عاجل: كليات تونسية تدعو الطلبة الى احترام أوقات الدخول والخروج    قابس: تمكين 4250 طالبا وطالبة من السكن الجامعي    سليانة: قيمة اعتمادات مشاريع قطاع الصحة بلغت 13 مليون دينار    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو الحكومة إلى تدخل عاجل لإنقاذ المنظومة    21% نمو في التأمين على الحياة... شنوة معناها ليك كمواطن؟    بلاغ مهم لمستعملي طريق المدخل الجنوبي للعاصمة – قسط 03    مجلس الأمن يصوّت اليوم على احتمال إعادة فرض العقوبات على إيران    نتنياهو يوجه رسالة للسائقين القادمين من الأردن    ترامب وشي يبحثان اليوم اتفاقا لإنقاذ "تيك توك" في الولايات المتحدة    شنية حكاية النظارات الذكية الجديدة الى تعمل بالذكاء الاصطناعي...؟    شنيا لحكاية؟..مريض في العقد الرابع ينجو بفضل أول عملية جراحية دقيقة على المخيخ بزغوان    بوعرقوب: متساكنون يستغيثون من اجتياح الحشرة القرمزية لمنازلهم    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    عاجل/ انطلاق 6 سفن يونانية لتنضم لأسطول الصمود العالمي لكسر الحصار على غزة..    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    كأس الكاف: الملعب التونسي والنجم الساحلي يسعيان لوضع قدم في الدور المقبل    الرابطة الثانية: الجامعة تسمح للفرق المستضيفة ببث المقابلات    وزارة الدفاع الوطني تفتح مناظرة خارجية لانتداب 7 مهندسين أولين اختصاص اعلامية    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    عاجل: توقف خدمات السجل الوطني للمؤسسات من الجمعة للاثنين.. شنو اللي لازم تعرفه!    عاجل : رئيسة قسم الأعصاب بمستشفى الحبيب بورقيبة تعلن عن نقلة نوعية في الصحة    النجم الساحلي يضم مدافع قوافل قفصة احمد الحرشاني    الملعب التونسي يتعاقد مع المهاجم السنغالي بوبكر جونيور كامارا    عاجل: قرار صادم من الفيفا يهدد''البافانا بافانا''.. من المستفيد؟    الكاف يوافق على تاجيل تصفيات شمال افريقيا المؤهلة الى كأس الأمم الإفريقية تحت 17 سنة    شهداء وجرحى بينهم أطفال في قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة..# خبر_عاجل    هذه الشركة تفتح مناظرة هامة لانتداب 60 عونا..#خبر_عاجل    محرز الغنوشي يزّف بشرى للتوانسة: ''بعض الامطار المتفرقة من حين لاخر بهذه المناطق''    النفيضة: إصابات في حادث اصطدام بين عدد من السيارات    تحذير عاجل: تونس، الجزائر وربما ليبيا.. موجة أمطار مهمة في الموعد هذا...استعدوا للتقلبات الجوية    جريمة مروعة/ رجل يقتل أطفاله الثلاثة ويطعن زوجته..ثم ينتحر..!    طقس اليوم : سحب عابرة وحرارة بين 29 و 35 درجة    عاجل: فرنسا تغلي.. 94 إيقافاً في أولى ساعات الإضراب...شفما؟    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    تصدرت محركات البحث : من هي المخرجة العربية المعروفة التي ستحتفل بزفافها في السبعين؟    عاجل : شيرين عبد الوهاب تواجه أزمة جديدة    المعهد الوطني للتراث يصدر العدد 28 من المجلة العلمية "افريقية"    افتتاح شهر السينما الوثائقية بالعرض ما قبل الأول لفيلم "خرافة / تصويرة"    شيرين عبد الوهاب أمام القضاء من جديد على خلفية هذه التّهمة    البنك التونسي للتّضامن: نحو إعادة جدولة ديون الفلاحين الذّين يمرون ببعض الصّعوبات الظّرفيّة    سوسة: لدغة "وشواشة" تتسبّب في إيواء شاب بقسم الكلى بمستشفى سهلول    صابة التين الهندي تنهار أكثر من 40%.. شوف السبب...