صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقفات في ذكرى الهجرة :أ.د. عبد الرحمن البر
نشر في الفجر نيوز يوم 06 - 12 - 2010


أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
1 - الإخلاص في الهجرة
الإخلاص للّه تعالى في كل عمل هو أساس قبوله ، ومحور صلاحه ، وقد كانت الهجرة درسا بليغا في ذلك ، وكان التأكيد على الإخلاص فيها أشد ، حتى اختصت الهجرة من بين سائر الأعمال الصالحة بأن ضُرِب بها المثل في ذلك .
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
وكان المهاجرون الكرام رضوان الله عليهم على تمام العلم بذلك ، وعلى كمال الإخلاصِ في هجرتهم ، كما وصفتهم بذلك الآيات والأحاديث الكثيرة .
فقد أخرج البخاري عن خَبَّاب بن الأرت قَالَ : «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا ، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ...» الحديث .
أجل ، خرجوا يريدون وجه الله ، لا ينتظرون أجرًا ممن سواه وشهد لهم بذلك ربُّ العزة جلّ وعلا ، فقال : لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
(الحشر:8)
ولم يحفظ لنا التاريخ منْ هاجر لمعني آخر ، إلا رجلاً واحداً ، هاجر يبتغى الزواج من إحدى المهاجرات .
فعن عبد الله بن مسعود قال : «مَنْ هَاجَرَ يَبْتَغِي شَيْئًا فَهُوَ لَهُ» وقال : «هاجر رجل ليتزوج امرأةً يقال لها أم قيس ، فكان يقال له : مهاجر أم قيس» (أخرجه الذهبي بسنده في سير أعلام النبلاء 10/590 وقال : «إسناده صحيح» ، وعزاه ابن حجر في الفتح 1/8 إلى سعيد بن منصور) .
وفي رواية قال : «كان فينا رجلٌ خطب امرأةً يقال لها أم قيس ، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر ، فهاجر ، فتزوجها ، فكنا نسميه : مهاجر أم قيس»(أخرجه الطبراني في الكبير 9/103 (8540) وقال الهيثمي في المجمع 2/101 : «رجاله رجال الصحيح »)
وبهذا الإخلاص وهذه التضحية استحق أولئكم النفر الكريم الفضيلة التي خصهم الله بها ، والدعاء الذي دعا لهم به رسول الله r، بأن يتقبل الله هجرتهم ، وأن يُمضي أجرهم .
فقد أخرج الشيخان عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أن النبي قال وهو يعوده من مرضٍ ألمَّ به «اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» الحديث .
إنها إشارة عظيمة إلى أن الأعمال الكبرى والتضحيات الجسيمة تحتاج إلى إرادة صادقة ونية مخلصة وعزيمة ماضية ، حتى لا تأخذها الأهواء بعيدا عن سواء السبيل ، ولا تنحرف بها المطامع الذاتية عن غايتها الكبرى .
فليكن لنا وقفة جادة مع أنفسنا في ظلال هذه الذكرى ونحن نغادر عاما ونستقبل آخر ، نراجع فيها مقاصدنا ونجدد فيها نياتنا ونحدد فيها طبيعة وجهتنا .
فهل يعي ذلك الدعاة الكرماء وهم يقدمون مشروعهم المبارك للأمة ، فيتسابقون ولا يتحاسدون ويبذلون وإن كانوا لا يأخذون ؟ وهل يعي ذلك إخواننا المجاهدون في ميدان الكرامة والشرف في فلسطين ، فيحيلون ميدان المعركة نارا وسعيرا على أعدائهم ، ويتنافسون في توجيه سلاح العزة إلى صدور عدوهم ، بدلا من التنافس على مغانم زائلة ومناصب فانية ؟ .
2 – إلا تنصروه فقد نصره الله
لا شك أن حدوث الهجرة على هذه الصورة التي تمت بها من أعظم الدلائل على نبوة نبينا محمدr، ولهذا سماها الله نصراً ، فقال عز وجل : إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا الآية (التوبة:40).
