بدت لي محاكمة الرئيس حسني مبارك محاكمة مفعمة بالرموز..كلّ ما فيها ينطوي على دلالة ويحيل على معنى :المكان، الأشياء التي تؤثّثه، حركات المتّهمين، ثيابهم..كلّها كانت بمثابة العلامات التي أعدّت سلفا لتقول رسائل مخصوصة. ويمكن أن نقسّم الرموز إلى مجموعتين : المجموعة الأولى تضمّ الرموز التي صاغتها السلطة الحاكمة وحمّلتها رسائل إلى الثوّار في ميدان التحرير. المجموعة الثانية تضمّ الرموز التي وضعها المتّهمون للردّ على رموز السلطة الحاكمة ورسائلها. رموز السلطة الحاكمة كثيرة ومتنوّعة لعلّ أهمّها مثول الرئيس حسني مبارك للمحاكمة داخل قفص. فالقفص، وإن كان من مستلزمات المحاكم المصريّة، إلاّ أنّه أخذ، في سياق هذه المحاكمة، بعدا جديدا.فهو يشير إلى أنّ الرئيس لم يفقد سطوته وسلطانه فحسب وإنّما فقد مهابته وجلاله أيضا وتحوّل إلى رجل متّهم ينظر إلى العالم من خلال قضبان الحديد تطبق عليه من كلّ مكان. وبقدر ما يشير هذا القفص إلى تدهور مكانة مبارك فإنّه يشير، في الوقت ذاته، إلى انتصار خصومه، أولئك الذين كانوا قبل أسابيع قليلة داخل القفص، يحاكمهم قضاة مبارك ويطاردهم أنصاره. لقد أرادت السلطة الحاكمة أن تعلن، من خلال هذه المحاكمة، عن خروج مصر من زمن ودخولها في زمن آخر جديد.خروجها من زمن مبارك ودخولها في زمن الثوار. وينهض القفص ليؤكّد هذا الانتقال فهو يعلن أنّ الحاكم بات محكوما...بل محكوما عليه... فيما بات المحكوم حاكما ذا سطوة وقوّة ونفوذ...ومن وجوه سطوته وقوّته ونفوذه أنّه.أصرّ على أن يشرب مبارك من الكأس التي شرب منها...ولم تضعف كلّ المناورات التي لجأت إليها السلطة الحاكمة هذا الإصرار بل ربّما زادته قوّة . فمحكوم الأمس أراد أن يقف مبارك الموقف الذي وقف ، وأن يكابد المعاناة التي كابدها. قالت السلطة الحاكمة إنّ القفص ليس له من غرض سوى حماية المتّهمين وضمان سلامتهم. لكنّ النّاظر إلى هذا القفص لا يمكن، بأية حال،أن يقرأ فيه هذه المعاني التي أشارت إليها السّلطة الحاكمة. القفص هنا إدانة قبل الإدانة، قصاص قبل القصاص... كيف كان ردّ المتّهمين على رسالة السّلطة الحاكمة؟ لعلّ أهمّ ردّ جاء من حسني مبارك. فهذا الرّجل الذي عدّه خصومه فرعون مصر، وأخذوا عليه جبروته واستبداده، واتّهموه بقتل مئات المصريين، قدّم في هذه المحاكمة صورة جديدة عنه تختلف عن الصّورة التي عرفها المصريّون اختلاف تباين وتناقض. فهذا الطّاغية المستبدّ بدا في هذه المحاكمة رجلا مريضا متهالكا، ملقى على سرير طبّي، غير قادر على مواجهة القضاة، بل غير قادر على سماع أقوالهم. لكأن غرض مبارك كان يتمثّل في «تشويش» الصّورة الأولى التي استقرّت في وجدان المصريين، استبعادها، إلغاؤها من الذاكرة واستبدالها بصورة ثانية لا تصوّر عنجهيّة مبارك وتجبّره وإنّما تصوّر ضعفه وهشاشته...أي لا تصوّر الرّجل في هيئة نصف إله وإنّما تصوّره في هيئة إنسان عاديّ قد يمرض وقد يتألّم.. هذا التحوّل، تحوّل مبارك من رجل متسلّط متجبّر إلى متّهم ضعيف متهالك، كان تحوّلا مفاجئا، غريبا، مدوّخا إلى حدّ أنّ البعض لم يصدّق ما حدث. فهذا أحد المحامين ذهب إلى القول إنّ الرّجل الملقى على السّرير داخل القفص ليس الرّئيس مبارك وإنّما هو شخص آخر. فالرّئيس قد مات منذ أربع سنين وعمدت السّلطة الحاكمة إلى التكتّم على موته. فوضعت شبيها له يحكم باسمه، لهذا طالب المحامي بفحص الحامض النووي لمزيد التّحقّق والتّأكّد. آلُ مبارك ردّوا على الرموز التي صاغتها السّلطة برموز أخرى لعلّ أوّل هذه الرّموز ارتداؤهم جميعا بدلات بيضاء نقيّة مع حرص واضح على الظّهور في هيئة أنيقة وبأسارير منبسطة توحي بالدّعة والسّكينة. هؤلاء المتّهمون ذوو الذّقون الحليقة والقسمات الوسيمة يختلفون عن المتّهمين العاديين...لكأنّهم غير متّهمين...أو لكأنّ التّهم التي ردّدها القاضي على مسامعهم لا تعنيهم. من قال إنّ هذه العائلة متهمة بالفساد، خارجة على قيم الجماعة و«أخلاقها»؟ كلّ ما فعله المتّهمون داخل هذه المحاكمة يؤكّد أنّهم يحافظون على هذه الأخلاق وتلك القيم. فهذا علاء ظلّ على امتداد المحاكمة متشبّثا بالقرآن الكريم لا يتخلّى عنه...أمّا جمال فقد كان برّا بوالده لا يفتأ يحدب عليه يعيد على سمعه الثّقيل كلام القاضي، بل هو الذي هبّ إلى تحريك سريره خلال الاستراحتين. لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك أنّ النّجلين عملا طوال المحاكمة على مواراة والدهما عن كاميرات المصوّرين الظامئة لالتقاط صور الرّجل المتهالك الضّعيف، فقاما حجابين كثيفين يحولان دون تصويره والتشهير به. فلم يتمكّن المصوّرون إلا من التقاط عدد محدود من الصور. وتبلغ رمزيّة المحاكمة أوجها حين يتحاشى آل مبارك مخاطبة وزير الداخليّة ومعاونيه، حتّى أنّ نجل مبارك علاء جلس،في وقت من الأوقات، إلى جانب حبيب العادلي دون أن يلتفت إليه أو يتوجّّه إليه بالخطاب...وهذه رسالة واضحة للمشاهدين، وربّما للقضاة، مفادها أنّ أسرة مبارك على خلاف مع الوزير فهي تتبرّأ ممّا فعل...تتبرّأ من قتل مئات المصريين بنار منظوريه. هذه الرّموز مجتمعة، ليست في الواقع إلا ردّا على الرّموز التي صاغتها السّلطة الحاكمة وشحنتها بمعاني الإدانة والاتّهام.