وهذه المنطقة تطلق نداء عاجل    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الرابطة المحترفة الاولى : حكام مباريات الجولة السابعة    كيم يشرف على اختبار أداء مسيرات هجومية تكتيكية    التسامح أساس من أسس التعايش بين الناس    وخالق الناس بخلق حسن    خطبة الجمعة .. أخطار النميمة    صادرات القطاع الصناعي ترتفع ب1,9% خلال النصف الأوّل من 2025    اجتماع بمعهد باستور حول تعزيز جودة وموثوقية مختبرات التشخيص البيولوجي    الموت يغيب هذه الإعلامية..#خبر_عاجل    في بالك الى فما مكوّن سرّي في زيت الحوت... شنوة يعمل في جسمك؟    بلعيد يؤكد خلال الدورة 69 للمؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذريّة حرص تونس على مواصلة التعاون مع الوكالة    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    وزير النقل يشرف على اجتماع لجنة القيادة لمنظومة التصرف في السلامة بالخطوط التونسية    القمة العالمية للبيوتكنولوجيا: وزير الصحة يعلن بسيول إطلاق مركز وطني للتدريب البيوطبي لتعزيز قدرات إفريقيا في إنتاج الأدوية واللقاحات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعاز وخطبة ونهج الزعرور: قصة لمحمود بلعيد
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005

صباح دافئ، بداية الربيع ونهاية الشتاء، طال الشتاء، هذه السنة، واشتد البرد، رغم كثرة الامطار... أوراق شجرة البرتقال لا تتحرك في الحديقة، كذلك شجرة الليمون والتفاح.
اليوم يوم خميس، اقتحمت الشمس، هذا الصباح، غرفة الطعام عبر زجاج نافذته المغلقة. بعثت داخلها دفئا وبهجة، وامتدت أشعتها على المنضدة قرب يد الاستاذ عمر وفنجان القهوة بالقرب منها...
استطاع الاستاذ عمر أن ينام هذه الليالي، دون أن يستيقظ أو يوقظ زوجته إثر نوبة سعال، ترغمه غالبا على مفارقة الفراش، والاتجاه مسرعا الى المطبخ لتناول شربة ماء. أحيانا يتجرع عن مضض ملعقة من الدواء المهدئ للسعال، كان نسي ذلك قبل النوم. زوجته حسنة، وهي أصغر منه سنا بكثير، ساهرة عليه، تنبهه بإلحاح، إن تخلى أو سها عن تناول دوائه المسكن، لكن، وهو أمام التلفزة، يأخذه النعاس فيغفو ساعة ثم ينهض ويجرجر أذياله بعينين نصف مغمضتين الى الفراش تاركا خلفه نداءات زوجته وإلحاحها لتناول الدواء... يشده كتاب فيتابع القراءة وقد تقدم الليل ودقت ساعة الجدار ذات الرقاص المدوي الساعة الواحدة ثم النصف بعد الواحدة، ثم الساعة الثانيةوالنوم فرّ، ولا يروم العودة الى عيني الاستاذ عمر. بقايا سعال تداعب حنجرته فيحولها الى نحنحة كي لا يزعج... يظل يراقبها بنصف عين، ساكنا متيقظا، وهي نائمة، مرسلة شخيرا نحيفا حادا، عبارة عن فرزيط يغني تحت الاغطية. ثم يعود الى مطالعة كتاب «الامتاع والمؤانسة» لابي حيان التوحيدي. هذه الايام، أقر العزم، الاستاذ عمر، على قراءة كل ليلة، من ليالي الكتاب... وإن امتد به السهر الى ليلة ثانية فمرحبا «وزيادة الخير ما فيها ندامة» أحيانا أخرى يحن كما يقول، ويقلب صفحات الكتاب ليعود الى الليلة الثالثة والثلاثين، وقد قرأها ليالي عديدة، قائلا: هذه أحسن الليالي... هكذا يقول ويكرر، محدثا نفسه، مبتسما، متابعا قراءته، وقد مضى من الليل ثلثاه، ودبت حركة الفجر في الانهج المجاورة، وعوت سيارات في الشارع الكبير...
