عشية الأحد (14 ديسمبر 2003) ظهرت صورة الرئيس العراقي السابق في أيدي مطارديه فانسحبنا من الواقع الى الصورة. كان الأسير رثّ الهيئة أغبر الوجه أشعث الشعر. انفجر جدل بيزنطي من نوع النظر في جنس الملائكة: هل تمّ «إخراج» الأسير بهذه الطريقة تثبيطا ليتاماه أم تهديدا لسواه؟ لم ينتبه محركو الصورة الى أنها عبوة ناسفة. الفضاء ليس حكرا على أتباع صدام او اعدائه. تم تداول الصورة بإفراط حتى اضطر الكثيرون الى الاصطفاف في حرب ليست حربهم. بابا الفاتيكان، منظمة العفو الدولية، مناضلو الديمقراطية وحقوق الانسان العرب وغيرهم، الكل تحرّج على الرغم من أن أكثرهم يرفض أن يقف مع أي حاكم مطلق. حزن الكثير من المواطنين العاديين. تحركت داخلهم ثقافة الكائن المقهور منذ قرون، المتماهي مع الضعفاء وإن كانوا جبابرة اللحظة السابقة. بدا لهم أنّ «الديمقراطية» القادرة على مثل هذه الشماتة لن تكون أقلّ قدرة على الطغيان. ثم انتشرت الروايات ضدّ السيناريو المراد تسويقه. تخدير. خيانة. بروباغاندا. هل كان الأمر دفاعا عن الذات؟ هل كان من رواسب «نظرية المؤامرة»؟ المستقبل وحده يعرف، أعشت الصورة العين، تصاعد الاحساس بالتقزز من التمثيل الرمزي بالجثة الرمزية. ثم تماهى الكثيرون بضحية اللحظة، حتى أولئك الذين كانوا يرونه جلاّد اللحظة السابقة. من هذه الناحية فشلت الصورة في إصابة المرمى الذي قصده «المخرج». إلاّ أنها أصابت المرمى من ناحية أخرى. لعبت الصورة دور المنوّم المغناطيسي او المشعوذ. ارتفعت ضجّة «التعليقات» وكأنها تريد التمويه على ضجة أخرى باطنية تمور بأسئلة يراد لها أن تخرس. يقول البعض هو طاغية فلماذا لا نفرح بسقوطه ولو على أيدي الآخرين؟ فيردّ عليهم البعض بل هو بطل فلماذا لا نبكي بطولة ظلت كالعادة قاصرة عن التحقق في الواقع عاجزة عن الانتصار في المجاز؟ ألهذه الدرجة يختلط الأمر لدينا بين الطاغية والبطل؟ بين المحرر والمحتل؟ كيف أتاح فكرنا هذا الخلط البشع في النظر الى مفهومي البطولة والتحرير؟ هل رأينا محتلا يحمل معه هدايا الحرية؟ هل ينزل الطاغية من المريخ؟ هل الحرية بضاعة قابلة للاستيراد؟ هل تصدق الوطنية في غياب المواطنة؟ هل التحرر ممكن اذا لم يكن تتويجا لنضال مستقل بوسائله وأهدافه؟ هذا بعض من الأسئلة التي حاصرتها ضجة الصورة. ضجة بين أصابع ترتفع للاتهام وأخرى ترتفع بعلامة الانتصار. وكأن الجميع يصرخ لإخفاء إحساس بالخيبة وعدم الجدارة. وكأن الكل واع في قرارة نفسه بأنه غير جدير باحساسه، الكل يزهو بألية كبش سواه او يرثي ألية كبش غيره، وبين هذه وتلك يعلو الصوت الوحيد المسموع منذ قرون: ثغاء الخرفان وضجتها الغبية. ضجة تكتم أنفاس الأسئلة التي يستنكف أكثر «مفكرينا» من مواجهتها، لأنها قد تكسر مرايا «الغيبوبة» الجمعية التي تقول لهم دائما ما يريدون سماعه: أنتم الأجمل والأعظم، والآخرون هم السبب في كل ما يحدث لكم. كلا، لسنا الأجمل ولسنا الأعظم، وليس الغرب ضدنا وليست أمريكا عدونا وليس «الآخر» السبب الأكبر في ما نحن فيه. ولم تكن تلك الصورة إعلانا عن انتصار بقدر ما سيرى فيها المستقبل إعلانا عن إفلاس. إفلاس مشروع جيوسياسي توتاليتاريّ حاول بعض الغرب بيعه لبعضه الآخر باسم الديمقراطية، فاذا نحن أمام الديمقراطية وهي تمارس ما تدّعي محاربته فتفقد نفسها وتنجب المزيد من الارهاب. من هذه الناحية يمكن القول إنّ في بعض أمريكا اليوم الكثير من أخطائنا، لكن في شعبها وفي نخبها ما يمنح القدرة على التعلم من الأخطاء، أمّا نحن فعلينا ان ننتصر على أنفسنا اذا أردنا البقاء. ليس هذا جلدا للذات وكم أقرفونا بهذه العبارة كلما أفسدنا عليهم ثغاءهم. علينا ان نبدأ من الصفر اذا لزم الأمر. أن نتصالح مع جغرافيانا الروحية والمادية. ان نحسن تحديد المرمى كي نسدد نحو المستقبل لا نحو مرمى منافس وهمي. أن نتقن الانصات الى أنفسنا كي نتقن التعلم من الآخر. أن نعيد نخبنا الى مدارس شعوبها من جديد كي تتهجى ألفباء الشأن العام. هذا ما قالته تلك الصورة اذا كان لابد من تقويلها شيئا يذكر. علينا ان نصالح بين الكرامة والسلامة. أن نقيم العمران بعيدا عن عبادة الأوثان. أن نبني دولا تحصنها شعوبها، ويخسر المواطن حريته اذا خسرها. وخلاصة القول، علينا ان «نقيّد فلسة» نحن أيضا. أي أن نقبل العزاء في الكثير من أوهامنا وأن نشهر «إفلاس» حقبة كاملة من تاريخنا كي نستطيع الحلم بتأسيس أفق جديد على قواعد سليمة. هكذا يرى الشعراء فليفحمنا «مفكرونا» بعكس ذلك ان كانوا قادرين. أما الترقيع، أما مديح البطولات الوهمية، أمّا «استيراد» الحلول والببّغائيات التي نستهلكها منذ قرون، فهذا لا يمكن أن يؤدي الى غير الكوارث، ولا يطرح أمام أبنائنا الا الخيار بين حضنين، حضن «بني بريمر» وحضن «بني بن لادن»، فكأننا نخيرهم بين خراب بغداد وخراب البصرة...