إن مكر خصوم الدعوة بالداعية ودعوته أمرٌ مستمرٌ متكررٌ ، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والتضييق والإخراج من الأرض ، ولكن ثقة الداعية بربه ، ويقينه بسموّ مبدئه ، وإيمانه الكامل بدعوته ، هي عُدّته في مواجهة الشدائد ومغالبة المصاعب والعوائق ، والثقة في الله في تلك اللحظات الحرجة هي المحكُّ الحقيقي لاختبار الإيمان . وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله .
إن آية النصرة إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إنما نزلت حين تثاقل البعض عن نصرته لما استنفرهم لغزوة تبوك ، متعللين بالمشقة وبعد السفر وقلة الزاد والعسرة ، فعاتب الله تعالى المتأخرين ، ووبَّخ المنافقين المخذِّلين الساعين في الناس بالإحباط والتيئيس ، وذكَّرهم بما أنزل على عبده ونبيه من النصرة حين أخرج من مكة ثاني اثنين ، وكأنما يناديهم وينادي الأمة في كل حين : إن تركتم نصره وقعدتم عن نصرة رسالته فالله يتكفل به ؛ إذ قد نصره في مواطن القلة ، وأظهره على عدوه ، وأيده بجنود من الملائكة ، وكذلك يفعل دائما .
إن على الأمة أن تقرأ هذه القصة قراءة متأنية ، وأن تقرأ واقعها في ضوء الآية ، فتثق بنصر الله للصادقين الصامدين الواثقين بربهم وبدينهم وبرسالتهم .
إن الآية والقصة – ولها في القرآن والسيرة مُثُلٌ ونظائر- تؤكد ضرورة الحركة الدائبة للداعية ، من غير يأس ولا ملل ، والبحث الحثيث الدائم عن منافذ جديدة وأساليب جديدة ، وعدم الخضوع لمحاولات التضييق أو الاستجابة للضغوط المختلفة لإيقاف مسيرة الدعوة ، فها هو النبي r حين ضاقت عليه مكة وضيّق عليه أهلها اتجه إلى الطائف ، ثم إلى قبائل العرب المختلفة ، دون أن تؤيسه المقولة التي كثر ترددها على ألسنة العرب (كما في صحيح البخاري) : «دعوه وقومه فإن يظهر عليهم نؤمن به» ، وهكذا ظل يدعو إلى أن جاء الفرج بعد أن نفضت كل قبائل العرب يدها من نصرة الدعوة خشية استعداء قريش فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم.
فهل تعي الأمة وهل يعي أهل الرأي والعقل فيها هذا الدرس العظيم في هذه الظروف الشديدة التي تعيشها أمتنا ، حتى تبصر طريق الخروج من أزمتها ، وسبيل تجاوز مشاكلها ، فتصحح ما فسد وتقوم ما اعوج ، وتتخذ سبيل الرشد بدلا من سبيل الغي ؟.
3 - صور رائعة من التضحية
دونك أخي الكريم بعض مشاهد العظمة في طريق الهجرة المباركة ، وهي مشاهد تؤكد طبيعة أولئك النفر الذين ربّاهم رسول الله بنفسه ، وصنعهم على عينه ، فنضَّر بهم وجه الدنيا ، وبيض بهم وجه الحياة ، فلم تكن هجرتُهم إلا طلبًا لما عند الله ولم يكن خروجهم إلا ابتغاء وجهه ، فرضي الله عنهم وأرضاهم .
لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحشر:8)
فهم يبتغون فضل الله ورضوانه ، ويسعون بهجرتهم إلى نصر الله ورسوله ، مجاهدين لأهوائهم ، معاندين لشياطينهم ، صادقين في أغراضهم وأهدافهم .
وهذا رسولُ الله يشرحِ طرفا من هذه المجاهدة ، ثم يذكر نتيجته المحتومة .