* * *
زوجته حسنة في المطبخ تجول جولتها الصباحية تدبر أمرها لفطور الغداء، وهي في جيئة وذهاب، ونشاط جميل والمذياع مفتوح، والاغاني تبعث الفرح والانشراح في كامل البيت...
يحدث أن تنطلق الى السوق بعد التاسعة، فتقبل على سي عمر وتقول له عند الباب:
«أنا خارجة للسوق»
فيومئ لها برأسه علامة السماع الموافقة ثم يجيب:
«لا تتأخري يا حسنة»
فتتابع:
«ساعة، لا أعتقد أكثر»
فيقول لها:
«هات كأس حليب، قبل أن تخرجي»
تأتي له بكأس الحليب بسرعة، ولا تنسى طبقا صغيرا ببعض الحلويات، من بقايا العيد الصغير... يقول لها وهي تضع الطبق على المنضدة، وعينه على محتواه، تكاد تثقب فص نظاراته:
«ألم تنته بعد هذه المرطبات، ألم يزل عندك نصيب كبير منها؟».
فتجيب بابتسام وقد ارتفع صوتها:
«مازال الكثير، قزدرية بأكملها»...
* * *
تريك تيك ترك تيك تعبث أصابعه بالجريدة... يقلب الاستاذ صفحاتها بأناة... كل صباح يزج بها بائع الجرائد تحت الباب، وحال يفارق السيد عمر فراشه يلقي نظرة اليها، رغم أنه سمع حفيف الجريدة واطمأن والبائع يدفع بها حوالي السادسة... ترصد له يوما وأنبه... كان الخبيث يدفع بها برجله فيسمع وقع الحذاء وهو يرتطم بالباب... ابتسم بائع الجرائد وكف عن نزقه منذ ذلك اليوم... لكن ظلت أذن الاستاذ له بالمرصاد...
يفتح السيد عمر الجريدة بصفة آلية، تدير أصابعه الصفحات الى أن تقف أمام عينيه صفحة الوفيات، واضحة جلية بصورها وإعلاناتها، يظل يتأمل الصور بمهل... يتنقل بعينيه بين الصور... هذه الصورة أعرف صاحبها، الوجه ليس غريبا عني... يمر دائما في شارع الازدهار ويدخل مقهى شوشة... لا أعرف اسمه، يقف على المشرب... غريب أمره دائما بمفرده كغراب... وهذا... يشبه البرطاني، أعرفه بالوجه كما يقال... ها ها الخضراوي انتقل الى رحمة الله، إيه كان يصعد فوق المسطبة في الفصل... يقف الشيطان إن تأخر أستاذ الجغرافيا أو أستاذ التربية... وعلى الاخص أستاذ العربية، فبينهما حسابات، وأخذ ورد، من حين لآخر ينتهي التحاور وهو نوع من الشجار الطريف، بإرسال الخضراوي الى ركن من أركان القاعة، الى أن ينتهي الدرس... إن غاب أستاذ العربية أو تأخر، يصعد الخضراوي فوق المسطبة ويقوم خطيبا... قس بن ساعدة أو الحجاج وحكاية الرؤوس التي أينعت، وهو ينظر الينا واحدا واحدا فيملأ القاعة ضحكا وهو يحاكي بعض الاساتذة ثم ينتقل الى شعر الشنفرى وتأبط شرا وينصب مناحة، وتقوم القيامة وهو يقرأ قصائد جميل بثينة ومجنون ليلى... وحالما يطل رأس الاستاذ في الباب وقد بلغ بنا الضحك حد الصخب والهيجان... ينزل الخضراوي من فوق المسطبة ويسرع الى مكانه في آخر القاعة دف دف دف محدثا دويا مزعجا بحذائه الضخم، فيعود الضحك من جديد... وحذاء الخضراوي عبارة عن حذاء جندي، لا ندري من أين اقتناه.... ارتحلت يا الخضراوي، هكذا عن لك أن تختفي يا شيطان... لم أرك منذ سنوات المعهد!
