في حالة «غفلة دستورية» يكون اقتصاد البلاد كل خمسة سنوات على موعد مع مفارقة غريبة من نوعها تتمثل في ان الحكومة المتخلية تعد قانون الميزانية للحكومة التي ستخلفها .. كنا سنقبل الامر لو كانت تونس فعلا سنغفورة او اليابان لا تجاذبات سياسية فيها ويهنئ المنهزم الفائز بكل صدق لكننا ولاننا نعرف انفسنا جيدا فان الابتسامات لا تخفي ما يعتمل في الصدور .. في ظل هذا الواقع الذي قد نتجاوزه لكن حين نتمرس بالديمقراطية وتتجذر فينا ستكون الحكومة الجديدة امام ملف ثقيل هو اقرب الى الفخ الذي عليها ان تتفاده وان لا تقع فيه مبكرا فتقع معها احلام المواطنين في غد افضل طال انتظاره. من هنات الدستور التونسي انه جعل 15 اكتوبر من كل سنة الاجل النهائي الممنوح للحكومة لتقديم مشروع قانون المالية للسنة الجديدة الى البرلمان وفي هذه السنة ستكون اول مهمة للبرلمان الجديد هي مناقشة قانون المالية لسنة 2020 ومن الغريب ايضا انها حتى لو ناقشه باقتدار وعدل في بعض فصوله فان الحكومة الجديدة قد لا تشرع في تطبيق بنود هذا القانون الا في نهاية الشهر الاول من السنة الجديدة هذا ان سارت الامور بلا تعطيل يذكر اما ان طال النقاش واستفحل الجدل فان الحكومة الجديدة قد لا تشرع في عملها الا في مارس القادم وهو ما يعني ان هذا القانون الجديد يجب ان يخلو من كل العيوب وان يكون في مستوى تطلعات التونسيين. قانون غير واقعي تقول الارقام الواردة في ملف قانون المالية 2020 ان حجم ميزانية الدولة سيكون في مستوى47227 مليون دينار أي بزيادة بنسبة 9,5 بالمائة عن ميزانية سنة 2019 كما اكد واضعوه ان نسبة النمو في نهاية السنة القادمة ستكون في مستوى 2,7 بالمائة وان عجز الميزانية لن يتجاوز 3 بالمائة وبعد الجمع والطرح سيكون على الدولة توفير مبلغ 11248 مليون دينار لتغطية عجز الميزانية منها 2400 مليون دينار من الاقتراض الداخلي و 8848 مليون دينار من الاقتراض الخارجي اما المداخيل الجبائية فبين القانون انها ستحقق زيادة بنسبة 9,2 بالمائة كما سيصل حجم المداخيل المتأتية من المساهمات والاملاك المصادرة ومداخيل النفط والغاز الى 3800مليون دينار اما ما ستجود به علينا الدول الشقيقة والصديقة فسيكون في مستوى 300 مليون دينار .. في المقابل اشار قانون المالية 2020 الى ان نفقات التصرف ستشهد زيادة بنسبة 5,1 بالمائة وستصل نفقات الدعم الموجهة الى المواد الاساسية و المحروقات والكهرباء الى حجم 4180 مليون دينار في حين سيكون حجم خدمة الدين العمومي في مستوى 11678 مليون دينار. طبعا القطيعة بين الوقاع وما جاء في قانون المالية 2020 واضحة وجلية ويكفي هنا ان نستدل بان الحكومة مصرة على معالجة الخطاب خطا اكبر وافدح اذ ان المنطق يفرض في وضعية اقتصادية كالتي تمر بها بلادنا ان تلجا اول ما تلجا الى ترشيد النفقات لا الترفيع فيها لان قانون المالية بمثل تلك الوضعية يتجاوز امكانيات الدولة ان لم يحدث أي طارئ وسارت الامور كما «تكهن» بها واضعو القانون اما ان حدثت جوائح للمحاصيل الفلاحية او ازمات عالمية اثرت على اسعار البترول وعلى امدادات السوق العالمية بكل المواد التي نستوردها فساعتها ستكون حسابات قانون المالية 2020 اشبه بالكتابة على الرمل في وقت ريح عاتية او هي حرث في البحر. التجديف عكس التيّار في الوقت الذي يشهد فيه العالم توترات كيرة خاصة في المناطق المنتجة للبترول وايضا في ظل الاضطرابات المناخية المؤثرة على المحاصيل الزراعية نرى ان الدولة التونسية اعتمدت في تحديد نفقاتها على ان سعر برميل النفط سيكون في