فقد أخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان وحسنه ابن حجر عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ : تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ! فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ : تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ! وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ!(الحبل الذي تشد به الفرس) فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ : تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ! فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ ،فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ... » الحديث
لقد امتلأ هذا الحدث العظيم بكثيرٍ من مشاهد العظمة والتجرد والتضحية ، التي تعطي الأمة دروسًا بليغةً في بناء المجد وتحصيل العزة ، ويحتاج شباب الأمة أن يدرسوها في ظل الظروف الشديدة التي تمر بها الأمة ، حتى يتبصروا سبيل النجاة والفلاح.
وهاك بعضَ هذه المشاهد -كما هي - بلا تزويق ولا ترويق ، وليحاول كلُّ مسلم أن يستنبط الدروس ويتلمس العبر من هذه المشاهد العظيمة .
ا - هجرة صهيب بن سنان درس في التضحية :
كانت هجرة صهيب عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان ، وعظمة التجرد للّه ، حيث ضحّى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان .
فقد أخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (وله شواهد متعددة) عن صهيب قال : قال رسول الله : «أرِيتُ دارَ هجرتكم ، سَبْخَةً بين ظهراني حَرَّة ، فإمّا أن تكون هَجْراً أو تكون يثرب» .
قال : وخرج رسول الله إلى المدينة ، وخرج معه أبو بكر ، وكنتُ قد هممتُ بالخروج معه ، فصَّدني فتيانٌ من قريش ، فجعلتُ ليلتي تلك أقوم ولا أقعد ، فقالوا : قد شغله الله عنكم ببطنه -ولم أكن شاكيًا - فناموا ، فلحقني منهم ناسٌ بعد ما سِرْتُ بريدًا (حوالي اثني عشر ميلا)؛ ليردوني ، فقلت لهم : هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب ، وتخلُّون سبيلي ، وتَفُون لي؟ فتبعتُهم إلى مكة ، فقلت لهم : احفروا تحت أُسْكُفَّة الباب (أي عتبته)، فإن تحتها الأواق ، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحُلَّتين .
وخرجتُ حتى قدمتُ على رسول الله قبل أن يتحوّل منها -يعني قباء – فلما رأني قال : «يا أبا يحيى ، ربح البيع» . ثلاثاً . فقلت : يا رسول الله ، ما سبقني إليك أحد ، وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام.
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس أن في قصة صهيب نزلت على النبي وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتغَاءَ مَرْضَاتِ الله (البقرة:207).
اللهم إنا نشهدك -ولا نزكي عليك إلا ما زكيت - أن صهيبًا ما فعل ذلك ، وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاتك ، بالغًا ما بلغ الثمن ، ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيز المنال ، عساهم يسيرون على الدرب ، ويقتفون الأثر .
2 - هجرة آل أبي سلمة درس في الثبات:
هذا مشهدٌ أخرٌ يضارع المشهد السابق عظمةً وجلالاً ، ويرسم صورة حية للثبات على الحق مهما تكن المصاعب والعقبات . إنها أسرةٌ مؤمنةٌ باعت نفسها للّه ، تتكون من أب وأم وطفلٍ ، أصابهم في سبيل الهجرة إلى الله ورسوله ما أصابهم ، فتحملوا صابرين ، وهاجروا مؤمنين ، وجاهدوا مثابرين .
وقد أخرج ابن إسحاق بسند حسن هذه القصة على لسان أم سلمة رضي الله عنها، وخلاصتها :أنها لما خرجت مع زوجها أبي سلمة وابنها سلمة منعها رهطها من الهجرة مع زوجها ، مما أثار غضب رهط أبي سلمة ، فقالوا : والله لا نترك ابننا عندها ، فتجاذبوا ابنها سلمةَ بينهم ، حتى خلعوا يده ، وانطلق به رهط أبي سلمة ، وحبسها رهطها عندهم ، وانطلق زوجها أبو سلمة إلى المدينة . ففرق بينها وبين زوجها وبين ابنها .
فما زال تخرج وتبكي ، سنةً أو قريبًا منها ، حتى مرّ بها رجل من بني عمها ،فرحمها وكلم أهلها فسمحوا لها باللحاق بزوجها ، ورُدَّ إليها ابنها ، وخرجت مهاجرة إلى الله ورسوله .
