مما جاء في اخر كلامه، قال الحمار العارف : «هكذا تنتهي الحكاية ولكن بما انه بقي لدي بعض الحروف سأصنع منها أي شيء وسنرى بعد ذلك تعالوا يا أطفال السماء واصطفوا اقرعوا الطبل المدوي تعالوا، تعالوا يا أطفال السماء الى النور واصطفوا سأرسم لكم قطرات من المطر على شاطئ الليل * * * مرة أخرى يتصدر الحمار مضمونا أدبيا تحديدا قلب رواية ويمتد عبر صفحاتها عمودا فقريا بكل مقوماته. قد تعود بنا الذاكرة الى «الحمار الذهبي» الذي أبدعه في عمل أدبي الشاعر «آبولي» الذي عاش في قرطاجة وقريبا قريبا ارتحلنا مع توفيق الحكيم وحماره. وها أن الأستاذ محمد لحبيب حامد يهدينا «تبروري»(*) أو «الحمار الذي يضحك» في واقع بشري أضاع أبجدية البسمة والضحك. في مطلع روايته هذه التي كتبها كسائر ابداعاته الاخرى من رواية وقصة باللغة الفرنسية جاء الاهداء كما يلي : «الى أصدقائي، هؤلاء الاحمرة الذين صنعوا العالم» لا يملك من وضعه الفضول عند الصفحات الاولى لهذا الكتاب الا التورط في التجوال وملاحقة المعني عبر عمارته شكلا ومضمونا حتى آخر الحروف المبعثرة في صفحة 205 حتى 207 عساه ان يتم كلاما شبيها بما صاغ «تبروري» لكنه يظل غير قادر، فسر الوصفة عند الحمار العارف. * * * حمّال أثقال ظل ومازال الحمار ويشاء الكاتب في فنطازيا عجائبية ان يجعله حمّال معان... يفعل به ما فعل ابن المقفع في «كليلة ودمنة» او لافونتان في قصصه عن الحيوان وقد سلك هذا المسلك آخرون. لقد أوتي «حمار محمد الحبيب حامد» المعرفة من حيث لا يدري ولا يحتسب فقد ابتلع صدفة حروف الابجدية فحدث العجب ونطق عن كليل اللسان بما يشفي الكرب. أهي قمة السخرية وذروة الاستهزاء ان يُعقل الانسان في لسانه ويعقل الحيوان في منطقه وبيانه أم هو حال الواقع نزل بالمرء الى سحيق العجز وقد أكرمه خالقه في البر والبحر! أم هي أحكام الأدب يجوّز ما لا يجوز ينطق الابكم بحسن البيان فيستبيح الحيوان جنان الانسان؟ يحيك محمد الحبيب حامد روايته بأسلوب ساخر ممتع ينضح في دواخله بمرارة الواقع ويجعل من «تبروري» الحمار العارف الشخصية الرئيسية وتبروري باللهجة العامية التونسية تعني البرد وهذا الاسم كبقية الاسماء التي انتقاها الكاتب لشخوصه قريب من الذوق الشعبي والوسط الذي تدور فيه أحداث الرواية. بين مجتمع «ألقور» و»الماقور» Gor et Magor من قبيل : «دبره» و»زمرد» و»عرجون»... وأخرى حبلى بدلالاتها مثل «قسمالله» و»سبهللا».. تعرّي هذه الرواية القيم والسلوكات الانسانية في حالات الخفض والرفع بين مجتمعين، مجتمع بكر ومجتمع شوّه حتى النخاع. يبدو هذا النص الروائي متحررا من ربقة الزمان والمكان والجغرافية لكنه يصب في سفور واضح في زمننا هذا وواقعنا هذا. ورغم انه مكتوب باللغة الفرنسية فالمضمون يرشح بالهوية الاصل. «تبروري» كتابة مغايرة، مختلفة عن السائد حيث يغلب النفس الكئيب والمناحاتي في تناول الواقع المتردي. كتابة لا يجيدها الا كاتب يحمل في نبضه شحنة من الجنون الجميل ويؤمن أن على الكاتب ان يخلق قوانين مغايرة حتى يتيح للمشهد فرصة ميلاد جديد.