مستوى 65 دولارا في حين انه حاليا يباع بسعر 60 دولارا وفارق الخمس دولارات من اليسير جدا تجاوزه اذا ما التهبت الاوضاع في مناطق الانتاج او في الممرات المائية العالمية وهي فرضية مطروحة شدة رغم سعي السعودية الى ايجاد حل في اليمن قابله قرار ايراني بالمضي قدما في برنامجها لتطوير قدراتها النووية يعني ان توفر الحل في اليمن فلن يتوفر في مضيق هرمز وفي منطقة الخليج ككل .. اما في ما يخص الاوضاع الداخلية المؤثرة على الاسعار ونسبة التضخم فان الحكومة الحالية عند وضعها لقانون المالية 2020 لم توفر أي ضمانات لعدم ارتفاع الاسعار وما قد ينجر عنه من توترات قد تنهي حالة الوفاق التي تعيش على وقعها البلاد وتجبر الحكومة المقبلة على زيادة نفقاتها للدعم او لفائدة ما يعرف بالعائلات المعوزة وما يدل على ان الحكومة لم تول أي اهتمام ل»جيب المواطن» وقوته هو موقف اتحاد الفلاحين الذي اكد غضب منظوريه المحمول عليهم تزويد الاسواق بالمنتجات الغذائية حيث عبر عن استيائه مما اعتبره تعمدا لتغييب قطاع الفلاحة والصيد البحري من مشروع قانون المالية الجديد لسنة 2020 مبينا أن العناية بهذا القطاع ودعمه هو استثمار مجد لتحقيق الانتقال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وطالب بضرورة استكمال اتفاقيات الشراكة بين الحكومة والمنظمة في قطاعات الحبوب والدواجن والصيد البحري، وتنفيذ كل ما تم الاتفاق بشأنه في إطار اللجنة العليا المشتركة 5+5 مطابلا ايضا بضرورة دعم البذور الممتازة للحبوب المسجلة والمكثرة في تونس وتوفيرها في الوقت المناسب وبشكل يفي بحاجات المنتجين في كل مناطق الإنتاج اضافة الى اجراءات اخرى غفل عنها قانون المالية لشد ازر الفلاحين ليكثفوا الانتاج وهو ما دفع اتحاد الفلاحين الى ان يكون اول المعارضين لقانون المالية 2020 في انتظار ان يشاركه ذات الموقف باقي الاطراف النقابية والسياسية المهتمة حاليا بامر الحكومة الجديدة وكيفية تشكيلها مما شغلها عن تتبع «عورات» تفاصيل الميزانية الجديدة. «عورات» القانون ستفسد اهدافه ولئن تعتبر المواقف المؤجلة من باقي مكونات المشهد السياسي والنقابي في تونس من قانون المالية «مصلحية» بعض الشيء هذا ان فكرنا في استنباط بعض الاعذار لواضعيه فان موقف منظمة الفلاحين لا بد من اخذه بعين الاعتبار لان انتعاش الفلاحة فيه مصلحة مزدوجة فهو من ناحية يضمن كثافة تزويد الاسواق المحلية بما يحتاجه التونسيون من منتجات فلاحية بما يخفض الاسعار ويحد من نسبة التضخم وهو ما يمكن مؤسسة الاصدار التونسية من تخفيف ضغوطها على الاقتراض ويفتح ابواب التمويل على مصراعيها امام المؤسسات الصغرى والمتوسطة لتحسن ظروف عملها وانتاجها وانتاجيتها فان «الصابة» الفلاحية سيمكن من ترفيع قدرات تونس التصديرية وهو ما يوفر عائدات مهمة من العملة الصعبة ويخفض من عجز الميزان التجاري وينعش الدينار وفي كل هذا فوائد شاملة للاقتصاد غير خافية عن ذي نظر وفهم واذا ما حدث العكس لا قدر الله فان النتائج يمكن تلمسها فيما يصدره المعهد الوطني للاحصاء من ارقام مفزعة عن اختلال موازين البلاد التجارية والجارية. كما ان الأهداف المرجوة من مشروع قانون المالية في تحقيق عجز في ميزانية 2020 بنسبة 3% وتحقيق نسبة نمو في حدود 2,4% ستكون غير قابلة للتحقيق لان شرط الوصول اليهما سينعدم وهو الاستقرار الاجتماعي والسياسي و مواصلة الإصلاحات الاقتصادية الضرورية وسيتكرر السيناريو الذي انتهت عليه حصيلة ميزانية سنة 2019 حيث لم تتمكن الحكومة من تحقيق كل الأهداف المرسومة فيها.