قالت أم سلمة : والله ما أعلم أهل بيتِ في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة .
الله أكبر الله أكبر! أرأيتم أثر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ؟ !
هذه أسرة فُرِّق شملها ، وامرأة تبكى شدة مصابها ، وطفل خلعت يده وحُرِم من أبويه ، وزوج وأبٌ يسجل أروع صور التضحية والتجرد؛ ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة ، محتسبين في سبيل الله ما يلقون ، مصممين على المضيّ في طريق الإيمان ، والانحياز إلى كتيبة الهدى ، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟!
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
3 - هجرة ضَمُرَة بن جُندب درس في ترك التماس المعاذير والرخص:
ثالث هذه المشاهد يرينا ما كان عليه هذا الجيل الكريم من سرعة في امتثال الأمر ، وتنفيذه في النشاط وِالشدة ، كائنة ما كانت ظروفهم ، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير في القعود ، ولا يطلبون الرخص للتخلف عن الركب .
فقد فرض الله الهجرة على المؤمنين بحيث أن «كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنًا من إقامة الدين ، فهو ظالمٌ مرتكب حرامًا بالإجماع » كما قال ابن كثير . لكن الله أعفى من هذا الفرض المستضعفين من الرجال والنساء والولدان المحبوسين بعذرٍ أو مرض ولا حيلة لهم ، فقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً . إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً . فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُواًّ غَفُوراً
وقد كان ضَمُرَةُ بن جُندب مريضًا ذا عذر ، لكنه أراد أن يلحق بركب التوحيد إلى أرض الإيمان ، بالغةً ما بلغت المشقة .
فقد أخرج أبو يعلى والطبراني بسند رجاله ثقات وله شواهد عن ابن عباسِ قال : «خرج ضَمُرة بن جُندُب من بيته مهاجرًا : فقال لأهله : احملوني ، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله . فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي ، فنزل الوحي: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً(النساء :100) .
فهذا الرجل قد رأى أنه ما دام له مالٌ يستعين به ويحمل به إلى المدينة ، فقد انتفي عذره . وهذا فقهٌ أملاه الإيمان ، وزكاه الإخلاص واليقين . فهل يفقه ذلك الكسالى المتقاعسون الذين يعتذرون عن المشاركة الجادة في خدمة رسالتهم ، وحمل مشروعهم الإصلاحي ؟.
4 – هجرة عياش بن أبي ربيعة درس في أن وعي الأمة يحميها من خداع أعدائها :
من الصفحات التي يجب أن تُقرَأ في كتاب الهجرة المباركة : قصة هجرة المستضعفين الذين غررت بهم قريش ، واستغلت سلامة نياتهم في فتنتهم ، فقراءة هذه الصفحة تحيي وتنمِّي الوعي، فتعالوا نقرأ معا ما فعلته قريش ببعض المسلمين .
أخرج ابن إسحاق بسند صحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ،( قَالَ : «اتّعَدْتُ -لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ - أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ ، فَوْقَ سَرِفٍ (هذا الموضع في شمال شرقي مكة ، يسمى اليوم : الردينة، وفيه قبر أم المؤمنين ميمونة ) وَقُلْنَا : أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ . قَالَ : فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضُبِ ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ ، وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ(أي استجاب للكفر بعد الإسلام) .
فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ بقُباءٍ وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا ، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ ( بِمَكّةَ ، فَكَلّمَاهُ وَقَالَا : إنّ أُمّك قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك ، وَلَا تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّى تَرَاك . فَرَقّ لَهَا ، فَقُلْت لَهُ : يَا عَيّاشُ إنّهُ وَاَللّهِ إنْ يُرِيدَك الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك ، فَاحْذَرْهُمْ ، فَوَاَللّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّك الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ ، وَلَوْ قَدْ اشْتَدّ عَلَيْهَا حَرّ مَكّةَ لَاسْتَظَلّتْ . قَالَ : فَقَالَ : أَبَرّ قَسَمَ أُمّي ، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ . قَالَ : فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا ، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا . قَالَ : فَأَبَى عَلَيّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا ؛ فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ : قُلْت لَهُ : أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْت ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ (سهلة الركوب والانقياد) فَالْزَمْ ظَهْرَهَا ، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا .
