كفاءة وبعيدة عن المصالح الضيّقة. وهذا وارد جدّا ان كانت هناك ارادة سياسية صادقة. وفي صورة عدم القيام بذلك فإن أي حكومة محاصصة حزبية جديدة وهو أمر صعب بالنظر الى نتائج الانتخابات، سيكون عدم استقرار الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي هو حصادها الوحيد.