ما انفكت ظاهرة الترييف الاجتماعي والثقافي تخيم على المدن التونسية وخاصة منها مدينة تونس الكبرى منذ اندلاع ثورة 14 جانفي 2011 ، حيث تغير المشهد المورفولوجي وغابت خصوصيات ومميزات التمدن والتحضر فيها وبرزت انماط حياتية وسلوكيات اجتماعية فيها ما يبعث الياس والاشمئزاز في نفوس البعض من سكانها المدنيين ، وفيها ما يجبر البعض الأخر على التأقلم معها غصبا دون الرضاء ، وفيها ما يفرض على العارفين منهم تساؤلات ذكية وقراءات عميقة يفككون بها خفايا هذه الظاهرة وما تحمله من رسائل مشفرة يبعث بها بارونات الاقتصاد الموازي وغزاة الأسواق الفوضوية الفاعلين حديثا ،ومن وراء الستار في موازين القوى الاقتصادية والاجتماعية وحتى منها السياسية والنقابية . فلا يمكن اليوم وحسب قراءتنا المتواضعة ، حصر هذه الظاهرة (ظاهرة النزوح الريفي الى المدن) في مجرد موجة نزوح إلى المدينة بحثا على لقمة العيش مثلما ألفنا فهمه تاريخيا ، إذ هي ظاهرة اجتماعية كلية (ph social total) حسب المفهوم السوسيولوجي لمرسال موس (Marcel mausse) . فهي ظاهرة متعددة الأبعاد تحمل في طياتها رسائل مشفرة لا يمكن تفكيك أركانها ومعانيها وأهدافها دون وضعها في سياقها التاريخي. تاريخيا وخلافا عن سابقاتها تحمل ظاهرة ترييف المدينة مشروعا طموحا لم يعد يقف عند طلب لقمة العيش غير سواها ، بقدر ما هو يهدف إلى التموقع في المنظومة العامة للبلاد التونسية لتضمين المساواة والحرية والكرامة الوطنية طبقا لدستور موازي ، دستور فعلي وحقيقي يقطع نهائيا مع الحبل السري (cordon ombilical ) للمارسات الحقرة والتهميش والإقصاء . ان ما شد انتباهي ذات يوم نص صادر على إحدى أعمدة الصحف التونسية بعنوان " جلمنة تونس " La Jelmanisation de Tunis في إشارة إلى سوق بومنديل بقلب العاصمة تونس بما في هذا الفضاء العجيب والغريب من تجاوزات لبرونات الاقتصاد الموازي ، أصيلي مدينة جلمة بوسط البلاد التونسية ، معتبرا ذلك تمردا على الاقتصاد التونسي ومسا بقيم الانضباط والتحضر وتشويها لجمالية المدينة . في قراءة أعمق ، يبدو أن هذا التشخيص يكتسي طابعا سطحيا خاصة وان مثل هذه التجاوزات والتمرد على القوانين لهؤلاء ، عادة ما تشير إلى ثقافة ذات وجهين ، فيها ما يعكس لوعة التهميش ومرارة الإقصاء لمدن وقرى وأرياف وئدت أحلام أجيالها في سنوات الجمر، وفيها أيضا ما يبشر بميلاد ثقافة ريفية نضالية في ظل دستور خاص بها ، دستور هو أيضا موازي بنده الأول الفعلي والحقيقي " لا للحقرة " " نعم للمساواة" . وقد تبلور ذلك في نوعية الخطاب الإعلامي السمعي والمرئي حيث تموقعت " لهجة ريفية " تميزت هي أيضا بأسلوبها الثوري والمنعوت عامة " بالثورجي " ومضت قدما ، بكل جرأة وثبات للتعبير عن مشروعها النضالي . يبقى السؤال مطروحا : هل في ترييف المدينة مس بثقافتها وبقيم التحضر فيها ام هو ظاهرة اجتماعية كلية حاملة لمشروع تشاركي لبناء مجتمع تتساوى فيه الفرص بين الريفي والمدني ، وتتكامل فيه ايجابيا الثقافات مهما كان مصدرها . يبدو ان هذا المشروع قد تموقع اقتصاديا ، سياسيا واجتماعيا في منظومة موازية تدعمها وتحكمها علاقات مصلحية بين بارونات الاقتصاد الموازي وشركائهم في مفاصل الدولة والإدارة والأحزاب .فهل سنعيش دوما بمنطق الموازاة ( اقتصاد موازي ، امن موازي ، إعلام موازي ، دستور موازي ....) أم سننخرط في منطق بناء المساواة ؟