أسماء تلو أسماء... صور بعد صور، يتأملها... نساء، عجائز، شبان، كهول... أعمار مختلفة... كلها بيد الله... هكذا يقول في نفسه، وتتحرك شفتاه في الاثناء... يشعر بشيء من الحزن أمام صور الشبان، يظل يتأملها على مهل، وهو يهمس: تلك هي الدنيا، تلك هي الدنيا...
قرب النافذة، يجلس الاستاذ أمام المنضدة، يبقى يطل على الحديقة وشجرة البرتقال وهو جالس على كرسي في غرفة الطعام هكذا تمتد قهوة الصباح ساعة وهو على أحسن ما يكون، أمام الجريدة، والنظارات على عينيه، يقلب صفحاتها، يقرأ العناوين، يقرأ مقالات، مقدمات، تلاخيص... يمر بعجل على أخبار الرياضة... لكن يقرأ في الاثناء بعض الاسماء للاعبين وأبطال وجمعيات وممرنين...
سرعان ما يعود يدندن، ويغني بصوت خفي... ناقرا المنضدة بأصابعه تن تتن تتن تن تن... فأمتع ما في اليوم هو الجلسة الصباحية هذه: القهوة والجريدة والاخبار المحلية والاخبار العالمية... لا ينسى في النهاية ومسك الختام، كما يقول، إلقاء نظرة على صور الاطفال الصغار، والرضع، وتهاني أعياد الميلاد، والاعراس، والنجاح في مختلف الشهادات. يظل يتأمل الصور بابتسام والاطفال في بدلات جميلة في أحضان أمهاتهم والفرح يملأ العيون...
ترك تيك تيك ترك تيك تيك... بصفة إرادية أو لا إرادية يعود الى المنضدة ينقرها: ترك تيك تيك ترك تيك تيك... وأحيانا ينطلق بينه وبين نفسه يغني بانشراح أغنية تحضر له بصفة عفوية أغنية من إنشائه وتلحينه... فهو من طينة هذه مفردة محببة اليه أيضا الذين يبقون كامل اليوم على وتيرة واحدة أي في غاية من الهدوء والانسجام مع النفس، والابتسام لا يفارق الثغر...
يتحدث السيد عمر دائما بصوت هادئ، مرسلا من حوله هزات نشوة وفرح يطمئن اليها السامع وينتشي... ويقول من يقول وهو يستمع الى صوته:
«كم أمضيت من أعوام وأنا لا أدري... هكذا يجب أن يكون التصرف مع الحياة والدنيا والنظر اليهما بعين هازئة، ضاحكة، متندرة أحيانا، منشرحة، مرحة دائما...
* * *
اليوم شد انتباه السيد عمر خبر أربعينية السيدة فاطمة الخروبي، بنت الحاج محمد بن نصيب.
توفيق الخروبي، صديق له، لم يره منذ سنين، وها أمه انتقلت الى رحمة الله!! مساء يوم الجمعة الاربعينية في المرسى، في نهج الزعرور. أمسك السيد عمر ب «البلومة» أي قلمه البيك، يسميه دائما «البلومة»، رغم أنه ترك المحبرة و»البلومة» منذ سنين عديدة وهذه لفظته المفضلة أيضا ... ودوّن الاسم والعنوان: توفيق الخروبي ، نهج الزعرور المرسى، سيدي عبد العزيز.
«لم أحضر الجنازة... دون شك أعلن عنها في الجريدة ولم انتبه الى الخبر، ولم تقع عيني عليه، رحمها الله رحمة واسعة، فهي امرأة طيبة!! كنا نذاكر في بيت توفيق ونحن تلامذة في المعهد... البيت في نهج سيدي العلوي، دار «عربي سوري» كما كنت أسميها، فهي دار عربي وفوقها طابق على النمط الافرنجي... بناه والده، وشيده، وسهر عليه وأحضره في أقرب وقت بعد جهد وتعب لابنه البكر، قبل زواجه... لكن لم ترد زوجة عثمان أن تسكن الدار ولا الطابق الاول منها أي «العلي»... «ألف وأعوذ بالله لا أسكن عند أمك... هذه حكاية نحيها من بالك...» فاكترى الابن، إرضاء لزوجته، «فيلة» في بلدة أريانة... وهذه حكاية طويلة، تدمع لها عيون والدته كلما قصتها علينا وتخرج محرمتها من صدرها في الاثناء لتجفيف دموعها... تحضر لنا البريك في العشية والكسكروت بالتن والبيض والزيتون... والقهوة بالحليب... وتخرج لنا قوارير القازوز في الصيف...».
