عندما أعلن دونالد ترامب ذات مرة أن "أمريكا أولًا"، لم يكن ذلك مجرد شعار، بل فلسفة حاكمة، كان يضع عبرها العالم أمام نموذج جديد للعلاقات الدولية، نموذج لا يعترف بالشرعية الدولية، ولا بالتحالفات التقليدية، ولا حتى بمبدإ "العدالة" الواهية التي تتغنى بها النخب الغربية، فكل ما يهم هو المصالح الأمريكية، حتى لو كانت على حساب حلفاء الأمس، أو قواعد النظام العالمي الذي ساهم في بنائه، فأوكرانيا مثلا، تحوّلت من حليفٍ استراتيجي في عهد بايدن إلى "دَينٍ متعثّر"، في تمظهر واضح لما يعتبره ساكن البيت الأبيض مراجعات جذرية يُعيد بها تشكيل العلاقات الدولية. فلم يعد سرّا اليوم أن الإدارة الأمريكية الحالية تُعامِل أوكرانيا كمشروع استثماري تطالبه باسترداد 500 مليار دولار وفق تقديرات ترامب مقابل الدعم العسكري السابق، في نظرة تختزل في عمقها منطق الصفقة التجارية بامتياز التي تعتبر أن الحروب ليست مسرحًا للعواطف، والفاتورة ستُدفع، حتى لو اضطرت أوكرانيا إلى التنازل عن ثرواتها الطبيعية وفق هذا النهج الذي يُذكّرنا بسياسات القرن التاسع عشر. فتحت حكم ترامب، تحوّلت مؤسسات الدولة العميقة ذاتها من أداة لحماية المصالح الاستراتيجية إلى آلة لجني الأرباح، فالحرب في أوكرانيا لم تعد مجرد صراع جيوسياسي، بل أصبحت فرصة لتحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي حيث مصانع السلاح تنتج، والفلاحون يبيعون القمح، وشركات الطاقة تستغل الموارد الأوكرانية، وحتّى العقوبات على روسيا صارت أداة لتعزيز الهيمنة، فبينما تدفع أوروبا ثمن قطع الغاز الروسي، تبيع أمريكا غازها المسال بأسعار مضاعفة. ولا شكّ أن أكبر خديعة في النظام العالمي الحالي هي ادعاء أن "القانون الدولي" يحمي الضعفاء، فالواقع يقول إن هذا القانون يُكتب بلغة القوى العظمى، ويُطبّق وفق إرادتها، فالولايات المتحدة تفرض عقوبات على من تشاء، و تحاكم من تشاء، دون أن يُحاسِبها أحد، فحتى المحكمة الجنائية الدولية، التي تحاكم زعماء الدول المستضعفة بسهولة، يفرضون عليها العقوبات لإعلائها راية القانون و إصدارها بطاقات جلب ضد مجرمي الحرب الصهاينة، و هو ما يجعل من حقوق الإنسان، السيادة، الشرعية، مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي، بينما تُدار اللعبة الحقيقية وفق الأهواء و المصالح. فما يسود العالم حاليا هو نظرة براغماتية متوحّشة في تشكيل العلاقات، فترامب لا يُبقي مكانا للحلفاء التقليديين، فحتى أوروبا التي تُنفق ملياراتها على دعم أوكرانيا، تجد نفسها خارج المعادلة حين تُقرر أمريكاوروسيا تقاسم النفوذ، وهو ما يجعل من النظام العالمي الجديد بعيدا عن النظرة التي تختزله في مصطلحات ثنائي القطبية أو حتى متعدد الأطراف، بل هو عبارة عن تسيّد منطق القوة بعيدا عن قوة المنطق تستعمل فيه فزّاعات التهديد بالعقوبات، أو الحصار الاقتصادي. فما نعرفه في المرحلة الراهنة، يتلخص في نهاية الوهم الليبرالي الذي ساد بعد الحرب الباردة، بعد أن صارت القوة هي التي تحدد مصير الشعوب وتُقاس فيها الشرعية بمدى النفوذ، وسط سؤال مشروع عن مدى قدرة هذا النموذج على الاستمرار، وهنا يعلمنا التاريخ أن الإمبراطوريات التي تعتمد على القوة الخام تنهار حين تظهر قوى جديدة تتحدى هيمنتها، فالصين تتصاعد، و روسيا تعيد تشكيل تحالفاتها، وحتى أوروبا قد تُضطر إلى مراجعة حساباتها، لكن حتى ذلك الحين، سيظل العالم تحت سطوة منطق القوة. هاشم بوعزيز