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ يَا ابْنَ أَخِي ، وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا ، أَفَلَا تُعْقِبَنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا ، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمّ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ (أي استجاب للكفر بعد الإسلام).
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : أَنّهُمَا حَيْنَ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ دَخَلَا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا ، ثُمّ قَالَا : يَا أَهْلَ مَكّةَ ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا .
قَالَ : فَكُنّا نَقُولُ : مَا اللّهُ بِقَابِلٍ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً ، قَوْمٌ عَرَفُوا اللّهَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ ، لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ! قَالَ : وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ .
فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ  الْمَدِينَةَ ، أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعًا إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لَا تُنْصَرُونَ . وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ وَبَعَثْت بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي ، قَالَ : فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي : فَلَمّا أَتَتْنِي جَعَلْت أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى (هذا المكان يشمل اليوم : العُتَيبة ، وجَرول ، والطَندَباوي، ومعظم شارع المنصور ) أُصَعّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا ، حَتّى قُلْت : اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا . قَالَ : فَأَلْقَى اللّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا ، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا . قَالَ : فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي ، فَجَلَسْت عَلَيْهِ ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللّهِ  وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ ».
وقد كان النبي ( يدعو لهؤلاء المستضعفين في صلاته ، ويدعو على الساعين في فتنتهم ، حتى أذن الله بالفرج ، فقد أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ( أَنَّ النَّبِيَّ ( كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَقُولُ : «اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف» ...الحديث .
إن هذه القصة وغيرها تؤكد وجوب التنبه الدائم لمحاولات الأعداء فتنة الدعاة واستغلال سلامة نياتهم في الإيقاع بهم ، وضرورة الحذر من الوقوع في الفتنة ، فالمؤامرة مستمرة ، والأعداء متربصون يعملون بمكر الليل والنهار لبلوغ أهدافهم وفتنة المؤمنين عن دينهم ورسالتهم ، وعلى الدعاة أن يكونوا أكثر إدراكا وأعظم وعيا وقدرة على إحباط هذا المكر .
4- الهجرة باقية لا تنقطع
كانت الهجرة إلى رسول r قبل فتح مكة واجبة ، فلما فتح الله مكة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وأتت الوفود من كل صوب وحَدَب تعلن إسلامها وولاءها ، وأظهر الله الإسلام ، وصار المسلم يعبد ربه حيث شاء قَالَ رَسُولُ الله : «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» (أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس).
وجاء مجاشع بن مسعود وأخوه إلى النبي r فقالا: بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ. فَقَالَ : «مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا» فَقالا : عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ : «عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ». (أخرجه البخاري)
وقصد بذلك الهجرة من مكة خاصة ، لأنها قد صارت بالفتح دار إسلام ، وأنها لن تكون دار كفر إلى يوم القيامة ، فلا تُتصوّر منها الهجرة وقد مضت هذه الهجرة الفاضلة لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة ، فلن يلحقهم في هذا الفضل لاحق . وأما الهجرة من دار الحرب والكفر إلى دار الإسلام فباقية دائمة إلى يوم القيامة ، إذ أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدما ، فحيثما وجدت العلة الداعية إلى الهجرة وجبت الهجرة ، فقد أخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عَنْ عَبْدِ الله بن وقدان السعدي عن النبي قَالَ : «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ» .
