تستقبل مدينة الكاف ليلها الرمضاني في الظلام الدامس بسبب خلل غريب في شبكة التنوير العمومي لكن ذلك لا يمنع آلاف الناس من تبين طريقهم في الظلمة كل ليلة من أجل النسمة الكافية. تبدو مدينة الكاف ساحرة في شهر رمضان كعادتها، رغم مخاوف الظلام الليلي والانفلات الذي يمارسه التجار الفوضويون ورغم تكدس الأوساخ في كل مكان وتراكم فضلات الأسواق التي تتحول إلى مصدر للروائح التي لا تطاق بفعل الحرارة. لم يعد شباب مدينة الكاف يبدي اهتماما كبيرا بمعضلة مدخل المدينة الشمالي والذي يعيش على وقع أشغال لا تنتهي منذ أكثر من عشرين عاما. يجب أن نقول إن هذا المدخل الذي حمل أسماء عديدة منها النظام المخلوع يمثل الرئة الوحيدة التي يتنفس منها أهالي المدينة في ليالي الصيف ويتمشون على حافته التي تبدو مثل كورنيش على البحر بحكم ارتفاع الطريق وإشرافها على السهول والمزارع المترامية. وتمتد هذه الطريق على عدة كيلومترات حتى مفترق طريق تونس مرورا بحي الدير وعدة غابات صنوبر رائعة. ومع تطور العمران برزت فكرة ملحة منذ سنوات الثمانين لتهيئة هذه الطريق وتوسيع رصيفها ليصبح ممشى للتفسح على امتداد عدة كيلومترات، ولكي تطل على عدة مشاريع ترفيهية في الجهة. لكن أهالي المدينة لم يفرحوا بهذا المشروع سوى لفترات متقطعة، إذ سريعا ما تظهر عيوب في الإنجاز ويتشقق الرصيف، فتظهر أفكار أخرى وترصد أموال جديدة لإنجاز مشروع آخر لا يلبث أن يكشف عن عيوب جديدة وهكذا دواليك. وهكذا، تعود أهالي المدينة على التعايش مع هذا الوضع الغريب حتى دون أن يكلفوا أنفسهم عناء طرح السؤال غير المجدي، ما دام كل مقاول أشغال يفعل ما يحلو له دون حساب. أما هذه المرة، فقد أبدى عدد من ناشطي المجتمع المدني غضبهم الشديد لأن هذه الأشغال تسببت في إتلاف شبكة التنوير العمومي بمكان المشروع بما أغرق كل المدخل الشمالي للمدينة في الظلام، أما الأخطر من ذلك فهو ما تعمده مقاول الأشغال الحالي من رمي مكونات الطريق القديمة من خرسانة وزفت واسمنت مسلح بطريقة مخالفة للقانون في وادي صميدة وفي بعض المناطق الغابية الجميلة على طريق الدير. وفي هذا المجال، قال لنا نقابي معروف بالجهة: «عوض أن تكون الثورة التونسية مناسبة لوضع حد للفساد والإفلات من المحاسبة، فإن العكس تماما هو الذي حدث، الأقوياء بقوا أقوياء وكل واحد منهم يفعل ما يشاء دون حساب، رجاء إذهبوا إلى وادي صميدة لتروا تلك الكارثة التي تسبب فيها هذا المقاول دون حساب». وقبل ذلك، كانت جمعية صيانة وإنماء مدينة الكاف قد أرسلت استغاثة حقيقية إلى وزير التجهيز والإسكان لإنقاذ وادي صميدة وتجنيب سكان المدينة الكوارث المترتبة عن سد مجراه. ويقول لنا مهندس أشغال عمومية أصيل المدينة إن وادي صميدة الذي تتجمع فيه مياه الأمطار من أعالي الدير ثم يشق الجهة الغربية من مدينة الكاف قد تسبب في كوارث وقتلى كلما تعرض مجراه للردم بالفضلات والأوساخ، لذلك عملت البلدية منذ عقود على تهيئة الوادي وتغطيته في عدة مناطق لحماية المدينة من الفيضانات. ويبدو أن استغاثة جمعية صيانة المدينة قد وصلت إلى مسامع وزارة التجهيز، لكن ليس بالحجم الكافي، لأن شهود عيان رأوا جرافة تتوجه إلى وادي صميدة وتسوي جبال الإسمنت والزفت وفواضل البناء بطريقة مستعجلة مع دفعها أكثر باتجاه مجرى الوادي الذي ازداد ضيقا بتكدس أطنان الأوساخ والفضلات الصلبة في مجراه. ويقول لنا مصدر من جمعية صيانة المدينة إن مقاولا آخر قد استفاد من تجربة من سبقه في رمي فواضل البناء في وادي صميدة وفي المناطق الغابية ففعل مثله دون خوف من العقاب أو الحساب، وهكذا تحولت كل المداخل الشمالية للمدينة إلى مصبات لفواضل الزفت والأسمنت المسلح. في الأثناء، يخرج الآلاف من سكان المدينة ليلا نحو المدخل الشمالي بحثا عن النسمة الكافية التاريخية التي لا يملكون غيرها، يحذرون أن يتعثروا في بقايا الأشغال ويتأملون مدينتهم تحت جنح الظلام، وقليل منهم يتذكر أن ثورة قد حدثت هنا وأن شهداء قد قدموا أرواحهم لأجل غد أفضل.