يعرف القاصي والداني أن تونس انخرطت منذ سنوات طويلة في مسيرة إصلاح وتحديث طالت مختلف مناحي ومجالات الحياة... وقد كان مجال إرساء الحياة السياسية على أسس الديمقراطية والتعدد وكذلك دعم حقوق الانسان في شموليتها من المجالات التي حظيت بعناية خاصة... ورغم ما تحقق من إنجازات على هذا الصعيد فإن أحدا لم يقل ان المسار اكتمل... وعلى العكس من ذلك فإن رئيس الدولة يؤكد في كل مناسبة على أنه ماض في مزيد دعم المسار الديمقراطي وتوسيع مجالات مشاركة المواطن في الحياة السياسية وتطوير أداء الاعلام الوطني لينهض بدوره كاملا في مسيرة الاصلاح والتحديث... ويعرف القاصي والداني أيضا أن التجربة التونسية اكتسبت خصوصية باتت تميّزها وتتمثل في ذلك التمشي التدريجي الذي يرفض القفز في المجهول ... وتصر تونس على استقلاليتها في جميع المجالات وترفض أن تتحول الى تلميذ يتلقى دروسا... تماما كما ترفض أن يتحول انفتاحها على العالم وتعاملها المفتوح مع الآخر بروح متسامحة تروم الافادة والاستفادة الى فرص يستغلها البعض لمحاولة إعطاء الدروس والتنفيس عن عقد استعمارية مازالت تعشش في بعض النفوس المريضة التي تجد في حثالة من أولئك الذين يدعون أنهم تونسيون، الذين يشملون كل وافد على بلادنا لتلقينه الاكاذيب والاراجيف ضد بلادهم، هؤلاء الذين لا نذكرهم بالاسم هذه المرة لكن الاكيد سيتعرفون على أنفسهم... من ذلك أن بعض المنظمات تأتي الى تونس وتبقى محل ترحاب ولا يمكن أن ننزعج منها لانه ليس لدينا ما نخفيه أو ما يخجلنا، بل وعلى العكس فنحن صرنا أنموذجا يحتذى في التنمية الشاملة وفي النجاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ونسعد كثيرا باستقبال هذه الوفود لتعاين الواقع وما تحقق بالعين المجردة وليس كما تحاول تصويره بعض الانفس المريضة... لكن الاشكال يطرح حين يتعلق الامر بالعقلية التي يأتي بها هؤلاء وبطريقة تعاملهم الفجّة والتي تكشف عن نوع من الاستكبار والتعالي غير المبرّرين بالمرة، كما لو كانت تونس حقلا تابعا لهم، أو كما لو كانت أرضا بورا لتستوعب كل عقدهم التي تزيّن لهم دور «الاستاذ» الذي يحق له إعطاء الدروس. هذه العقلية المريضة تصل بهؤلاء حد الوقوع في المحظور والقفز على الواقع... وهو ما حصل بالفعل مع بعثة احدى المنظمات التي تدعي الدفاع عن حقوق الانسان والتي وقعت للاسف الشديد في مفارقة عجيبة نتيجة إصرار أعضائها غير المبرّر على لعب دور الاستاذ في عملية «تأهيل» التونسيين والصحافيين بالذات على أسس وأصول العمل الصحفي... فقد أصر هؤلاء مثلا على ضرورة إرسال صحفيين تونسيين الى بلد نام للمشاركة في دورة تكوينية تشرف عليها وتموّلها (بالصدفة) شبكة إعلام غربية، وتناسوا في الوقت نفسه أن تونس تملك مركزا خاصا بتكوين وتأهيل الصحفيين (المركز الافريقي لتدريب الاتصاليين (CAPJC) من طراز عالمي ويتولى تقديم خدماته لاعداد كبيرة من الصحفيين التونسيين والعرب والافارقة ويسهر عليه اخصائيون مشهود لهم بالكفاءة وتشرف على دوراته كفاءات أوروبية وعربية وعالمية مشهورة وذلك منذ أكثر من عشرين سنة!! مع العلم أن جل الصحافيين التونسيين متخرجين من معهد ساهم هو الآخر في تكوين أجيال من الصحافيين من العالم العربي والافريقي وله سمعة عالمية. فكيف يفكر هؤلاء في ارسال صحفيين تونسيين الى الخارج ويتغاضون عن مركز قائم الذات في تونس ويقوم بنفس المهمة على الوجه الاكمل. ثم كيف يزعم هؤلاء أنهم يسعون الى الاطلاع على واقع الصحافة في تونس والحال أنهم لم يلتقوا مكتب جمعية الصحفيين وهو المنتخب بطريقة ديمقراطية وكذلك جمعية مديري الصحف وهما المؤهلتان للاجابة عن كل الاستفسارات وذلك بدعوى قربهما من السلطة؟ وكيف «يغفلون» أيضا عن الانصات الى أطياف كثيرة من الصحافة الوطنية وبعضها يمثل تجارب رائدة حتى على المستوى الاقليمي والدولي. وتأكيدا، فإن مثل هذه المفارقات التي تنطق عن عقلية مريضة موغلة في الفجاجة هي التي تزعج... وهي التي تجرّد مثل هذه البعثات من عنصر النجاح الرئيسي ممثلا في الموضوعية والشفافية وتصل بها حد الوقوع في المحظور وتعرّي نواياها الحقيقية... وتبقى مرفوضة في بلد مثل تونس بنى نموذجا تنمويا بات يوصف بالمعجزة ويبني مسارا ديمقراطيا عتيدا ومستمدا من واقع تونسي ومن خصوصياتها ومن انتظارات شعبها ولا مكان فيه لاصحاب العقد ولمن يحركهم الحنين الى ممارسة الوصاية وإعطاء الدروس الفارغة...