وهذا يجرنا إلى الإشارة إلى مسألة كثر الكلام عنها ، وهي : حكم الهجرة والإقامة في بلاد غير إسلامية : لا شك أن المسلم الذي يقيم في بلاد غير إسلامية ويمنع فيها من ممارسة دينه ، أو يجبر على الردة عنه فإنه لا يحل له المقام بهذه البلاد لغير ضرورة مشروعة . فأما البلاد التي لا تمنع المسلم من ممارسة عبادته وشعائر دينه ، والتي لا تلزمه بالتخلي عن دينه وإيمانه ، كما هو الحال في أمريكا وأوربا واليابان وغيرها ، فلا بأس بالإقامة في تلك البلاد ، خصوصا للذين يستمسكون بدينهم ولا ينزلقون في الفتنة عنه ، ويجتهدون في تربية أجيالهم الناشئة على دين الحق ، خصوصا أيضا وأن المواثيق الدولية التي صدقت عليها أغلب بلدان العالم تعطي كل إنسان الحق في ممارسة دينه بلا إكراه ، كما أن التواصل الإنساني اليوم يوجب على الأمة – وبخاصة أصحاب الدين والمشروع الإصلاحي - أن يكون لها حضور قوي على المستوى الدولي من خلال الجاليات الإسلامية في تلك البلدان ، وتدعيمها وتوجيهها ليكون لها دور قوي في التقارب الإنساني ، وفي نشر القيم الفاضلة النبيلة ، التي تكاد العولمة الأمريكية الحديثة أن تعصف بها ، وليتذكر إخواننا الذين يعيشون في تلك البلاد للدراسة أو للعمل أو لغير ذلك أنهم حملة رسالة الخير والنور ، وأن من واجبهم العمل على إسعاد البشرية بنشر قيم الحق والخير التي جاء بها الإسلام الحنيف ، كما فعل سلفهم التجار في بلاد شرق آسيا من قبل .
كما أن على الجاليات المسلمة أن تكون مجتهدة في تقديم الخير لتلك البلاد ، وفي محو الصورة الذهنية السلبية التي يجتهد أعداء الإسلام في ترويجها ، لتفزيع الناس من دين الحق وتخويفهم من رسالة الهدى ، وذلك من خلال تقديم صورة عملية لأخلاق الإسلام ومعاملاته الكريمة . وتلك مهمة والله جليلة عظيمة ، ولربما أقول : هي نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله بمعناه الواسع الكريم لو صدقت النية في جلب المنافع ودفع المضار عن الأمة وإظهار الوجه المشرق للإسلام ، مما يدع الآخرين للدخول في دين الله أفواجا .
5 - المعاني الباقية للهجرة
يبقى أيها الإخوة الكرماء أن نتذكر الهجرة المعنوية المستمرة الدائمة التي لا ينبغي أن ينفك عنها المسلم ، والتي قال عنها الإمام ابن قيم الجوزية في الرسالة التبوكية : « إنها فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وإنه لا انفكاك لأحد من وجوبها ، وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان : هجرة بالجسم من بلدٍ إلى بلدٍ ، وهذه أحكامها معلومة .
والهجرة الثانية : الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية ، وهي الأصل ، وهجرة الجسد تابعة لها ، وهي هجرة تتضمن «من» و«إلى» ، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذلِ والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له» .
وقال رحمه الله عن هذه الهجرة في (طريق الهجرتين وباب السعادتين) : «هجرةٌ إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نَفَس إليه .
وهجرةٌ إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة ، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محابِّ الله ومرضاته ، ولا يقبل الله من أحدٍ دينًا سواه ، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها ؛ لا زاد المعاد»
وهاك بعض هذه المعاني الباقية الدائمة :
ا - الجهاد في سبيل الله بنية خالصة : كما في أحاديث ابن عباس ومجاشع بن مسعود وعبد الله السعدي السابقة .
وأخرج النسائي بسند رجاله ثقات عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ الله ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُهَاجِرٌ؟ قَالَ : «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» .
وأخرج البخاري وغيره عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : زُرْتُ عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ ، فَسَأَلْنَاهَا عَنْ الْهِجْرَةِ فَقَالَتْ : «لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ ، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ».
