انتهى الجزء الثاني من هذه الدراسة بسؤال هل إننا مقدمون على مطالعة شهادة ميلاد الأمل فينا، أم إننا سنتابع تكوينا جديدًا للوطن ؟ و ما دفعني إلى طرح هذا السؤال في حقيقة الأمر، ما هو إلاّ نتيجة حصر مفهوم هذه الجملة الأولى من الرواية، مع آخر جملة فيها. والتي جاءت كما يلي:" ... ها أنا ذي أخرج من الحدود التونسية، ليس لأول مرة، لكنها أول مرة أحمل فيها شيئًا منّي معي. مسّحت على بطني، رفعت رأسي عالية و مضيت، كأنّ شيئا لم يكن. " ( ص:196). و بالعودة إلى كل ما تقدّم من ملاحظات، و بالمقارنة بين جملة استهلال الرواية، و خاتمتها، نلاحظ و أنّ السّرد كان وفيّا لنفس الموضوع في الموقعين. حيث أنّنا في الوضعين نتابع حالة انتظار لولادة مرتقبة. لذلك تساءلت سابقًا: "هل إنّ صبا كانت طوال أحداث الرواية توّاقة إلى ولادة جنين، أم وطن؟ و أعيد السّؤال بطريقة مختلفة: هل إننا أمام سرد روائي لقصة حب منشود ، أم إن كل الأحداث جاءت لتؤرّخ وضع وطن مفقود؟ ففي غياب و ضياع المواطن ينتفي الوطن. و بسبب زاوية النظر التي تابعت بها أحداث الرواية تجدني أتساءل أيضًا: هل كانت هذه الولادة المنشودة في بداية الأحداث و خاتمتها إعلان انتصار لصبا، أم هروبًا من المواجهة؟ ففي بداية الرواية نجدها تقدم على السفر هربًا من الأوضاع التي أصبحت عليها البلاد. بينما نجدها في الخاتمة تقدم على السفر هربًا بالجنين الذي كان في أحشائها ؟ و من وجهة نظري كقارئ لهذه الرواية، شعرت أن هروب صبا بجنينها في خاتمة الرواية، كان خاطئًا و ظالمًا ، و فيه الكثير من الانهزامية. فاختيار الهروب من المواجهة، يفتح أبواب الانتصار أمام التقاليد البالية، و الأحكام الأخلاقية. بينما كنت أنتظر تغليب حق الإنسان في الحب، بعيدًا عن الحواجز المجتمعية، و التي لا يمكن أبدًا التنكر لها كاملة. كنت أتمنى كقارئ طبعًا ، لو أن الأحداث قادتنا إلى إصرار صبا على وضع جنينها فوق أرض الوطن ، حتى و إن تمسّكت بحقّها في كتمان الخبر على أبيه الحقيقي، و الذي اتضح أنه كان يركض فقط وراء المتعة الجنسية. طبعًا أعبر عن هذا الرأي من وجهة نظري كقارئ، و بعيدًا عن الوصاية على الكاتبة التي يبقى لها مطلق الحرية في صياغة الأحداث بالطريقة المثلى التي ترتئيها لروايتها. غير أنه تملكني شعور بعد الانتهاء من قراءة الرواية، أن الوطن فيها كان يحلم بميلاد بذرة حبّ تكون قادرة على بثّ الحب في أرجائه. أو هذا ما فهمته من قصة العشق التي كانت بين صبا و حبيب، و التي كانت تعبيرًا صادقًا عن طموح الوطن إلى وجود بذرة حب حقيقية، و صادقة، قادرة على انتشاله من الوضع المتردي الذي أوصلوه إليه. و بعيدًا عن الاستنتاجات و الأحكام المسقطة على الأعمال الفنية، أرى أنه من المفيد الاستشهاد ببعض المقاطع من الرواية، و التي دفعتني إلى هذا التفسير للأحداث. من ذلك مثلًا ما جاء في الصفحات الأولى و التي قادت بعد ذلك أغلب استنتاجاتي.: " هذا الوطن المشحون بالغضب على حكّامه، لم يبق فيه سوى تراب يواري الشّهداء، و يواري معهم لُهاث شعب على لقمة كرامة، وملفّات تخفي أسرار دمويّة تُعسْكِر في أروقة مظلمة، و شعوب تُذبَح بأيادي ترتفع للسّماء مُكبّرة باسْم الله، و باسم الطوائف و الأديان. " (ص: 10 ) فالكاتبة، أو الراوية تبوح منذ البدء بالحرقة التي تسكنها و تؤرّقها جرّاء ما آلت إليه الأوضاع في الوطن. و هذا ما دفعني إلى البحث عن المقاصد الحقيقية و البلاغية التي أتت بها الأحداث في قصة العشق التي ربطت صبا، بحبيب. و حتّى تتوضّح الصورة بطريقة أفضل في ذهن القارئ، ارتأيت التقاط بعض الجمل التي توزّعت في صفحات الكتاب ، و جاءت كلها لتؤكد لنا بأن المعشوق الحقيقي في العلاقة التي ربطت الحبيبين، ما كانت في النهاية إلاّ قصة عشق صادق و عميق للوطن. من هذه الأمثلة نقرأ: "... لماذا أرى الدم ينزف من خاصرة