اتّسمت مرحلة ما بعد 14 جانفي 2011 بالمواقف الارتجالية والتقديرات الخاطئة والشعارات البرّاقة التي كانت لها عواقب وخيمة على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد التونسية وربمنا تداعياتها تجاوزت حدودنا الى أغلب الدول العربية. ويفتخر المتعصّبون ل«الثورة» ويتباهون بتحقيق إنجازات عجز عنها كل من سبقهم بتحمّل المسؤولية والسلطة وتنكّروا للماضي ولم يعترفوا بما آل إليه الحاضر نتيجة خيارات خاطئة ومقاصد ماكرة وخبرة معدومة. ولعلّ أبرز ما تمّ اتخاذه من قرارات انتخاب مجلس تأسيسي وكتابة دستور للبلاد أقرّ إحداث هيئات دستورية رصدت لها ميزانيات كبيرة وانتدابات بشرية عديدة وامتيازات متنوعة دون أن تقنع لحدّ الآن بما تقوم به. ومن هذه الهيئات يمكن ذكر هيئة «بن سدرين» وهيئة مكافحة الفساد وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة الانتخابات والتي كثر حولها الحديث في الآونة الأخيرة نظرا الى ان تضطلع به من مسؤولية دقيقة وجسيمة. تمّ بعث هذه الهيئة في الأصل لتعويض العمل الذي كانت تقوم به وزارتي الداخلية والعدل وربما حتى الدفاع الوطني لتنظيم الانتخابات والتصريح بالنتائج، ورصدت الدولة لهذه الهيئة أكثر من 150 مليارا لتنظيم الانتخابات قصد انتداب الاطارات والأعوان وكراء المقرّات وشراء المعدات وهي تكلفة ثقيلة جدا على المجموعة الوطنية خاصة بعد تنظيم أكثر من مواعيد انتخابية بعد 14 جانفي 2011. والسؤال المطروح هنا هل عوّضت هذه الهيئة حقيقة الوزارات التي كانت معنية بالأمر؟ بل بقي دور أعوان الأمن والجيش والمحاكم أساسيا ورئسيا في هذه العملية. وسأحاول في هذا المقال استعراض ما قامت به هذه الهيئة وما وُفّقت فيه نسبيا وما فشلت في تحقيقه. وفي قراءة موضوعية وبعيدة عن كل الخلفيات أقول إنها نجحت ولو ضمنيا في تنظيم المواعيد الانتخابية وتفاوت هذا النجاح من انتخابات الى أخرى وهي تجربة جديدة لم يتعود عليها الشعب التونسي من قبل ومازالت في حاجة الى التحسين. أما ما فشلت فيه في المقام الأول هو تحقيق الانسجام والاستقرار داخلها وبين أعضائها مما حدا الى رئيسها الأسبق السيد شفيق صرصار للاستقالة في الوقت الحرج بدون مبرّرات مقنعة وكذلك فعل من بعده السيد محمد المنصري وهو الذي مازال يحتفظ بعضويته رغم الاستقالة؟ وكذلك الأمر بالنسبة الى السيدة بن سليمان الناطقة الرسمية باسم الهيئة سابقا والتي تمّ إعفاءها من هذه المسؤولية بدون توضيح مقنع. الأمر الثاني وهو هام جدا، هل أن الهيئة مستقلة فعلا كما جاء في تسميتها؟ والكل يعرف أنها منتخبة من أغلبية حِزبية في مجلس النواب؟ وتبقى دائما تحت ضغوطات السلطة التشريعية من ناحية والسلطة التنفيذية من ناحية أخرى مهما ادّعى أعضاءها الاستقلالية. وكما أشرنا سابقا فإن كل عملية انتخابية تكلّف المجموعة الوطنية مصاريف باهظة ويشبهها البعض بتكاليف الحروب، ولذا لماذا لا يقع اختصار هذه المواعيد وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في نفس التاريخ للحدّ من هذه المصاريف وربحا للوقت رغم الحسابات الانتخابية الضيّقة للمترشحين والأحزاب. ومن ناحية أخرى إن الانتخاب حقّ وواجب ولكن هذا يتطلب الوعي الحقيقي بمفهوم الانتخاب وما يتطلبه هذا الواجب من مسؤولية وطنية في اختيار المترشحين وهذا لم يتحقق بعد في المجتمع التونسي وخاصة لدى الشباب لأن المجتمع المدني وكذلك الهيئة نفسها لم تقدم بدورها الرئيسي والمتمثل في توضيح مسؤولية الناخب عند قيامه بالعملية الانتخابية وإنما كانت تتباهى بزنها قد رَفّعت من عدد المقترعين ب1٫5 مليون ناخب جديد وأكثرهم من الشباب دون التفكير المنطقي في الطريقة. والأهم في مثل هذه المواعيد المصيرية ليس الكمّ بل الكيف؟ وهو ما أدّى الى نتائج كارثية في الانتخابات الأخيرة. الموضوع الآخر ويتعلق بمسؤولية الهيئة في الوضع المتردّي الذي وصلت إليه الانتخابات الرئاسية الحالية ومن ذلك قبول حوالي مائة (100) ترشح أغلبها فلكلوريّة ولا تستوفي الشروط القانونية الدنيا. وكذلك قبول ترشحات حولها اشكاليات قانونية أو شبهات معروفة أدّت الى الوضع الحالي كقبول ترشح أحد الناجحين الى الدور الثاني في الوقت الذي يقبع فيه في السجن ومترشح آخر فارّ خارج أرض الوطن والآخر لا يعترف بالدولة المدنية والآخر ناجح في الدور الثاني ولا يريد التعبير والتصريح عن برامجه ومواقفه ويجتمع من حوله أنصار من تيّارات متشدّدة ومتعصّبة تهدّد مدنية الدولة والمجتمع وهذا راجع الى ضعف مواقف الهيئة وعدم قدرتها على حسم الأمور وتتجه في آخر الأمر الى القضاء وتلقي عليه المسؤولية. هذه نتائج عمل احدى الهيئة الدستورية التي جاء بها دستور 2014 و«الثوريون» في بلادنا وما وصلت إليه نتائجها وإن كانت تعدّ نسبيا الأنجح مقارنة بغيرها وماذا يمكن أن نقوله عن حصيلة عمل هيئة «بن سدرين» التي قسّمت المجتمع التونسي وأثارت النّعرات القبليّة والجهوية وحمّلت المجموعة الوطنية تكاليف باهظة، وكذلك لم تستطع هيئة الاتصال السمعي البصري من قماومة التسيّب الإعلامي المفضوح وابتعاد أغلبها عن وظيفتها ومبادئها الأصلية. وهل تمكنت هيئة مقاومة الفساد من التغلب على الفساد والرشوة والمحسوبية والتهرّب الجبائي والتجارة الموازية وغيرها؟ وإن بقي نشاطها محدودا من تنظيم الندوات وحضور المناسبات وإلقاء التصريحات والبيانات... الغريب في الأمر أن أعضاء مجلس النواب المحترمين استطاعوا التوافق لبعث هذه الهيئات وغيرها والتي بان فشل أغلبها لكن في المقابل لم يتوفّقوا في انتخاب أهم هيئة وهي المحكمة الدستورية والتي كانت بإمكانها فضّ عديد الاشكاليات والمسائل الخطيرة التي عجزت عن حلّها بقية الهيئات الصورية وكان بإمكانها تجنيب البلاد هذه الأوضاع المتردية التي وصلت إليها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وهو أكبر دليل على فشل ما سُمّي ب«الثورة» أو الربيع العربي المزعوم.