* المنوبي زيودهذه أول ليلة من ليالي الربيع.. لا تقلّ وحشة عن ليالي الشتاء العاصفة. لم تشعر زينة بدفئها. كانت تنظر إلى النخلة الباسقة التي يكاد جذعها يحجب النافذة الشرقية المطلة على الشارع.. مدخل الشارع المفضي إلى حي الجولان يضج بالأشباح.. ظلال طويلة لعربات جنود الاحتلال تتكسر على الحيطان.. يفضحها القمر الطالع. الحيطان كأنها شاشات سينما تبث أحد أفلام الكاوبوي. البيوت الحزينة كأنها أعين تلتقط بداية الشريط. النور ينطفئ من النوافذ والأنفاس تنحبس والشهقة تموت في الحنجرة. هكذا تقتضي أجواء البث. نسمات شرقية دافئة تلثم الستائر. تراقصها. تعبث بأنوار خافتة لشمعة تكاد تنذوي. منذ يومين انقطع الكهرباء... مات النهار وما سكن الليل. الليل في حي الجولان بالفلوجة كليل الغابة الكثيفة في الأدغال الموحشة. مشاهد صيد في العتمة وصيادون يحتفلون بصرخات ضحاياهم قبل أن يسيلوا دماءهم. أصوات الدبابات وطلقات البنادق وزخات رصاص القناصة فوق السطوح العالية التي تفتض بكارة أول ليلة من ليالي الربيع. عيون الجنود الذين يداهمون البيوت كعيون السباع تلتهم دواجن الحيوان. أيديهم وهي تسدد فوهة البندقية كمخالب الضباع. أقدامهم وهي تضرب الأبواب كأقدام فرق القاستابو في زمن هتلر أيام التفتيش. فوانيسهم المثبتة على جباههم تهتك الحرمات وتكشف سرّ بيوت النوم. أسرعت زينة إلى الغرفة تتفقد ابن أخيها سيف الدين. تحققت من نومه. هو الوحيد الذي يؤنسها بعد استشهاد ابنتها سناء وسجن زوجها والتحاق ابنيها نضال وحسان بصفوف المقاومة. لمست جبهته. تخشى أن يكون الزكام قد رفع حرارته. اطفأت الشمة عندما تعالت أصوات تبادل إطلاق النار. عادت إلى النافذة تسترق النظر. أسبوع مرّ دون تفتيش لبيتها. سرحت بها الذكريات وهي تنظر إلى الشارع. كانت تتخيل ابنتها سناء عائدة من المدرسة الثانوية. قبل أيام من موتها قالت لها: سأنام يا أمي نوما عميقا بعد الامتحان، فأنا منذ مدة لم أستمتع بالنوم. المراجعة مضنية والامتحان هذه المرة عسير. ونامت دون أن تنهض. نامت نوما طويلا قبل أن تجتاز الامتحان. الذين رأوها آخر مرة قالوا إن جنديا أمريكيا استوقفها. طلب منها أن تنزع فستانها لتفتيشها وأخذ حقيبتها. رفضت أن تنزع فستانها. ضربها فصرخت في وجهه. سدّد بندقيته فاستقرت الرصاصة في صدرها. كان نضال قد وجد في حقيبة شقيقته دفترا ورديا. في أول ورقة رسمت سناء نخلة طويلة شامخة كالنخلة التي تغطي نافذة البيت. ورسمت فوقها حمامة بيضاء وسماء صافية كما رسمت نهرا وقاربا وصيادا يجدف.. ودوّنت قصيدة تحت الصورة تمجّد فيها النخلة والنهر. طواها نضال ومنذ ذلك الوقت لم يعد إلى البيت إلا لماما، ملثما شاهرا بندقيته والتحق به شقيقه حسان. كانت زينة تنظر إلى الشارع.. كان خاليا إلا من بعض الشيوخ عائدين من المسجد يستحثون المصلين للوصول إلى بيوتهم. عددهم لم ينقص إلا قليلا في الفترة الأخيرة. ربما سلموا أمرهم للقدر. فالحياة غير مضمونة سواء في البيت أو