الوطن و أهرب، و أطلب اللجوء. ... " (ص: 40) كما نقرأ في موقع لاحق من الأحداث: " ... لعلّ ثورات الربيع العربي تنقلب على راكبيها..." (ص: 52) فمثل هذه المواقف، و رغم ورودها على لسان الشخصيات الروائية ، أرى أنها جاءت لتفضح لنا الحرقة و الخوف الذي أصاب الكاتبة جرّاء كلّ ما حصل للوطن، دون أن يعني هذا طبعًا تحميلي للكاتبة المواقف التي تصرّح بها الشخصيات. و حتى أبتعد كليًا عن تحميل الكاتبة لهذه المواقف، أشير إلى أنني أعيد أساسًا تبعات كل الآراء المصرّح بها في النص، إلى صبا الشخصية الرئيسية في الرواية و التي باحت في أكثر من موقع علاقتها بالوطن. حيث تقول مثلًا: "...انظري إلى القُمامة المنتشرة في شوارعنا، انظري إلى الوجوه العابسة في هذا البلد. ألم نكن نسمّيه وطنا، بجمال الكلمة و عمقها ؟ رحل الوطن و رحلتُ أنا أيضا في خِضمّ أحزانه و أحزاني."(ص:119/ 120) . ثم نقرأ لاحقًا و في نفس الفقرة: " أخاف أن أراني و الوطن منهاريْن." (ص: 120) و يلاحظ معي القارئ أن الحديث عن الوطن تكرّر أكثر من مرة، و توزّع على أغلب صفحات الرواية، لذلك وجدت نفسي مدفوعًا إلى التسليم بأن قصة الحب بين العاشقين، ما كانت في النهاية، إلاّ مخاتلة من الكاتبة قصد الحصول على مطلق الحرية في الحديث عن الوطن بصفة عامة. و مواصلة لنفس هذه الإيحاءات و الاختيارات الفنية، نقرأ لاحقًا: "...هذا البلد يمضي نحو التهلُكة، إمّا أن نحترِقَ و إياه و إما أن يحترق الخونة في بؤرهم. ...) (ص: 148) كما نقرأ بعد ذلك حكمًا فيه الكثير من الصرامة: "...بدا لي الوطن جرحا كبيرا متعفّنا و لا طبيب يعرف له دواء." (ص: 175 ) و أرى أن مثل هذه الأحكام القطعية حول الوطن، هي التي دفعتني التّأويل السّابق، و الذي يحيلنا مباشرةً إلى اعتبار أن أغلب أحداث الرواية كانت تروي لنا قصة هذا الوطن المغلوب، و المسلوب أيضًا. و ما القصة الغرامية، إلاّ تقيّة فنيّة اختبأت الكاتبة خلفها، للتعبير من خلالها عن مواقفها ممّا يتعرّض له الوطن من عملية هدم و تخريب ممنهجة. و أشعر أن الكاتبة كانت ناجحة في هذا الاختيار. آتي الآن إلى بعض الملاحظات التي تهمّ الكاتبة، و الكتابة بصفة عامّة. فأشير مثلًا إلى وقوعها في فخّ الرّاوي العليم. من ذلك ما حصل في الصفحة السادسة و الثمانين، و التي تحوّل فيها ضمير المتكلّم. فكيف علمت صبا مثلًا بردة فعل حبيب على إرساليتها. حيث تقول:"... حين وصلته رسالتي، نظر إليها بشكل خاطف ثمّ أعاد الهاتف لجيبه، خوفا من أن تلمحه سليمة فيعكّر مزاجها ليلة عيدها. ثمّ عاد بشكل طبيعي لصخب عيد الميلاد مُتجاهلاً أمري." (ص: 86) و حصل نفس الأمر في الصفحة السابعة بعد المائة. لذلك تجدني أتساءل عن القدرة الخارقة التي تمتلكها الراوية و تمكنها من معرفة خفايا ردود الفعل لدى شخصيتين متناقضتين أو متقابلتين في الأحداث. و هي لعمري تقنية تعدّاها الزمن. فالكاتب له مطلق الحرية في نحت ملامح شخصياته، لكن هذه الحرية لا تخوّل له أبدًا الولوج إلى خفايا ما تستبطنه جميعها. كما شعرت أن الكاتبة، وقعت في خطئ شكلي ، حصل لضعف التّركيز و قلّة الانتباه ربّما. فأحداث الرواية تنطلق بالحديث عن رحلة صبا نحو روما. بينما نقرأ حين وصلت تقول::" ...هي دقائق طويلة رأيتني واقفة على باب مطار قرطاج الدّولي أبحث عمّن ينتظرني.) (ص:17) و الأسلم أن تكون صبا عندها على باب مطار روما تواجه الغربة بمفردها وتبحث عمّن ينتظرها في محاولة نفسية منها للتغلّب على الوحدة و التيه، بعد أن رحلت هروبًا من الوطن المفقود. الأكيد و أنّ رواية ( ريح الصبا) للثريا رمضان تستحق الاهتمام و أكثر من هذه الوقفة، لكن حسبي في هذه الورقة جلب انتباه القراء إليها، متمنيًا تواصل إبداعاتها سواء الشعرية منها، أو السردية. و ذلك نظرًا لما تتّسم به كتاباتها من عمق في المعنى و دقة في الأسلوب.