أرسل الاستاذ عمر زفرة ثم تابع:
«الله يرحمها! كانت امرأة طيبة، أم توفيق... غدا أذهب للتعزية وزيارة الصديق... لم أره ولم ألتق به منذ أعوام... لابد أن أتجه غدا الى المرسى...».
ثم تحركت أصابعه وتنقل الى صفحات أخرى من الجريدة...
انطلق السيد عمر عشية يوم الجمعة في سيارته القديمة الى مدينة المرسى...
انطلق مبكرا، بداية العشية، فعشايا الشتاء قصيرة، الثانية ظهرا، أو ربما قبل الثانية ليعود قبل المغرب وهبوط الظلام، فهو لا يرغب في السياقة ليلا...
يخاطب نفسه، ويقول أثناء الرحلة:
«نهج الزعرور لا يبعد، دون شك، عن نهج العنب في جبل سيدي عبد العزيز... المرسى تغيرت، وكثر البناء... الاحياء الجديدة انبثقت وامتدت في الاراضي الشاسعة، والسواني، وحول الآبار... الجبل بأشجار الزعرور كان في القديم خاليا موحشا «لا حياة لمن تنادي»...
هكذا يحدث نفسه في الطريق، طريق العوينة وسيدي داود... السيارات تجتازه مسرعة... وهو يتابع طريقه بمهل ويقظة...
... نهج التفاح... نهج السفرجل... نهج البرتقال... نهج الياسمين ونهج الورد، نهج ضيق... بل زقاق نهج الورد هذا... يسوق بمهل فاتحا نافذة السيارة مطلا، مشرئبا بعنقه... يقف عند بداية كل نهج ويمعن النظر... ليقرأ ويتثبت من الاسم... شاهد، في نهاية المطاف، كراسي، وسط نهج، أناسا جالسين، وباب دار مفتوحا على مصراعيه... حركة دخول وخروج... فقال:
«ها أني وصلت، دون مشقة أو عناء».
جلس السيد عمر على كرسي بين الجالسين مترقبا ظهور صديقه توفيق لاستقباله أو أخيه عثمان... فالى يومنا هذا لم ينس حكاية عثمان بل حكاياته... فالحاجة فاطمة تفرغ قلبها دائما، وهي تحكي، دون انقطاع، عن عثمان ابنها البكر وأفاعيل زوجته نجيبة، الافعى الشمطاء والحية الرقطاء...
«نجيبة ضربت على عثمان الحصار من كل الجهات والنواحي، ثم أخذته وطارت به الى ضاحية أريانة ولو استطاعت أن تطير به الى آخر الدنيا وجزر واق الواق لفعلت... قلت له وكررت عليه، نصحته وحذرته... انقلب أعمى وهي تقوده من أذنه الى حيث تريد... والله غريب أمره، عثمان... نجيبة ابنة زهرة سحرته، أخذت عقله، فانقلب دون عقل ولا رأي... صارت تفعل به ما تشاء»...
يتغير صوتها، وتفيض دموعها أثناء الحديث، ويجيبها توفيق:
«أمي صلي على النبي، وكفي عن البكاء».
ثم يلتفت إليّ هامسا:
«أمي لا تستطيع أن تفارق أخي عثمان، رغم زواجه، لم تيأس من عودته».
ظل الطابق العلوي أي «العلي» بالغرف والحجرات الواسعة وبيت الحمام والمطبخ العصري وقاعة الجلوس خاليا مهجورا وبابه مضروب عليه قفل في حجم اليد... ولم نصعد يوما الى العلي... ولم نشاهد يوما بابه مفتوحا... كان من الاحسن أن نذاكر داخله، أنا وتوفيق، أيام الحر، ونفتح نوافذه على السطوح لنستقبل النسيم من كل الجهات! لم يحدث ذلك يوما... ولم يطلب توفيق المفتاح من والدته، ولم يحاول ذلك يوما فهو يعرف مسبقا أن طلبه مرفوض دون نقاش...
