و نلاحظ من خلال كلّ ما تقدّم أنّ الأحداث كانت تنقل لنا في حقيقة الأمر ترانيم الحبّ العميق الّذي يسكن الفؤاد و يقيّد ارتباطنا بالوطن المنشود و الّذي حاولت الكاتبة رسمه بأدوات و ملامح متغيّرة. من ذلك قولها: (ليس بمعناك الآن يا وطني أنا أحيا و لكنّني أحيا بمعنى الدّهشةفي رحم جدّتي.)(ص:64) لنجدها تصرّح في آخر الجزء الأوّل من الرّواية بهذا الاعتراف الّذي يؤكّد بأنّ الحكاية الغرامية الّتي نتابع تفاصيلها لم تكن في حقيقة الأمر إلّا مخاتلة فنّيّة استغلّتها الكاتبة بحنكة كبيرة حتّى تضفي على عملها الكثير من العمق، و ربّما بحثًا عن التّشويق أيضًا. خصوصًا ونحن نعلم أنّ أغلب القرّاء عادة ما يتابعون تفاصيل الحكايات الغرامية الّتي تأتي في الانتاجات الأدبية الّتي تكتبها المرأة، ظنًّا منهم دومًا أنّها تفضح تجاربهنّ الشّخصية و الحال أنّ المبدع يكون مشغولًا و مهووسًا بتبليغ مقاصد الكتابة حتّى و إن سبح به الخيال بعيدًا و اضطرّإلى اختلاق أحداث وهمية تساعد على حسن التّأويل. إلّا أنّ عُقد القارئ تمنعه غالبًا من قبول ذاك الخيال من المرأة الكاتبة، و الحال أنّه يقبله من الكاتب. وأظنّ أنّ الجملة الأخيرة في الجزء الأوّل للرّواية جاءت لتؤكّد لنا ترفّع الكاتبة عن هذه العقد و ميلها إلى توظيف كلّ ما تكتبه لصالح التّأويل الأسلم و الأبلغ للأحداث. و أرى أنّ الجملة الأخيرة كانت رغم قصرها، كانت عميقة. حيث جاءت كما يلي:(اليتم الكبير هو أن تفقد وطنًا ...) (ص:69). فهل هناك ما هو أصدق و أبلغ من هذا الاعتراف؟و هل سنكون في حاجة إلى البحث عن تطابق الأحداث مع التّجاربالشّخصية للكاتبة، و الّتي تدخل في باب الحريّات الشّخصية للكاتبة. لأنّ ما يهمّ القارئ في حقيقة الأمر هو المتن الابداعي و ليس حياة كاتبه. و لأنّ الإشارات في رواية «طيش الاحتمالات» حول مفهوم الوطن كانت كثيرة و متنوّعة، أرى أنّه من المفيد التّوقّف عند تلك الجملة الموحيةو العميقة و الّتي جاء فيها:(...كم كان اسمها جميلًا و جذّابًا. أتعلمون ما اسمها؟ ولّادة، تلك المرأة المتفرّدة كان اسمها ولّادة. جمعت ولّادة أبناءها جميعًا و دعتهم لأن يكونوا يدًا واحدة لاسترجاع وطنهم المسلوب.) (ص: 92/ 93) و لأنّ الكاتبة كانت مسكونة بعشقها للوطن و هي تتحدّث عن تفاصيل حكايات العشق، سأنهي النّماذج بهذه الجملة الّتي جاءت في الفصلالثّامن من الجزء الثّاني في الرّواية، و الّتي شعرت أنّها تلخّص نبض الوطن الّذي نحلم بإدراكه. متمنيًا أن أكون قد وُفّقت من خلال هذه النّماذج في تقريب ملامح و هيكلة الكتابة الأدبية لدى زهرة الظّاهري. تقول الرّاوية: (...لماذا يعود حزنه اليوم بكلّ ثقله؟ أهو شعوره بأنّه سيفارق المكان الّذي دوّن حكاية عشقهما؟ أم تراه شعوره القويّ بفقدان الوطن الّذيأحبّه...؟ « آه يا مريم يا وطني و منفاي. ») (ص: 111) و أرى أنّ هذه الجملة جاءت لتؤكّد لنا بأنّ تفاصيل الحكاية الغرامية الّتي تضمّنتها الأحداث لم تكن في نهاية الأمر إلّا شاهدة لقصّة عشقلوطن مفقود. أو هكذا فهمت الأحداث،و وجدت نفسي أفسّر الصّورة و الألوان الّتي جاء عليها غلاف الرّواية. و حتّى لا يقع القارئ تحت تأثير هذا التّأويل دون غيره من القراءات سأحاول تقديم بعض الإشارات الّتي تحدّثت عن مفهوم الكتابة ودور الأدب في الحياة. حيث تحدّثت الرّاوية عن القارئ مثلًا فقالت: (- لا يستطيع الكاتب أن يتحدّث عن نفسه، عادةً كتاباته هي الّتي تتحدّث عنه.