هو من أبرز رموز اليسار التونسي في الوقت الحاضر، مواقفه كثيرا ما وجّهت الرأي العام وحتّى الأطراف السياسية بدءا بحل التجمّع والمناداة بحل البوليس السياسي. كيف يرى شكري بلعيد خارطة المشهد السياسي اليوم وغدا بعد الانتخابات. كيف ترون حاضر الخارطة السياسيّة التونسيّة والبلاد على أبواب السباق الانتخابي نحو المجلس الوطني التأسيسي؟ في اعتقادي يتميز المشهد السياسي الآن بظاهرتين ، الأولى حالة الإغراق الكمي بما يجعل الساحة غامضة مرتبكة وحالة الإغراق التي خلقها المال السياسي بتدخله المباشر في محاولة رسم المشهد السياسي من جديد، هذا الإغراق سنجده منعكسا في محاولة خلق استقطابات وتجاذبات غير حقيقية وغير جدية من ذلك الاستعاضة عن لب ما هو مطروح على تونسالجديدة أي الإجابة عن أي تونس نريد؟ وما هي المقومات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وموقع تونس في محيطها الاقتصادي والدولي ونوعية العلاقات التي يجب أن تقوم مع شركائنا القطريين والدوليين؟ وما هي خيارات الدول في المرحلة القادمة؟ فعوض الحديث في هذه القضايا وقع الانحراف بها لتنصب على مسائل هامشية أخرى صراع هوية وحداثة أو تدين وعلمانية وآخرها بدعة الاستفتاء. أمّا ثاني مميزات المشهد السياسي حاليا فهي تتمثل في كون حالة الارباك العامة السياسية تقاطعت مع ارتباك أمني خطير وإرباك اقتصادي استهدف قوت المواطنين حيث نلاحظ هشاشة في الوضع السياسي وضعف أداء الحكومة المؤقتة وغياب لأولويات سياسية للمرحلة الانتقالية صاحبها تعدّد مراكز القرار السياسي والإداري والأمني وعودة للمحتكرين للسوق والعبث بقوت الشعب ، إذن نحن إزاء وضع هش في عمومه يكتسي خطورة كلما اقتربنا من محطة 23 أكتوبر. ولكن جاءت مبادرة عياض بن عاشور وأنتم طرف فيها..هل هو أفق للخروج من تلك الوضعيّة؟ في مقاومة حالة الإرباك وسعيا لبناء أدوات لإدارة المرحلة الانتقالية كانت مبادرة بن عاشور أحد الآليات السياسية نتج عنها توافق أولي بين 12 حزبا وستكون مفتوحة لأغلب الأحزاب وذلك لتجنيب البلاد الاستقطابات والتجاذبات الضارة من ناحية وثانيا إدارة المرحلة الانتقالية حتى تتمكن تونس من الخروج يوم 23 أكتوبر من اللاشرعية إلى الشرعية، هذه المبادرة تشكل علامة إيجابية مضيئة تساهم في الخروج من الوضع الهش الذي تمر به البلاد. ألا توجد لديكم مخاوف من الانقلاب على هذا الاتفاق بعد الانتخابات؟ هذا الافتراض يظل قائما إذ لا وجود لآلية إلزام، لكن تونس بأحزابها ونقاباتها قادرة على ردع كل من يحاول الانقلاب على الإرادة العامة والرأي الأغلبي، لا مصلحة لأي طرف في الانقلاب على مثل هذا الاتفاق. بعض الأوساط لا تخفي قلقها من احتمال صعود أغلبيّة من حركة النهضة وحلفائها من الأحزاب والمستقلين تُهيمن على أعمال وتوجهات المجلس الوطني التأسيسي؟ أولا لا نرى إمكانية لأن تحوز النهضة أغلبية مطلقة، ثانيا لا يمكن تغيير قواعد اللعبة ونحن نلعب إذا اتفقنا على شيء فلا بدّ من القبول بنتائج الصندوق كيفما كان ، وفي تقديري فإنّ مثل هذا الحديث هو فزاعة وعملية تخويف، البعض يريد منا أن نقبل بسيناريو الجزائر في التسعينات بدعوى قطع الطريق أمام حركة النهضة والغريب أن هذه الأطراف كانت حليفة لحركة النهضة وتقرّبت لها وعملت معها بل البعض منها كان وسيطا بينهم والإدارة الأمريكية وبينهم وبين النظام السابق، وفجأة تحوّل إلى مناهض للنهضة. لديكم ثقة واطمئنان إذن لنجاح المسار الانتقالي وتكريس حياة ديمقراطيّة تعدديّة حقيقيّة في تونس؟ كلي ثقة ولا أرى أنّ شعبا أكثر جدارة من الشعب التونسي للعيش في حياة ديمقراطية ، نحن شعب متجانس ثقافيا ودينيا ونسبة التمدرس عالية ونسبة التمدن عالية ولم نعرف في تاريخنا حروب تصفية ولا مشاهد دم كما عند غيرنا ولنا ثقافة متوازنة عقليا ونخبة نشطة وموروث إصلاحي تنويري كبير وشباب تائق للحرية، إذن من الذي يمنع أن تكون تونس جمهورية ديمقراطية اجتماعية حقيقة. هناك من يعبر من وجود قوى الردة والارتداد على الثورة ويتخوّف من قدرتها على الفعل والتأثير في ذلك المسار؟ نعم، هناك قوى مضادة للثورة حقيقة فاعلة ومؤثرة متغلغلة في الأجهزة الأمنية وفي مفاصل الإدارة وفي مفاصل الإعلام وفي مفاصل القضاء ولها وفرة في المال السياسي ومتشكلة في عشرات الأحزاب كل هذه القوى تستهدف الثورة وتسعى للالتفاف على المسار الثوري وتعمل على الانقضاض عليه وهي القوى التي فجّرت الانفلات الأمني في العديد من الجهات تحت مسميات عدّة بل كلّما قطع شعبنا خطوة جديدة نحو الانتخابات إلاّ وفجّر هؤلاء الوضع والآن يحاولون تجويع الشعب في الترفيع في الأسعار واحتكار البضائع والسيطرة على الأسواق وهي القوى التي وجب مواجهتاها وعدم نسيانها. كيف ترون المشهد والحياة السياسية بعد التأسيسي؟ بعد التأسيسي نرى أنّ المرحلة تظل مرحلة انتقالية وعليه فإنّها تتطلب وفاقا سياسيا جديدا لإدارتها ولحماية المسار الديمقراطي الفتي لذلك كنا قد نادينا وننادي بضرورة أن ينعكس هذا على الحكومة القادمة بما يجعلها: حكومة توافق وطني نرى أنّ المناصب السياسيّة فيها رئيسها ووزارات السيادة وجب أن تكون في أيادي شخصيات مستقلة غير حزبية نرى أنّ هذه الحكومة وجب أن تعطى فيها حقائب الاختصاص لأهل الخبرة والاختصاص ثم في ما يتعلّق بالأحزاب السياسية التي ستشارك في الحكومة نرى أنّ من مصلحة البلد أن يكون ممثلوها من إطارات وكوادر الصف الثاني من تلك الأحزاب حتى تستطيع هذه الحكومة أن تكون فعالة منسجمة توافقية وتعكس الإرادة الشعبية المجسمة في المجلس التأسيسي، ذلك أنّ المجلس التأسيسي هو استحقاق دستوري لبناء نظام سياسي جديد يقطع مع النظام السياسي. ما هو تصوّركم للخارطة السياسيّة والحزبيّة والتحالفات مستقبلا؟ إيجابية القانون الانتخابي للمجلس الوطني التأسيسي أنّه سيُظهره حقيقة الخارطة السياسية وأوزان الأحزاب وهو ما سيُساهم في بناء التحالفات السياسية في مرحلة لاحقة ، وفي نظري فإنّ التحالفات لن تكون إيديولوجية بل ستكون على قاعدة مهام سياسية محدّدة لذلك ستسهل العملية بعد الانتخابات وستفرز الخارطة وضعية موزعة بين مجموعة قوى على قاعدة برامج ، شخصيا أرى أنّه ما بعد المجلس التأسيسي سنجد تحالفا سياسيا بين النهضة وبين القوى التقليدية المحافظة وتحالفا وسطيا ليبراليا وسنجد تحالفا يساريا ديمقراطيا عروبيا، وسيوجد على أطراف هذه التحالفات بعض التكتلات الصغيرة في اليمين واليسار. تتحدّثون عن تيار ديمقراطي عروبي عوضا عن «التيار اليساري»؟ نحن جزء من التحالف اليساري الديمقراطي العروبي ، وأساس هذا التحالف هو الالتقاء حول محاور كبرى ثلاثة: 1 تناقض هذه القوى مع خيارات الهيمنة الامبريالية على القرار السياسي الوطني وما يترتّب على ذلك من تأصيل تونس في فضائها القومي الذي أثبتت الثورات العربية عمقه موضوعيا. 2 التقاءها على البند الديمقراطي أي منظومة الحقوق والحريات المدنية والسياسية الفردية والعامة والتي شكّلت العهود الدولية حدا أدنى لها. 3 البعد الاجتماعي أي مجموع الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية للشعب الكادح صاحب المصلحة الحقيقة في الثورة والذي لعب دورا رئيسيا في الإطاحة بالنظام البائد . على قاعدة هذه الثالث ستتشكل التحالفات، واليسار الديمقراطي العروبي بما هو حامل لمشروع الحرية والتقدم للشعب التونسي وهو تيار عريض يتجاوز مكوناته الحزبية ليشمل عمقه العمالي النقابي وعمقه الحقوقي وعمقه الشبابي ولعل في الوقوف أمام الفضاء الثقافي العام أمام المبدعين الذين انخرطوا في الثورة والأكاديميين الذين انحازوا لها لوجدنا غلبة لهذا التيار داخل هذا العمق الأساسي من النخبة. أنتم تتحدثون عن جبهة موسعة (يسارية ديمقراطية عروبيّة).. ولكن أنتم عجزتم عن إيجاد نقاط إلقاء مع أطراف من العائلة الوطنية الديمقراطية واليسار عموما؟ أوّلا ما طرحته يتعلق بالمستقبل ثانيا نحن نسعى لتحقيق ذلك على قاعدة تحديد برنامج القواسم المشتركة ثالثا لا بدّ من التفريق بين التحالف السياسي والتحالف الانتخابي فالتحالف السياسي قائم ونعمل على تفعيله مع كل الفصائل السياسيّة من اليسار وكل القوى الديمقراطية والتقدمية لكن التحالف الانتخابي مربوط بالقانون الانتخابي الذي لا يشجّع على بناء تحالفات واسعة ويرتبط أيضا بقابلية الأطراف السياسية لوضع معايير موضوعية في اختيار قوائمها وحركة الحركة الوطنية الديمقراطيّة كانت واضحة في هذا الجانب حيث فوضنا الأمر للجهات أي أنّ كل جهة بمناضلينا ومناضلاتنا هم الأقدر على اختيار تحالفاتهم الانتخابية طبقا لما يرونه من أولويات في حين أنّ بعض القوى الصديقة كانت ترى خلاف ذلك وأرادت أن تحسم الأمور في العاصمة بحيث يتم تقاسم المواقع بين الأحزاب ، إذن كانت رغبتنا واضحة في أن يتم تجميع كل مناضلينا متحزبين ومستقلين وهم من يتولون تحديد واختيار القائمة وللأسف لم نجد استجابة لهذا المقترح مما دعانا للدخول في الانتخابات في أغلب الدوائر بقوائم الحركة. تقولون بأنّكم تؤمنون ب«على قاعدة المهمة نلتقي ونتحالف»...بمعنى أنّه يمكن أن تتلقى حركتم مع أحزاب ليبرالية؟ يمكن الالتقاء مع بعض القوى الليبرالية حول مسائل تتعلق بالقضايا السياسيّة والحريات وملف حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب وحرية التعبير وحرية المرأة ، هذه ملفات يمكن أن نلتقي معهم فيها ولكن نختلف معهم في القضية الأم أي القضية الوطنية وفي المسألة الاجتماعية الاقتصادية. ...بمعنى آخر يمكن أن تلتقوا مع حركة النهضة كذلك؟ هنا لا بدّ من التفريق بين التحالف وهذا لا يمكن أن يتمّ بيننا والنهضة لتناقض في المشروع المجتمعي لكلينا أساسه تناقض في الرؤية وطنيا وطبقيا أمّا عدا إن كنت تقصد بإمكانية الالتقاء حول مهمّة مباشرة مثل اتفاقنا على أن تكون مدة المجلس التأسيسي سنة فقط فهذا ممكن لأنّ الأساس في ذلك هو كما قلت سابقا على قاعدة المهمة نلتقي. هناك كلام كثير حول واقع اليسار التونسي وأنّ التشتت الواقع سببه حرب زعامة غير معلنة بين أبرز رموزه؟ هذه مغالطة، ذلك أنّ كل العائلات الفكرية الكبرى تعيش تعدّدا وانقساما كبيرين فساحة القوى المتسترة بالدين تعرف تعددا لا متناهيا وصل حد التكفير وإباحة الدم ونفس الشيء في الساحة الليبرالية والساحة القومية إذن ما تعيشه الساحة اليسارية لا تختلف فيه عن غيرها من الساحات والعائلات ، ثم إنّ الأصل في وجود الحركة والأصل فيها التعدد والتنوع والصراع لذلك فإنّ التعدّد داخل اليسار هو تعدد أصلي بل أجزم أنّ تشرذمه أقل من بقية التيارات. أما في ما يتعلق بالزعامة فأظن أنّ هذا التوصيفات مدسوسة وغريبة وفيها احتقار واستنقاص للآلاف من الكوادر اليسارية المتميزة التي نجدها في مختلف الحقول ولا نظنها تقبل بانقسامات وفق رغبة زيد أو عمر. من هو شكري بلعيد؟ شكري بلعيد المنسق العام والناطق الرسمي لحركة الوطنيين الديمقراطيين أب لبنتين نيروز وندى درس الحقوق في تونس وبابل (العراق) وفي باريس اشتغل بالمحاماة منذ سنة 2004 كان من أبرز المدافعين في قضايا الرأي والحريات لشتى العائلات الفكرية من أقصى اليسار حتى السلفية الجهادية وكذلك قضية الحوض المنجمي ونقابة الصحافيين ورابطة حقوق الإنسان.