... تزوج توفيق دون شك...
مرت الايام والاعوام وها أمه تنتقل الى رحمة الله!! ربما توفي والده... كل هذا ممكن جدا، أو ربما سيطل والده ويتنقل بين جملة أفراد العائلة مودعا أو مستقبلا المعزين من الاصدقاء والاهل والجيران... انتقلت الى ضاحية المرسى، الى دار الصيف و»الخلاعة» في تلك الايام... كان توفيق يحدثه عنها بإطناب، وشوق كبير الى أيام الصيف والبحر والصيد والسباحة... ولم يكتب له الذهاب اليها وقتذاك... فهذه هذه الدار، دار الصيف و»الخلاعة».
* * *
رجال، متوسطو الحال، يجلسون على كراسي أمام الدار من الجهتين والجدار المقابل. بعض أهل الدار حيوا السيد عمر... رحبوا به وسروا لقدومه... والسيد عمر ينتظر في الاثناء ظهور توفيق أو قدوم أخيه عثمان... شك ثم سرعان ما تيقن أن البيت ليس بيت صديقه بالمرة... وقد حط الرحال وجلس ومن الصعب أن يقوم ويفارق المجلس و»عيون القوم ترمقه» وقد خيم السكون من حوله وصوبت الانظار نحوه وطوقته باحترام وتقدير...
السيد عمر الاستاذ القدير الفصيح، تنقل بين وظائف ومناصب عديدة... خبر الادارة وخبرته الى أن صار علما من أعلام الادارة... قام بكل المسؤوليات أحسن قيام وأحيل على المعاش في السنوات الاخيرة، لكنه يعتبر دائما مرجعا وصاحب الرأي الفصل في مسائل إدارية وبيداغوجية مستعصية... يزوره مديرون ومسؤولون أحيانا، يقصدون بيته فيستقبلهم الاستقبال الحسن، وكان في ختام الحديث بعد بسط مشاكل أو تحليل ملفات وتحاور، يدلي بالآراء القيمة السديدة...
... اتضح في آخر الامر أن الحفل حفل خطبة وسي عمر قدم ومرحبا به... سرى الخبر وأقبل أبو العروس ذهب من ذهب اليه وأخبره بقدوم الاستاذ فأقبل مرحبا وعلامات الاندهاش واضحة على وجهه... كما أقبل أبو العريس من جهته ورحب به وحياه باندهاش واحترام... أهل العروس ذهب بهم الاعتقاد أنه من عائلة العريس، وعائلة العريس اعتقدت من جهتها أن سي عمر من عائلة العروس... ثم أجلسوه في الصدارة، بين الابوين، في المكان اللائق بمقامه، والاقارب والاهل والمدعوون من حولهم...
فكر، ثم قال في نفسه:
«الآن وأنا في هذا الموقف الحرج، فمن الصعب، بل من المستحيل أن أقوم وأفارق الجمع، نصف ساعة، ساعة من الزمن على أكثر تقدير، وتنتهي الخطبة... ربما يكون نهج الزعرور غير بعيد، من المؤكد أنه غير بعيد، ونحن في بداية العشية، في جبل سيدي عبد العزيز»...
نشطت الحركة في البيت، كثر الدخول والخروج، والابتسام والمصافحات. حضر من كان غائبا، كما أقبل من كان منتظرا وهو يلهث... ينظر للجميع، بارز العينين مرتبك الحركات، وقد جلس على أول كرسي قدم له أو وجده في طريقه وأخرج منديلا من جيبه لمسح العرق من على جبينه وأحيانا يذهب به التجفيف الى رقبته بعد فتح بعض أزرار قميصه الابيض... بعض الاطفال في بدلات جديدة وبدلات العيد الماضي يتحركون بصعوبة، ويتنقلون باحتشام بين المدعوين... ويجلسون الى آبائهم... أو يجلس بعض الاقارب بعض الاطفال في أحضانهم، يقبلونهم من حين لآخر، تقربا لآبائهم، ويداعبونهم قليلا، ويسرون لهم بعض الاقوال في الاذن ويطلب منهم الحديث فلا يقولون كلمة ويطلب منهم الجواب فلا يفعلون، بل هم في احتشام، همهم التملص والنزول من الحضن فيتزحزحون قليلا قليلا يرومون النزول معبرين عن حبهم مغادرة الاحضان، والعودة الى أقرانهم...