وأخرج البخاري عَنْ مُجَاهِدٍ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّأْمِ . قَالَ : «لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ ، فَانْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلَّا رَجَعْتَ» .
وأخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عن يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ : جِئْتُ رَسُولَ الله بِأَبِي أُمَيَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ الله ، بَايِعْ أَبِي عَلَى الْهِجْرَةِ . فَقَالَ رَسُولُ الله : «أُبَايِعُهُ عَلَى الْجِهَادِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ» .
قال النووي في شرح مسلم : «قوله َr : «ولكن جهاد ونية» معناه : أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، ولكن حَصّلوه بالجهاد والنية الصالحة»
2 -التوبة النصوح الصادقة وهجر الخطايا والسيئات قبل طلوع الشمس من مغربها : أخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن معاوية قال : سمعت رسول الله يقول : «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
وأخرج أحمد بسند رجاله ثقات عن عبد الله بْنِ السَّعْدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ : «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتَلُ» فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : إِنَّ النَّبِيَّ قَالَ : «إِنَّ الْهِجْرَةَ خَصْلَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنْ تَهْجُرَ السَّيِّئَاتِ ، وَالْأُخْرَى : أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ ، وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ ، وَكُفِيَ النَّاسُ الْعَمَلَ»
وهذا هو هجر السوء والسيئات والخطايا والذنوب الوارد في الأحاديث المختلفة .
فقد أخرج البخاري وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه»
قال ابن حجر في فتح الباري : «خصّ المهاجر بالذكر تطييبًا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة ، فأعلمهم بأن من هجر ما نهي الله عنه كان هو المهاجرَ الكامل ، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيهًا للمهاجرين أن لا يتَّكلوا على الهجرة ، فيقصِّروا في العمل» .
وفي رواية عنه عند النسائي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ : « أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ»
وأخرج ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي عن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ : «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ»
وأخرج الطبراني بسند رجاله ثقات وصححه ابن حبان عَنْ صَالِحِ بن بَشِيرِ بن فُدَيْكٍ ، أَنَّ جَدَّهُ فُدَيْكًا أَتَى النَّبِيَّ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ :«أَقِمِ الصَّلاةَ، وَائْتِ الزَّكَاةَ، واهْجُرِ السُّوءَ، وَاسْكُنْ بَيْنَ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ»
3-إعطاء الصدقات : فعن أبي سعيد الخدري :قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ : «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ : نَعَمْ .قَالَ : «فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟» قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : «فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا شَيْئًا؟ » قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا؟» قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا»
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : «في حديث أبي سعيد : فضل أداء زكاة الإبل ، ومعادلة إخراج حق الله فيها لفضل الهجرة ، فإن في الحديث إشارةً إلى أن استقراره بوطنه إذا أدى زكاة إبله يقوم له مقام ثواب هجرته وإقامته بالمدينة»
6 – فوائد أخرى
إن حدث الهجرة مليء بالدروس والعبر النافعة ، نشير في ختام هذه الرسالة إلى بعضها :
1 - ضرورة الاهتمام ببيوت الدعاة ، حتى تكون على مستوى المسئولية المنوطة بها . وأمامنا بيت أبي بكر الصديق نموذجٌ فدٌّ لما ينبغي أن تكون عليه بيوت الدعاة ، فقد شارك جميع أفراد هذا البيت في هذا الأمر الجليل الخطير -أمر الهجرة -وكانوا جميعًا على مستوى المسئولية رجالاً ونساءً ، صغارًا وكبارًا ، وكان أبو بكر على تمام الوعي ببيته ، والثقة بأهله وبما غرسه في نفوس الجميع من حب الدعوة والداعية ، وافتدائه بالنفس والمال ، ولما قال النبي : " أخرج عني من عندك " . قال : "إنما هم أهلك يا رسول الله"
2 - إقامة الدولة الإسلامية العالمية ينبغي أن يكون هدف الدعاة الأساسي والرئيسَ الذي يملأ قلوبهم وعقولهم ، وتنطلق على أساسه حركتهم في الحياة ، وأن يكون هذا هو المحور الذي تدور حوله الأهداف المرحلية الأخرى القريب منها والبعيد ، والتي يقف على رأسها العملُ على إيجاد كيان سياسيٍّ وعسكريٍّ ، يحمي الدعوةَ ويهيء لها سبيل الانطلاق ، ويعينها على تفادي العقبًات والمعوِّقات ، حتى تصل إلى غاياتها السامية . وهذا ما بدا واضحًا أنه الدافع الرئيس للهجرة التي لم تكن أبدًا فرارًا . ولا هربًا ، وإانما كانت تحوُّلاً في المواقع يتيح للدعوة إقامة الدولة حاملة لواء الدعوة ، وبناء الجيش المدافع عنها .