القارئ الجيّد هو الّذي يتسرّب إلى ما خلف السّطور ليلامسروح الكاتب.) (ص: 86) ثمّ نجده ينقل لنا هذا الحكم عن الكتّاب في موقع لاحق: (- الكاتب الحقيقي هو من يُحدث تلك الرجّة لدى القارئ.) (ص: 86) كما تحدّثت الرّواية عن مفهوم الثّقافة، فنقرأ:(...الثّقافة الّتي لا تزرع الحبّ ليست سوى جاهلية مقنّعة.) (ص: 87). ليخلص بعد ذلك إلى القول: (... و قد صرّحت في مناسبات عدّة أنّ الكتابة هي حياة أخرى و هي الوسيلة الوحيدة لتتحرّر من العالم...) (ص: 87). و قبل تقديم نماذج مختارة من الرّواية تُعبّر عن الشّاعرية الّتي كتبت بها زهرة الظّاهري جملها السّردية سأتوقّف قبل ذلك عند الجملة الّتيشعرت أنّها كانت ملهمة للكاتبة لاختيار العنوان. حيث نقرأ: (ها أنت ترحلين يا رفيقة دربي، آن لك أن تستريحي و آن لي أن أواصل المشوار وحدي و أن أتعلّق بطيش الاحتمالات.) (ص: 95). و بعد كلّ ما تقدّم و في محاولة منّي لمزيد تقريب ملامح الكتابة الأدبية لدى زهرة الظّاهري في رواية «طيش الاحتمالات»، سأحاول اختياربعض النّماذج الّتي شعرت أنّها تُعبّر عن البناء الفنّي لجملتها السّردية. من ذلك مثلًا:(...يحلو له أن يمشي تلك المسافات الطّويلة دون أنينشغل بنهاية الطّريق.)( ص:10). أو قولها لاحقًا:(...ومنذ تلك اللّحظة أدمنت حزنها و الصّمت.) (ص: 16). أو نقرأ في مكان آخر(...كانت تتشكّل، كما كلمة تائهة في بحر لغةٍ بلا مجاز،...) (ص: 20). كما نقرأ بوحًا في لحظة تجلّي:(...يغتسلانبالضّياء و يصلّيان في محراب النّشوة و الحبّ. ألقى نظرة خاطفة على اللّذين من حوله، و تابع مسيره يصاحبه قمر و وجه حبيبته و بقاياحلم.) (ص: 25). أو نقرأ:(من يعشق الورد لا يبالي بوخز الشّوك).(ص:36). كما نقرأ فحوى إرسالية كانت كما يلي:(أنا لا أتذكّرني إلّا بكفأمشي في داخلي لأراك بصمتي.) (ص: 48). و لأنّ مثل هذه النّماذج كانت كثيرة و متعدّدة سأكتفي بهذا المثال الأخير الّذي يُبيّن للقارئ امتلاك الكاتبة و قدرتها التّلقائية على صياغةصورة شعرية بسيطة في بنائها و عميقة في معناها.من ذلك قولها ( تلك الرّائحة كنت قد عرفتها عن جدّتي، كنت أعرف الطّريق إليها من ندى الجدران، من دموع الطّرقات... من سؤال الحصى، من نظرات الزّعتر النّابت أوّل مرّة في أعقاب الخطى... تلك الرّائحة الّتي تلبّست بما تبقّى من المارّين المستعجلين، تلك العطور الغابرة في الشّمس وهي تخلّف أعقابها في بقايا الحيطان المتآكلة. يا أظافري الّتي كانت تروي الحيطان بأمصالها.) (ص: 64). و نلاحظ من خلال كلّ ما تقدّم قيمة ما جاء في هذه الرّواية، سواء تعلّق الأمر بتفاصيل الحكاية فيها، أو بالصّياغة الأدبية لجملها و الّتيأبرزت لنا قدرة الكاتبة على اختلاق الصّور الشّعرية المحدثة و البليغة دون الوقوع في الرّتابة أو الافتعال. و حسبي في هذه القراءة جلب الانتباه إلى هذه الرّواية و الّتي تنبىء بميلاد قلم أدبي سيكون لها شأن كبير بعد تواتر منشوراتها. و أرى أنّ مطالعة أحداث الرّواية ستكون ممتعة و مفيدة للجميع.