اتّصل أحد المواطنين التونسيّين بقناة «الرأي» التي صارت منبرا للنظام اللّيبي بعد سقوط آخر قلاعه الإعلاميّة الجماهيريّة ليرعد ويزبد ويتّهم التخاذل العربيّ والإسلاميّ في نصرة «ليبيا الصمود» أمام «الغزو الصليبيّ الأطلسيّ»، وليهيب بالشباب التونسيّ الثائر للزحف على طرابلس لتحريرها من دنس العمالة والخيانة أو ممّن سمّاهم «ثوّار الناتو». المتّصل المحلّل – ولعلّه أن يكون محلّلا بالمعنى السياسيّ والفقهي أيضا ! – لم ينس في غمرة الغضبة المُضريّة أن يختتم خطبته العصماء باللّازمة المشهورة: «طز» في الناتو ! والحقّ أنّ هذه المداخلة الحماسيّة على قناة العراقي مشعان الجبوري التي تبثّ من دمشق قد حرّكت فيّ أشجانا قديمة حين كنت أُدْمِن خُطب الأخ العقيد، وأجد فيها، إلى جانب الإحساس بالنخوة العربيّة، فسحة من الانبساط والهزل المركّز يعزّ نظيره لدى غيره من حكّام العِيّ والحُبسة والفأفأة والتأتأة واللّجلجة واللّعثمة ! على أنّ إفاقتي النهائيّة من حبوب الهلوسة العاطفيّة تلك حصلت مع السقوط المريع لبغداد يوم التاسع من أفريل 2003. يومها عرفت أنّ جريرة «طز» وإخوتها علينا لا تعدلها جريرة، وأنّ السياسة العصابيّة التي ازدهر سوقها لدى النظم الثوريّة لم تكن تغتذي إلاّ على محض ظواهر صوتيّة. فعند أوّل امتحان حقيقيّ، ناداه شعبُه أنْ تعال نقلْها «طز» واحدة في وجه الاستبداد والفساد، لنفتح صفحة تليق بالشعوب الكريمة الحيّة، فبانت العورات، وانكشفت السوءات. وإذا «طز» كلمة السرّ يدّخرها لشعبه دون العالمين. وإذن، فقد راح العقيد يقتل شعبه بما أتيح له من سلاح ثقيل، وإذا كتائبه تستكثر على الأسرى حتّى ميتة سريعة، فتتخلّص منهم خنقا أو تحريقا. إنّي أتّهم الظاهرة الصوتيّة «طز» بالضلوع في ما يجري على العباد والبلاد، ولعلّها أن تتحكّم لزمن ليس بقريب في مصير المنطقة ككلّ. وكان الزعيم بورقيبة في خطاب البالمريوم الشهير قد أدرك العقيد على عجل حين كان بصدد « الطزّ»، ليلقّنه درسا قاسيا عن وجاهة «الطز» في هذا الزمن، وعن شروطه الفنّية والجيوسياسيّة عامّة. ولكنّه لم يع الدرس، وهذه العواقب العاجلة تظهر للعيان: ها هو العقيد وأبناؤه وقيادته قد تفرّقوا شذر مذر مطاردين في الداخل والخارج، وها هي أعداد الضحايا والشهداء والجرحى والمنكوبين في ازدياد مريع، وها هي البلاد مفتوحة على احتمالات كارثيّة ليس أقلّها تمكين الأجنبيّ من مقدّرات الشعب اللّيبيّ، وتحويل البلاد إلى سوق عالميّة للنهب تحت مسمّى إعادة الإعمار. «طز» هذه التي أزعم أنّها أمّ المصائب في شرق المتوسّط كنت أحسب أنّها كلمة بذيئة يمنعنا الحياء من إلقائها حيث كان وفي كلّ مقام، وأنّ استعمالها العموميّ مقصور على الثوريّين من أضراب العقيد وإخوته ومريديه ، حتّى هرعت، كالعادة، إلى البحث والتنقير ! لقد فاتني، وفات غيري أنّ ّطز» هذه ما كان ينبغي لها أن تغيب عن كلام مثلما ما كان لملحٍ أن يغيب عن طعام. والسبب، ببساطة، لأنّها هي هو وهو هي! نعم. «طز» كلمة تركيّة تعني الملح. ويعود استعمالها إلى زمن كان فيه النفوذ للأتراك العثمانيّين، وكان يقوم على بوّابات التفتيش بين المناطق عساكر الترك الذين يفرضون على بضائع التجّار العرب ضرائب أدناها الضريبة على الملح. وصار بعض الماكرين من التجّار يعمدون إلى إخفاء بضاعتهم المختلفة تحت طبقة من الملح ليذهب في ظنّ الجُباة أنّها ملح فلا يستخلصون عنها إلا مبلغا زهيدا. واختفت أكياس القمح والفول والسمسم والحمص تحت أكياس الملح، وحين يسأل العسكريّ: ما في الكيس؟ لا يتأخّر التاجر عن الجواب بأنّه ملح. حينها، يلتفت العسكريّ إلى مرافقه صارخا في وجهه: سجّل طز ! ثمّ، اختصر التجّار الماكرون الطريق فصار الواحد منهم يسارع عند سؤال العسكري عن نوع الحمولة قائلا: طز ! وذهبت الكلمة في السياق العربيّ مذهبا ساخرا للدلالة على عدم الاكتراث بالأمر، أو الاستهانة بالشيء. ولئن اقتصر الأتراك، إلى اليوم، على استعمال «طز» وينطقونها «طنز» في معناها الاصطلاحيّ بمعنى الملح، فإنّ بعض العرب وجّهوها إلى السخرية دوما، وإن كاد العقيد يختصّ بها، ثمّ يورّثها مريديه، فلا يخلو لهم حديث حماسيّ أو خطبة عصماء من «طز» مثنى وثلاثَ ورُباعَ ! ولكنّ الذي «خلّف لم يمت»، كما يقال، فقد ترك العقيد ذرّية صالحة من آل «طز» انكفأت للمنافحة عن النُّظُم التي تتهدّدها الثورات باعتبارها «صناعة وطنية»، و بحجّة أنّ الغرب هو من يريد اقتلاعها، وبأنّه لا يأتي من الغرب ما يفرح القلب ! أفتح التلفزيون على مشاهد التقتيل الهمجيّ للشعوب الواقعة جنوب الحداثة، وعلى ضياع أوطان جديدة من بين أيدينا، وعلى دمار وعدوان طالا الإنسان والبنيان. أفتح التلفزيون لتتناهى إلى مسامعي «طز» من هنا أو من هناك، وأعرف للتوّ أنّ زمننا راكد جدّا، وأنّنا لن نتغيّر في المدى المنظور مادمنا لم نخرج بعد من حضارة «طز». «طز» !