طفق يذرع رصيف المحطة جيئة وذهابا غير عابئ بزخّات مطر تراقصها موجات ثبّت يديه داخل جيبي معطفه الجلدي الطويل بطربوش فضفاض يغطي جزءا كبيرا من سوف لن يباغته قطار السادسة صباحا ببروزه بين تلّتين هناك على بعد كيلومترين منحرفا نحو المحطّة كأنما ينفرج عنه الجبل، قبل أن يطلق صفيرا متموّجا لم يعد يزعج إنّه يعشق الساعات، بل أنه يحبّ الدّقة في التوقيت، ومنذ نعومة أظفاره كان يحسّ بأنّ الطبيعة حبته بساعة بيولوجية قلّما تخذله، ولن يباغته قطار السادسة صباحا، فسوف يتخيّله منسابا بين منعطفات الجبل وهو مغمض العينين ويبدأ عدّا تنازليا: عشرة- تسعة- ثمانية... ولن يفتحهما إلا على انعكاس أضوائه الكاشفة على السفح الغابي المقابل وقد غطّته الثلوج، قبل أن ينبثق في المنعطف كأنما انفلق عليه الجبل. ذلك هو سوف يأتي القطار وسينقر هو بسبابته نقرات متتالية متباعدة على تلك الساعة، ألقى نظرة عبر الأبواب والنوافذ البللورية في دفئ قاعة الانتظار: العجوز على كرسيها المتنقّل، يرافقها حفيداها ثلاث مرات في الأسبوع لإجراء عملية غسل الدّم بمستشفى المدينة، كما سمعها تقول للمرأة الشابة التي تجاهد لتهدئة ثلاثة أطفال أشقياء ستنقلهم إلى مدرسة المدينة في المحطّة الموالية على بعد ثلاثين كيلومترا من هنا، وهي قلقة بشأن هذه السفرة وشقاوة أطفالها القطار المكتضّ عمّالا وموظفين وطلبة لن ينزل أحد منهم هنا، بل سيلفظهم المسافرون هم من متساكني هذه القرية الجبلية الصغيرة والتي تكاد منازلها المتباعدة تعدّ على أصابع اليد الواحدة، تعرّف إليهم خلال اليومين الأخيرين منذ اضطلاعه بهذه المهمّة، كلهم عدا ذلك الكهل الذي لا يستطيع تكهّن سنّه ولا سبب تواجده بالمحطّة، يبدو أحيانا وكأنه يراقبه، ويتابع حركاته وسكناته وكلما التقت نظراتهما، انكفأعلى جريدة يفك شبكة الكلمات المتقاطعة، ولكن الغريب هو أنهما يجتمعان في أمور ثلاثة: كلاهما ليسا من متساكني القرية، ولا أحد منهما في انتظار قادم على متن القطار، ثمّ ولكن للكهل نظرة تبدو مصطنعة، تنم عن رغبة في تسوّل واستجداء شيء ما لم يستشفّه منها، ربما كان يخشى أن يطرده من المحطّة، وهو لا يعرف كيف سيجرٓأ على ذلك، ومخالفة التعليمات ؟ يكفي أنه خالف اليوم التعليمات بوجوب تواجده داخل أدار وجهه هناك حيث المنعطف الأخير، أغمض عينيه وتخيل القطار منسابا بين ثنايا بعد برهة سيفتح عينيه لحظة انعكاس أضوائه الكاشفة على ثلوج السفح الغابي المقابل لا قبل ولا بعد... تحسّس بيده اليسرى ساعته في دفئ جيب معطفه ...وبدأ العدّ التنازلي:" عشرة- تسعة-ثمانية - سبعة..." انطلقت خلفه صيحة، وإذا بالمرأة العجوز تعاتب حفيديها وهما يتشاجران حول أولويّة دفع كرسيها المتنقل حتى ليكادان يسقطانها من فوقه، ركض نحوها، واندفع الأطفال الثلاثة وتحلّقوا حوله بفضول مزعج تحت صياح والدتهم بأن لا يتقدّموا نحو المطر، ثمّ سمع صفير القطار وهو يقترب من المحطّة وأضواؤه الكاشفة تخترق ما تبقّى من خيوط الليل قبل انبلاج الصبح...فتبّا للعجوز وحفيديها واللعنة على الأشقياء الثلاثة أخرج ساعته ونقر عليهاحال توقّف القطار المليئ عمّالا وموظّفين وطلبة، فسحوا المجال للمسافرين الجدد، وأغلقت الأبواب...و تحرّك القطار ثانية فأعاد هو النقر على ساعته، ولا يدري من فرط غضبه نزع معطفه المبلل وضعه على مشجب وجلس إلى مكتبه ولم تبارح الساعة يده Norton اليسرى، ودوّن على كنّش كبير:"وصول القطار القادم من مدينة الرحلة رقم: مائة واثنين وستّون