كثيرا ما تجري على ألسنة الناس مفردات تفيد معنى الاعتذار عن هفوات وأخطاء ارتكبوها أو عن ذنوب اقترفوها سواء أكانوا أفرادا أم جماعات. وهذا يعني في ما يعنيه رقيا أخلاقيا دالا على لطف المعشر بين الناس وعلى جميل التواصل بينهم وعلى ضرب من التواضع يُذهب ما تجلبه المكابرة والمعاندة من عداوة وكراهية، فضلا عن كونه يحفظ الحقوق المهضومة لبعضهم إن لم يكن ماديا فأدبيا على الأقل. لكن الاقبال على الاعتذار قد لا يكون عذرا كافيا للسكوت عن السؤال عما اذا كان فعل الاعتذار يكفي لتبرئة المعتذر عما فعل. لأن ذلك قد يعني أيضا في ما يعنيه تنصلا من المسؤولية كما لو أن النطق بعبارة الاعتذار يسقط خطأ صاحبه. ولسنا نعني ها هنا الاعتذار عن سلوك يأتيه الواحد لتعذّر قيامه بفعل ما تحت ضغط طارئ كأن يُخلف موعدا لسبب من الأسباب بما في ذلك السهو أو النسيان أو كأن يعتذر الواحد عن عدم استطاعته البقاء أكثر عند صديق يزوره أو مريض يعوده لتعذر بقائه في ذلك الوقت. فالامر متعلق ها هنا بخطإ غير مقصود أو بما ليس للفرد حيلة فيه، وإن الاعتذار في مثل هذه الحالات لمن حسن أخلاق المعتذر ما دام لم يسبقه خطأ يلحق أذى بالمعتذر له حتى وإن كان الخطأ مقصودا وهولا يستوجب بالضرورة تفسيرا لخطإ المعتذر ولا كشفا صريحا عن الحق المهضوم من حقوق المعتذر له لما يعد احراجا له أو تدخلا في خصوصياته. ولكن النطق بالاعتذار قد لا يكون وحده كافيا حتى وإن دل على شجاعة في ما يخص الاعتراف بالخطإ المرتكب او بالذنب المقترف. وأنا لا أنوي بالمناسبة أن أعتذر عن هذا الباب الخاطئ الذي ألج منه الى الكتابة، فالعلاقة بين الكتابة الخطإ ليست مدعاة للاعتذار، فثمة ضروب من الكتابة قد تتعذر أصلا دون قصدية الخطإ حتى أن الخطأ في شأنها قد يكون مطلوبا لذاته. وهذه على أية حال مسألة أخرى قد نخطئ الأبواب اليها في مناسبات قادمة. وانما يعنيني في هذا الباب أن أنظر الى الاعتذار من جهة خلقية القيمة لا من جهة جماليتها. وقد صادفت دوافع جعلتني أقلّب التفكير في قصدية الاعتذار تارة وأكف عن ذلك طورا بحسب مقتضيات الأمور ومجرياتها، ومن هذه الدوافع ما يتصل بوضع عام لهذا المجتمع أو ذاك ومنها ما يتصل بوضع خاص لهذا الفرد أوذاك. واذ يكشف صاحب هذا الباب عن بعض ما خامر فكره في شأن الاعتذار فلأنه قد رأى وهو يقلّب ما يقلّب من ضروب الاعتذار أن القيام به قد لا يرقى بالضرورة الى مستوى الخلقية بل قد يكون التفافا مقصودا أو غير مقصود على حميد الأخلاق وهو لا يأتي في هذا بجديد، فقد قيل من قبل «رب عذر أقبح من ذنب» ذلك أنه اذا كان الاعتذار اعترافا بخطإ في حق شخص او مجموعة فالمفترض ان القصد من القيام به يتثمل في رد الاعتبار لهذا الشخص او هذه المجموعة ما دام يتعذر رد الحق اليهم ماديا خاصة اذا ما تم الهضم على نحو رمزي أما سعي المعتذر الى طلب التبرئة واسقاط المسؤولية عنه فيُفترض فيه ان يكون هدفا لاحقا على هدف ارجاع الحق الى صاحبه. وقد لا يتسع هذا الباب للتفكير في مشروعية الاعتذار وجدواه فضلا عن الكفاءة التي تعوزني لبلورة مقتضياته القانونية، وهي مادة من مواد القانون الذي كثيرا ما يطالب أفرادا أو حتى دولا بالقيام به، ولكني أقدّر أن لا عذر لمن كان اعتذاره لخاصة ذاته لورع ألم به على كبر ولا أريد أن أُفتي فقهيا في هذا على علمي بما رُوي عن ابن عباس أنه قال : «لعن الله المعذّرين»، وهم المقصّرون بغير عذر أو لتجنب ريبة من الآخرين فيه ما لم يفسّر أسباب خطئه وما لم يعين موضوع الخطإ وما لم يعترف اعترافا صريحا بالأذى الذي ألحقه بهم فالشجاعة محمودة حينما تُستكمل والا فإن الخطأ قبل الاعتذار يستحيل خطيئة بعده. وعليه أقدّر أن الاعتذار بنبغي أن يندرج في معنى «الغيرية» أي في معنى إيثار الآخر والاعتراف بأحقيته في ما كان له حق فيه، لا أن ينحصر في معنى «الأنانية» أي في معنى أن ينشد الواحد سكينة النفس وقد روّع من قبل نفوس الآخرين.