كنت كلّما زرت بلدتي الطيّبة سألت عن مؤدّبي منذ ستّين سنة، ومؤدّب ولديّ منذ عشرين، فأجبت بردّ مطمئن على أنّه كعادته مواظب على الكتّاب والمسجد رغم فعل الشيخوخة فيه. ثمّ تباعدت زياراتي كأنّها انقطعت واكتفيت بالاتّصال الهاتفي. ثمّ تناقصت اتصالاتي كأنّها انقطعت هي أيضا فلم يبق لي إلاّ أن أرجو له - إن هو لا يزال على قيد الحياة - الصحّة على قدر العمر جزاء ما حفّظني من قصار السور وربّاني عليه من خشية الله دعما لوصايا الوالدين والعمّة والعمّين – رحمهم الله جميعا – حتّى بلغت بي الخشية، زيادة على اجتناب المنكر بما في ذلك الكذب، التقاط فتاتة الخبز أو المكتوب العربي من الطريق وحفظها مدسوسة في شقّ بجدار قديم كي لا تداس نعمة ربّي من الخبز والحرف الذي كتب به كلامه . فأيّ جهل بالدين وصل بنا اليوم، في ظلّ الحرّية والديمقراطيّة، إلى المدارس القرآنية – وأشباهها في النعوت والأسامي من القعقاع إلى الغفاري – التي يعشّش فيها الفساد ويفرّخ فيها الإرهاب عبثا بصغارنا وتشويها لديننا ونسفا لقيمنا وأخلاقنا ؟ أليس هذا الرهاب الذاتي أو الداخلي، فيما بين المسلمين، أخطر على الإسلام من الرهاب الأجنبي أو الخارجي المألوف عبر التاريخ من جهة الأعداء مذ شكّكوا في نبوّة محمد وطعنوا في القرآن والسنّة واتّهموا الفتوحات بالعنف وحدّ السيف ودسّوا الإسرائيليّات والخرافات في المتن المقدّس في إطار صراع دائم بدأه اليهود وطوّره النصارى من صليبيّة مسلّحة إلى صليبيّة محدّثة . و أنا لم ألم المبشّرين في دعوتهم للمسيحيّة ولا ألوم البابا في تنقّلاته الإشهاريّة في عقر دارنا باسم التسامح، خاصّة بعد أن دقّ شريط " الرسالة " ناقوس الخطر على الكنيسة وهي ترى أوفياءها يهجرونها إلى المسجد الجامع والبيت الحرام، وإنّما ألوم نفسي على تقصيري في إظهار ديني على الوجه الصحيح السليم وأحاسب المسؤولين على غفلتهم والسيل يجري من تحت كراسيهم حتّى صار شبابنا منه من يخشى الدين بالجملة فيهجر القرآن والعبادة ومنه من يلوذ بالمسيح ليطمئنّ قلبه وقد صارت عبارة التكبير إدانة بالتكفير وضرب الرقاب مسلما ضدّ مسلم ! أفلا تتفكّرون ؟ وبأيّ عقل أستوعب انفتاح جنّة عرضها السماوات والأرض للمجرمين والمنافقين باسم الجهاد في الاتّجاه المعاكس لسبيل الله، لا يعنيهم الأقصى ولا تشغلهم القدس . وإذ وسعت رحمة ربّي كلّ شيء، وهو الغفور الرحيم، فإنّي مرتاح إليه وإن أخطأت - والكمال له - ولست مرتاحا في أمري وديني وبلادي، مستقبلها وسمعتها، لأولئك الغرابيب الذين لا يصدقون الجهر بأنّهم يخافون ربّي أو أنّهم يخافونه حقّا لكثرة ما اقترفته ألسنتهم وأيديهم من سوأة القول والفعل في حقّه وحقّ عباده من استفحاش الغلمان إلى استفجار الفتيان . والله، قبل القانون، هو الهادي إلى الصراط المستقيم. هذا ما حفظت عن معلّمي الأوّل، وحتّى الثاني والثالث، جازاهم الله في الدنيا والآخرة بجميل الذكر وجزيل الأجر.