تساءل أحد المثقفين اللبنانيين في تدوينة تداولها الكثير من التونسيين حول الأسباب التي تجعل تونس الخضراء الأرض التي ولدت الزعماء الأفذاذ والمثقفين والمفكرين الكبار والتي نبت في أرضها المصلحون منذ عقود طويلة تحكم الآن من قبل سياسيين بهذه الرداءة وبهذا الابتذال؟ سؤال جوهري قطفه هذا المثقف اللبناني من أفواه ملايين التونسيين.. ونكاد نقول من أفواه الأغلبية الساحقة من التونسيين هؤلاء الذين يؤرقهم سؤال حارق مفاده: من أين جاءتنا هذه الطبقة السياسية وهل أصيبت بلادنا بالعقم حتى تستسلم لحكم طبقة سياسية هاوية ومتعطشة للسلطة ومصممة على الالتحام بكراسي الحكم حتى ولو انهارت البلاد وسقطت في الفشل والفوضى. فعلى مدى تاريخها أنجبت الخضراء الكثير من القادة السياسيين والنقابيين من محمد علي الحامي إلى فرحات حشاد إلى الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاق دربه من أمثال المنجي سليم والباهي الأدغم رحمهم الله. كما أنجبت قبل ذلك وبعده الكثير من المفكرين الذين علموا الدنيا ووضعوا القواعد والنظريات العلمية والاجتماعية. كما أن تونس كانت محظوظة من بين دول العالم العربي والعالم الثالث بأن حكمها منذ أواسط الخمسينات محرّرها وباني استقلالها الزعيم بورقيبة المتعلم والمثقف والذي راهن على تعميم التعليم وتحويل الحق في الصحة إلى حق مشاع لكل التونسيين.. وذلك على درب صياغة عقل سليم في جسم سليم يكون قادرا على بناء الدولة الوطنية رغم شح الموارد والامكانيات وقتها ورغم افتقار البلاد للكوادر والاطارات الوطنية بفعل سياسات التجهيل والتفقير والتهميش التي مارسها المحتل الفرنسي على مدى أزيد من 70 سنة كانت عمر الاحتلال الفرنسي لبلادنا. ويدرك الشعب التونسي ويحفظ للزعيم بورقيبة أياديه البيضاء على تونس وعلى التونسيين. ويعترفون بفضل المدرسة الوطنية والتعليم العمومي الذي راهن عليه بورقيبة في تكوين وتخريج نخب من المثقفين والمختصين والأساتذة من كل الدرجات والباحثين والدارسين الذين بنوا الدولة الوطنية وكانوا سدّا منيعا أنقذ تونس من الوقوع في دوامة العنف والفوضى كما حدث في بلدان عربية عديدة إثر مرور اعصار الربيع العبري فما الذي يجعل تونس تقع فريسة لسياسيين مبتدئين ومتعطشين للكراسي.. سياسيين لا يتورعون عن الانخراط في شتى أنواع المعارك والصراعات والتجاذبات ولا يترددون في استخدام كل الوسائل والأساليب الملتوية وحتى «الأسلحة» المحرمة في محاولات لتسجيل نقاط أو تحصين مواقع أو إضعاف خصوم... دون أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة ودون أن ينتبهوا بأن معاركهم العبثية التي يخوضونها بهذه الطرق الهابطة لا تفضي إلا إلى مزيد تدمير البلاد وتدمير فرص نهوضها واستعادة عافيتها اقتصاديا واجتماعيا وصحيا... ولعل المشاهد المخجلة والمزرية والمسلسلات الهابطة التي تابعها التونسيون وباقي شعوب الدنيا حول الصراعات المعلنة بين رموز السلطة مؤخرا في البلاد هي التي دفعت هذا المثقف اللبناني الحزين على تونس وعلى مستقبلها الغامض للتعبير عن استغرابه من هذا الوضع واستهجانه لمعادلة أن تحكم تونس ولاّدة الزعماء والمفكرين بسياسيين مبتدئين وهابطين يقودونها بثقة وتصميم إلى الهاوية. هذه التدوينة بما تختزنه وتعبّر عنه من ألم وأسى وخوف يفترض أن تهز ضمائر حكامنا إن بقيت لهم ضمائر وأن تدفعهم إلى الكف عن صراعاتهم العبثية والتوافق لتوحيد الجهود والطاقات عسانا ننقذ البلاد من انهيار صحي واقتصادي واجتماعي تكدّست نذره وبات يدفعنا أكثر فأكثر إلى حافة الهاوية. عبد الحميد الرياحي