في المسجد أو في الشارع. زخات الرصاص قد تقتنص شخصا من نافذة بيته أو شيخا خارجا من مسجد أو طفلا يلعب في ساحة. مرّ المصلون فخلا الشارع. صاحت بومة ورفرفت. عوى كلب مكسور فأجابه كلب آخر في طرف الشارع. وتجاوبت الكلاب تباعا. منذ مدة عشش البوم في البيوت المدمرة والمهجورة وانتشرت الكلاب السائبة تنهش فضلات المزابل المكومة. لم يفارق خيالها وجه سناء. خفق على رفيف قلبها المعطوب ذلك الوجه الجميل المشحون بألق الشباب. كان وجها أبيض مشرقا به حمرة خفيفة مثل كفنها عندما لامس صدرها النازف برصاصة. قالت لها سناء ذات مرة قبل أن تذهب إلى المدرسة: اجمعي لي زهورا من الياسمين. كانت تعشق الياسمين انكسرت قامتها قبل أن تزهر شجرة الياسمين من جديد. تنهدت زينة. قالت لنفسها إنها ستجمع حفنة من الياسمين في بداية الصيف لتنثرها على قبر سناء. انخفضت أصوات الطلقات النارية وابتعدت في اتجاه غابة النخيل. أغلقت النافذة واتجهت إلى سريرها. تذكرت أنها ستحاول زيارة زوجها في سجن «أبو غريب». مرة أخذت الحافلة لزيارة زوجها. رجعت بدون رؤيته. لا أحد استطاع أن يقول لها إن كان موجودا أم لا. إن كان مازال حيّا أو قتل تحت التعذيب. مئات الناس ينتظرون، يستفسرون الحرّاس بوجوه باهتة وعيون حائرة. ولما وضعت اللحاف على جسدها النحيل سمعت خطوات حثيثة تقترب من نافذة البيت حتى وصلت إلى الباب. انكتمت أنفاسها. قامت مرتعبة. تذكرت جنود الاحتلال وهم يفتشون البيت. التصقت بالجدار. لم تكن خائفة على نفسها. كانت تخشى أن يمسّ ابن أخيها سوء. المداهمات أشد وطأة من الرصاصات الطائشة. توقفت الخطوات. وتلاها طرق على الباب. لمعت عيناها وانتفض قلبها. وتسارعت دقاته. الطرق على الباب هو نفسه الذي اتفقت مع ابنها نضال على سماعه. أسرعت إلى الباب وفتحته ولما اقتربت من الطارق الملثم تسمّرت في وقفتها. لم تحس بانجذاب نحوه. كانت تشمّ أنفاس ابنها من بعيد. وحرارته الدافئة تغمرها قبل أن تلامسها. أنزل بندقيته وحسر لثامه. صعقت لما شاهدته. إنه المترجم الذي كان ملازما لجنود الاحتلال. كان معهم كم من مرة عندما داهموا بيتها. آخر مرة بصقت في وجهه عندما ترجم لها أسئلة الجنود. كان آخر سؤال: هل زارك ابنك نضال؟ أجابته آنذاك: عندما تصبح رجلا أيها الخائن سأجيبك. كان قد طأطأ رأسه وعندما ألحّ عليه الجندي الأمريكي أجابه: قالت إنه لم يزرها. هاهو من جديد يأتي إليها ليلا. يأتي وحده. هذه المرّة جاء ملثما مثل رجال المقاومة. صاحت في وجهه: أنت!! أخرج من جيبه حزمة أوراق مالية. مدّها إليها. لم تمد يدها. قال لها: خذي يا خالتي زينة. هذه أمانة من ابنك نضال.. أنت فقدت ابنتك وأنا فقدت أخي. كان في طريقه إلى الباب مغادرا عندما سألته: أين نضال؟ كيف حاله؟ وأين حسان؟ هل هو بخير؟ سيزورانك قريبا. وانطلق مسرعا وتوارى في زقاق جانبي. بينما طوّقت زينة شجرة الياسمين وعيناها تتطلعان إلى القمر الطالع وقلبها يخفق لطلقات النار في محيط غابة النخيل المجاورة.