حين تعرّف فرنسا تعرّف بأنها بلد الثورة الفرنسية.. منشإ القيم والمبادئ الكبرى التي أعلت ثلاثية المساواة والحرية والإخاء. ثلاثية نحتت لفرنسا مكانة عالمية كرّستها جنّة للأنوار وللأفكار المستنيرة وكل القيم الانسانية الراقية. لكن فرنسا هذه، هي في نفس الوقت بلد المتناقضات. حيث لم تمنعها قيم ومبادئ الثورة الفرنسية المعلنة عامة 1789 وحبرها لم يجف بعد مع بدايات القرن التاسع عشر من أن تندفع في حملة استعمارية مسعورة.. جعلتها تجثم على صدر الشعب الجزائري (1830) وعديد الشعوب الافريقية الأخرى ومن بينها تونس وعديد الدول في القارة السمراء. قيم الحرية والمساواة والعدالة ركنتها فرنسا في صيغة المستتر وراحت تتصرف بنقيض ما جاءت به وما دافعت عنه من أفكار ومن مبادئ.. فرنسا، منشأ القيم الكونية استبدّت بها حمى استعمارية جعلتها تدوس على هذه القيم والمبادئ وتنساق وراء جشع امبراطورية كولونيالية اختارت الانخراط في سياسة توسّعية جعلتها تحتل وتقمع وتضطهد وتقتل وتستغل وتنهب لعقود طويلة غير عابئة بكل الأدبيات التي كرّستها الثورة الفرنسية بعد أن استبدلتها بتنظيرات عتاة المستعمرين الذين برّروا ونظروا لاحتلال الشعوب المستضعفة ونهب خيراتها وإغراق شعوبها في الذل والتخلّف والجهل الفقر. وبعد أن هبّت رياح التحرر في افريقيا وبعد أن صدح الجنرال ديغول ذات مرة مطلقا مقولته الشهيرة «لقدفهمتكم» (Je vous ai compris) والتي كانت عنوانا لانسحاب فرنسا من الكثير من مستعمرات الأمس.. بعد كل هذا نجد أن فرنسا قد رتّبت أمورها مع قيادات عميلة لها.. قيادات تمنحها السلطة مقابل التزامها بإطلاق أيدي فرنسا في ثروات وخيرات الشعوب.. وهو ما جرى عليه الشأن في الدول الافريقية (السمراء) بالخصوص حيث انسحبت فرنسا بآلتها العسكرية وبجنودها وبمعمّريها لكنها بقيت حاضرة بنهب خيرات القارة واستباحة ثرواتها لكن بطريقة غير مباشرة. اليوم، وكأننا بالتاريخ يعيد نفسه. فرنسا التي تجثم على صدور الشعوب المستضعفة في القارة، تستعيد غطرستها الاستعمارية.. وتتنكّر مجدّدا لقيم الحرية والعدالة والاخاء التي بشّرت بها ثورتها.. وقد كان انقلاب النيجر الحدث الذي عرّى فرنسا وكشف عورتها الاستعمارية وأزاح الغطاء عن جشعها لثروات النيجر ولخيراته متدثرة برفض مزعوم للتعاطي مع من تسميهم «سلطات الانقلاب». كان ذلك حين دعت السلطات الجديدة في نيامي الحكومة الفرنسية إلى سحب سفيرها من البلاد على خلفية موقف باريس من حدث يبقى شأنا داخليا لشعب النيجر ولدولة النيجر ولا يحق لأية دولة أن تتدخل فيه لتمنح شهادة الشرعية لهذا الطرف أو ذاك.. فقد نسيت فرنسا مجددا وتحت وطأة حجم المصالح الاقتصادية والجيوسياسية الضخمة التي عصف بها انقلاب النيجر كل مبادئها وكل قيمها.. وتنكرت لكل أفكار التحرّر والتنوير التي بشرت بها على مدى عقود.. وداست حتى على التقاليد والأعراف الدبلوماسية وكشفت عن وجهها القبيح ليقف العالم مذهولا أمام هذه التصرفات المغرقة في الغطرسة والعنجهية والتي تحيل على بدايات انطلاق الحملة الاستعمارية المقيتة حين كانت مدافع فرنسا تتكلم قبل سياسييها.. وحين كانت فرنسا تخاطب الشعوب المستضعفة بقوة عضلاتها وقوة آلتها الحربية الغاشمة وليس بقوة قيمها ومبادئها وأفكارها الكبرى التي أعلتها مع الثورة الفرنسية. ما يؤسف حقا ان فرنسا تثبت بهذا السلوك انها لم تفهم شيئا من التحوّلات التي شهدتها القارة.. ومن رسائل الأجيال الافريقية الجديدة التي تريد القطع نهائيا مع عقود الاستغلال والاستعباد ومع عقود الغطرسة الفرنسية والاستكبار الفرنسي.. كما تثبت أنها على الأرجح لن تفهم شيئا إلا حين يفوت الأوان وتجد نفسها وقد كنست دولة بعد دولة من دول القارة.. فلو كانت فهمت شيئا لكانت اعتذرت لشعوب القارة عن فظاعات الحقبة الاستعمارية.. ولكانت قبلت بدفع التعويضات المجزية عن ما نهبته من خيرات وما سببته من مآسي وما اقترفته من جرائم.. اما وهي تمضي في عنجيتها التي عرّتها أزمة سفيرها في النيجر فهي تغلق أبواب الصفح والتسامح أمام شعوب القارة ولا تترك لها من سبيل غير سبيل القطيعة. عبد الحميد الرياحي