شهر رمضان المبارك هو شهر المسلسلات بامتياز، والقنوات الفضائية العربية تتبارى في إنتاج المسلسلات أو اقتناء الجديد منها، وهناك قنوات تدفع أثمانا عالية مقابل أن يكون العرض (حصريا) بها كما تذكر في الاشهارات. ويبدو لي أن الاشكالات الكبيرة تتأتّى من المسلسلات السيرية التي تتناول حياة المشاهير سواء التاريخيين منهم أو المعاصرين. ومازلنا نتذكر أن في كل عام «ضجّة» تتعلّق بهذا المسلسل أو ذاك من مسلسلات السيرة، مثلا مسلسل أم كلثوم وما أثار من نقاشات، لأن تناول حياتها هو بالضرورة تناول لعصرها وبعض الأشخاص المؤثرين فيه، وما جرى من أحداث وانعكاساتها على الشخصية «محور المسلسل»، وكذا الأمر مع مسلسل «العندليب» الذي تناول حياة أحد أشهر مطربي عصرنا والذي كان له حضوره الوهّاج لارتباط أغانيه بالثورة المصرية 1952 وزعيمها جمال عبد الناصر. وفي العراق جرت نقاشات كثيرة حول عدد من المسلسلات السيرية التي اختصّت بتقديمها قناة «الشرقية» في كل رمضان، بدأتها بمسلسل «الباشا» عن حياة السياسي المخضرم نور السعيد، و«آخر الملوك» عن الملك فيصل الثاني الذي أطيح به بعد ثورة تموز (جويلية) 1958 وتمّت تصفيته مع أسرته، وفي هذا العام ذهبت القناة نفسها الى سيرة حياة احدى نجمات الطرب العراقي «عفيفة اسكندر» لأن في حياة هذه النماذج من الفنانين يختلط الفن بالسياسة! ولكن بين أكثر المسلسلات إثارة للنقاش مسلسل «اسمهان» وقبلها «نزار قباني» وهذا العام المسلسل المعدّ عن الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش والمعنون «في حضرة الغياب». وأنا هنا لا أريد أن أحكم على هذا المسلسل بقدر ما أريد من قراءة له، قراءة خلصت فيها لبعض الاستنتاجات ربما كان أهمها ان الجهة المنتجة تعجّلت في نقل حياة درويش الى مسلسل، فالرجل لم يمض على رحيله الكثير، ومازال أصدقاؤه ومحبوه وقراء شعره يتذكرونه وكأنه يعيش بينهم، ولذا يشكل تجسيد أي ممثل لشخصيته «صدمة» وأصفها بالمرفرضة إذ لا أحد يمثل محمود درويش إلا محمود درويش نفسه وان الممثل الذي أدى شخصيته لن يكونه، هناك فارق كبير بينهما مهما حول الممثل الاقتراب من شخصية محمود وهيئته، مثل «الشعر» و«النظارات» واللباس، فدرويش كان أرشق، ورغم مرضه كان حيويا لمّاحا، اضافة الى أن في صوت درويش عمقا نادرا يعرف كيف يوظفه أثناء إلقاء قصائده لذا يبهر سامعيه ويشدّهم إليه وهذا ما لم يستطعه شعراء آخرون. وأعتقد أن «رفض» المسلسل تأتّى من هذه الملاحظة إذ لا أحد يرتقي بالممثل مهما كان عبقريا في أدائه لأنه سيظل بعيدا عن الشخصية الحقيقية التي نعرفها كلنا، فدرويش مازالت تسجيلاته متداولة، وكذلك حواراته التلفزية وقراءاته الشعرية التي تنتشر بشكل واسع. ولو أنّ إنتاج المسلسل أرجئ لسنوات أخرى لربما كان تأمّل ما جرى سيكون بعيون ترى أوضح. فدرويش مشروع شعري وطني فلسطيني وعربي بل وإنساني وليس مشروعا تجاريا وعنوانا لمسلسل تلفزي بغضّ النظر عن النوايا.