في حكم «لترويكا» عبّر الإسلام السياسي عن وجوده القويّ بعدّة أشكال وأفعال، منها الاعتداء على حرمات الزوايا بالهدم أو بالحرق حتّى لم يسلم من الأذى مقاما بقيمة السيّدة المنّوبيّة أو سيدي بوسعيد كأنّها الوهّابيّة المطرودة تنقضّ على مقدّساتنا الشعبيّة ورموزنا الروحيّة من جديد بدعوى الفتح المبين. كان لا بدّ، وقد أتيحت الفرصة وتوفّرت الحماية، أن تساهم الفئة الضّالّة في بلدتي الطيّبة في ذلك المشروع المذهبي الظّلامي بفعل شيء ما في رمز البلدة، أي جامعها الكبير. وهو معلم تاريخيّ مسجّل، ولكنّه غير محميّ كفاية الأمر الذي عرّض محرابه لهدم مسلّتين من جملة ثلاث تزيّن واجهته بتعلّة أنّها منحوتات مقصودة لتجسيم التثليث بصفته جوهر العقيدة المسيحيّة، كأنّ الذين شيّدوا هذه التحفة المعماريّة الفريدة والذين تعاقبوا على الصلاة فيها لأربعمائة سنة كانوا مخطئين أو اشتبه عليهم الإسلام بالأضداد، والتوحيد بالأصنام. وقبل هدم المسلّتين والإبقاء على الوسطى بأعلى زوايا المثلّث الذي يتوّج المحراب عمد « الإخوان» عندما تحرّكوا في العهد البورقيبي إلى طمس نجمتي داوود المزيّنتين للقوسين الحاملين لقبّة المحراب يمنة ويسرة . كسّروا من كلّ واحدة شوكتين وأبقوا على أربع شوكات، فلا هي بعد ذلك مسدّسة ولا هي مخمّسة، أي لا تصلح بالتالي لا لليهوديّة ولا للإسلام، أي لا للدنيا و لا للدّين بعبارتنا الدارجة. والمعهد الوطني للتراث لم يحرّك ساكنا إلى اليوم رغم تواصل أشغال الترميم البطيئة في مستوى السطوح والقرميد، ولم يبال، لا هو، ولا وزارة الشؤون الدينية، بعبث القائمين على الجامع من أبناء البلدة وذوي السوابق في « الإصلاح» الديني إلى حدّ السجن، غفر الله لهم وهداهم إلى الصواب بالعلم وبالتاريخ. وتاريخ الموريسكيين، أواخر مسلمي الأندلس، يشهد على مبلغ إيمانهم وهم الذين فرّوا بدينهم مضحّين بأوطانهم حتّى وجد منهم من اقتطع أرضا من داره لبناء مسجد. أولئك لم يكونوا يفرّقون بين المقدّسات مهما كان إطارها الديني، بل كانوا يقدّسون الأديان السماويّة وكتبها من التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم ويحترمون جميع الأنبياء والرسل ويدافعون عن مريم وعيسى . أسلافهم اعتادوا طيلة قرن ونيف من الاضطهاد الذي مارسته عليهم محاكم التفتيش تضييقا عليهم في شعائرهم وعاداتهم نتيجة التعصّب الديني الكهنوتي، اعتادوا حضور القدّاس في الأديرة والكنائس متظاهرين باعتناق المسيحيّة ومتستّرين على عقيدتهم المحمّديّة، وتأثّروا بما شاهدوه منذ الصغر حتّى رسخ في خيالهم وانطبع في قلوبهم فبنوا، فيما بعد، مساجدهم وجوامعهم في وطنهم الجديد على شاكلة ما رأوا على أنّه مثال القداسة فجعلوها أشبه بتلك الأديرة والكنائس في المآذن والزخارف وفي كلّ مكان من جامع بلدتي الطيّبة . فهل نهدمه كلّه أو نزيّف التاريخ؟