3 - الوطن في الإسلام هو وطن العقيدة ، قبل أن يكون وطن المولد والنشاة ، ومع أن الإسلام يزكي معاني الحب للأوطان ويراعي أنه فطرة مركوزة في النفوس ، فإنه يحذر من أن يكون ذلك سببًا للقعود عن الجهاد ، وفي الإخلاد إلى الأرض ، ويوجه المسلم إلي التضحية به ، واستبدال الأرض الحاضنة للدعوة به ، بل وحبّها عليه ، ولهذا كان يقول حين يسمع من أصحابه المهاجرين حنينًا إلى مكة : " اللهم حبِب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد" .
4 - أهمية دور العقيدة والدين في إزالة العداوات والضغائن ، وفي التأليف بين القلوب والأرواح ، وهو دورٌ لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تضطلع به . وها أنت ترى كيف جمعت العقيدة بين الأوس والخزرج ، وأزالت آثار معارك استمرت عشرات السنين ، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة جد قصيرة ، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها .ثم ها أنت ترى ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة ، وتآخوا معهم في مثالية نادرة ، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل .ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في ا لنفوس . .
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة ، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين ، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها ، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة .
5 - التأكيد على أهمية دور الشباب في الأحداث الكبرى في تاريخ الأمة ، وقد برزت في الهجرة أسماء شابة كثيرة نذكر منها : مصعب بن عمير المقرئ ، وأسعد بن زرارة الأنصاري ، أصغر المبايعين سنا ، وعلي بن أبي طالب الفدائي الذي نام في فراش المهاجر الأعظم ، وعبد الله بن أبى بكر الذي اضطلع بمهمة المخابرات ، وعامر بن فهيرة ، وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين .
6 - التأكيد على أهمية دور المرأة المسلمة في الأحداث الكبرى ، وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد ، منها : عائشة بنت أبي بكر التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلَّغتها للأمة ، وأسماء ذات النطاقين ، وأم سلمة المهاجرة الصبور ، وأم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية ، وأم منيع أسماء بنت عمرو الأنصارية ، اللتين بايعتا رسول الله ليلة العقبة مع السبعين ، وغيرهن كثير رضي الله عنهن أجمعين .
7 - التأكيد على شمولية الإسلام والإيمان به دينًا شاملاً ينتظم أمور الدنيا والآخرة ، وهذا ما أكدته بنود البيعتين في العقبة الأولى والثانية ، فهو ليس عبادات فقط ، ولا أخلاقًا فاضلة ،فقط ، وإنما هو دين شامل كامل يوجب على من يعلن الإيمان به : عبادةَ الله وحده لا شريك له بما أمر وكما أمر ، وترك كافة الرذائل التي حرمها من السرقة والزنى وقتل الأولاد وافتراء البهتان على العباد والمعصية للّه ولرسوله ، ويلزمه بالسمع والطاعة في العسر واليسر والنشاط والكسل ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقول الحق من غير أن تأخذه في الله لومة لائم ، وبنصرته والدفاع عنه في مواجهة من يقصده بسوء .
تلك كانت بعض الفوائد والدروس ، والحدثُ الكريمُ مليء بغيرها من الطيب الكريم ، والله المسؤول أن ينفعنا بها ، وأن يوفقنا لما يحب ويرضي . .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.