اذا لم ينفع العقار فيما افسده الدهر، فماذا سينفع فيمن تعوّد ان يقول ما لا يفعل؟ ذلك هو داؤنا الحقيقي الذي تمكن كالسرطان في سلوك القوم منذ خاطبهم الله بقوله الحكيم {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلوا}. وفي كل يوم جديد يتكاثر فيه اهل القول والخداع ويتناقص فيه اهل الفعل والتقوى. لتداوي دائما بالذي كان هو الداء. نستسهل القول لأننا لم نعرف بعد ما حقيقة الفعل. ونفوس الصغار سرعان ما تقنع بالعيش وسط الاوحال خوفا من صراع امواج التفكير الحق ومواجهة الذات ومراجعة الاخطاء. ان المواجهة قد تسلبك متعة الاحساس بما حصل لك عن ذاتك من وهم التفوق والنبوغ المبكر. قد تخسر الكثير... ويضطرك اكتشاف الحقيقة الى البدء من الصفر.. ان تمحو باختيارك نوازع اللؤم في فطرتك عوض ان تعمل على تغذيتها بماء الأوهام وتربيتها على الشرور وسوء الأخلاق.. هل ان تنشغل عن عيوب نفسك بعيوب الآخرين. قد يتهيأ لك ان في عيوب الآخرين سلوانا للنفس المضطربة وتخفيفا لأحزانها وحافزا لمزيد النبوغ. فاللعبة التي يكون ضحيتها الآخر تستهوي حتما نفوس الأشرار والأنانين. لكن الزمن حولك يهزأ بهذا العماء الذي اصاب حتى الأولين. وفي اللحظة الحاسمة تمنوا لو ولدوا دون ألسنة. قد يزداد الألم ألما في لحظة وعيك به وصراعك معه لكن ذلك افضل من ان تعيش كل حياتك خارج ذاتك غريبا عن نفسك وفي وهمك شعور بأنك الأعرف حتى بنفوس الآخرين. مواجهة الجراح وحدك في صمت يعلمك ان تعيش الحياة بملء ذاتك.. يعلمك ان تخلص لأعمالك وتتصالح معها. اما الخوض في ضجيج القوم وتقلباتهم فلا يعلم الا الخسة والخداع. صعب جدا على من تعود الالتذاذ بقلقلة اللسان ان يهجر ما تعود.. ان يهدئ روعه بالصمت... والأسهل دائما ان نقول ان الاخلاق ليست الا سجنا للضعفاء. فهي العصا التي يفر منها الابداع. ان قلة الحياء قد تشجعك على قول ما تشاء. لكن المعنى الحق لن يلتقطه لسان تصرعه الكلمات وتصرف وجدان صاحبه صروفا شتى. الصمت له مذاق مرّ لكنه يشفي من التباس المعاني وكثرة الشبهات. انه ليس مجرد موضة جديدة عثرنا عليها في كتابات المحدثين. فما من كبير الا وعرف فضل الصمت واكتشف معانيه. الكبار وحدهم يستطيعون الصمت. ومن استطاع الصمت استطاع الكلام... الصمت اذا كان اختيارا واعيا وفي مواضعه علّم الإنسان ما لا يعلّمه الكلام وكان ابلغ وأشد بيانا... به تتسع مساحة الرؤية... وترى بأم عينك الدنيا وهي تتلاعب بالعباد وتقلّب افئدتهم كما تشاء وبين يديها يولون الصغار كالنائحات. هذا حصاد انفلات ألسنتكم فكيف تعيبون ما كنتم اسرع الناس الى اقترافه. *** كنت يوما مارا فوق دراجتي النارية لمحت احد الوجوه العالمية يجلس متربعا تحت الحائط في قرية الذهب والفضة بلزدين /منزل تميم... الصباح الصيفي في اوله بين الجبال كأنه يخرج من بين أصابعه... عدت اليه لأتيقن من البساطة التي يحيا بها الكبار. كان الرسام العالمي قويدر التريكي صامتا كأنه يجلس وسط الالوان واللوحات وحوله تسبح الخطوط والأشكال في حركة خفيفة هادئة... يكاد يكون وحده في الشارع المنصرف عنه الى عوائده الساذجة. عند هذا الرجل تطمئن الحياة على نفسها وهي تتعلم فعل البوح الصادق. رأيت حين سلمت عليه كيف تتزاحم قطع السماء في عمق عينيه حتى اذا التقى سلامي بنظرتيهما القى إليّ بقطعة من السماء فحملتني الى غاية المنتهى. هو هنا ولوحاته تتجوّل في العالم... هذا فعلا ما ينقص اهل الأوحال. كان بإمكانه ان يجلس لا على التراب بل على عرش افضل جامعات الفنون... ولكنها نفوس الكبار تريد العودة الى الحقيقة الاولى التي تغيب وتشرق مع الشمس... ان تستمتع بمشاهدة الكون في صفائه البكر بعيدا عن ضوضاء المدينة وتهريجها..