ساد السكون. كفت الهمسات المتأخرة من بعض الخائضين في أحاديث حامية لا تعرف نهاية. وآن أوان الخطبة. فمن يتقدم للطلب والاستاذ المحترم وسط الجمع... أسرد والد العريس طالبا من سي عمر، بكل احتشام، وصوت خفيض، أن يتقدم بالطلب من أبي العروس... وسي عمر لا يعرف اسم العريس ولا اسم البنت ولا شيء...
أخرج الاستاذ عمر «البلومة» والتفت الى أب العريس ودوّن اسم الفتى واسم أبيه ولقبه... ثم التفت الى أب العروس ودوّن اسم الفتاة واسم أبيها ولقب العائلة»...
وخيم السكوت من جديد.
«بسم الله الرحمان الرحيم نبدأ على بركة الله».
رفع السيد عمر صوته الطلق الجهير وقد كف الحديث من كل الجهات، وعم السكون، وطلب على سنة الله ورسوله يد الفتاة الميمونة البكر ابنة الفاضل السيد... للشاب البار ابن الكريم الفاضل السيد...
مدت الايدي للفاتحة وارتفعت الزغاريد من الغرف... ووزعت «الروزاطة»...
عاد الانشراح والابتسام وانطلقت الالسن من جديد بالاحاديث بين المدعوين وعم الفرح والابتهاج بعد عبء الخطبة، وثقل وطأتها، وقد انتهت ومرت بسلام، بل على أحسن ما يكون...
قام من قام من بين الجالسين وفارق الجمع مصافحا أو مهنئا معتذرا...
تبودلت التهاني وتقبل الاستاذ عمر التهاني كفرد من أفراد العائلة بل من أعز وأقرب أفرادها وهو جالس في الصدارة بين الابوين، أمامهم منضدة، عليها غطاء أبيض مطروز، وأطباق بمختلف الحلويات وأكواب المبردات... ودار الحديث وراق وهو يفكر ويقول في سره «آخر العشية لم تنته بعد... لي متسع من الوقت لمتابعة البحث عن نهج الزعرور، وحضور أربعينية أو توفيق... وربما يكون النهج غير بعيد».
فارق بعض المدعوين البيت، تزحزح قليلا وتنفس الصعداء، وهو يقول في سره:
«ها بان الفرج ولاح الفجر وقرب الانطلاق من جديد في جبل سيدي عبد العزيز والبحث عن دار توفيق مرة ثانية... وهذه المرة بحيطة ويقظة كاملة...» وابتسم... تهيأ سي عمر بينه وبين نفسه لينسحب بدوره بين سائر المدعوين، يودع الجمع وينطلق من جديد... أقبل عليه في الاثناء بعض أهل العروس، اقترب منه باحتشام، ثم دنا من أذنه وأسر له طالبا إن كانت له سيارة... وهل من الممكن أن يعود ببعض أهل العروس الى تونس.
* * *
كتم ضحكة سرعان ما عوضها بابتسامة وهو يقود السيارة بمهل في طريق العودة الى تونس... ثم شرع ينقر المقود ويغني بصوت خافت، لا يسمعه أحد من الراكبين، كعادته، أغنية من تأليفه وتلحينه، حضرته في تلك الآونة، محركا رأسه:
«تي تام... تتيم... تتن تتن... تان تان... لي عودة أخرى الى المرسى وجبل سيدي عبد العزيز مرة ثانية... تتام تتام تام تام... والبحث عن نهج الزعرور من جديد... تتام تتام وألا أقع في شباك خطبة ثانية أو عقد قران... ويزداد ابتساما، أو حفل زواج، زفاف تتام تتام... الطار والدربوكة والراقصة ترقص بالملاليم تتن... تتن... تن تن...».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.