في عالم السياسة وميدان تحليل الخطاب السياسي، يتحول مكان إلقاء التصريح إلى رسالة سياسية استراتيجية يتعين على المتلقي تلقفها وتفكيكها وتنزيلها في سياقها الصحيح. بالأمس فقط، اختار رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي من بين دول «الربيع العربي» التي زارها وألقى بها خطابات حماسية، ليبيا حتى يصعّد لهجته السياسية حيال دمشق وليتوعد قادتها بالزوال والسقوط النهائي. المحطة الليبية كانت على مستوى الخطاب السياسي إزاء سوريا مفصلية، بحيث أنها حوّلته من سياق التلميح إلى التصريح ومن إطار الأمل بتجاوز الأزمة من خلال الحوار إلى الاعتبار بأن النظام السوري سبب المعضلة التي تتخبط بها البلاد اليوم، والأهم من هذا أنها أي المحطة الليبية كانت حسما نهائيا لأنقرة للعلاقة مع دمشق والوقوف إلى جانب المعارضة والحراك الداخلي السوري المطالب بإسقاط النظام. بيد أن الدلالة الأخطر لخطاب أردوغان في «ميدان الشهداء» بالعاصمة طرابلس حول النظام السوري لا تقف عند المعاني المذكورة بل تتجاوزها لتبلغ إمكانية – حتى لا نقول حتمية – استحضار المشهد الليبي في سوريا واستشراف السيناريو الليبي بكافة ملابساته وحيثياته على الأرض السورية... ذلك أن اقتصار الحديث عن مأساة نهاية الظالم ومآسي المظلوم في سوريا وتجاهل باقي المآسي في العديد من أقطار الخليج والشرق الأوسط وحتى البلدان الأوروبية، يكشف من جملة ما يكشف عنه أن الخطاب تمهيد إعلامي وسياسي ل«سيناريو» باتت قطاعات كبيرة من الشعوب العربية – بفعل الإعلام شبه الدعائي والدعائي شبه الإخباري – تقبله طالما أنه يدر عليها أنهار من الحريات الشخصية والجماعية... وسواقي من حقوق الإنسان. . ولتذهب الأوطان ومعها الأمن القومي العربي وكرامة الأمة العربية إلى الجحيم. والحقيقة، أن قراءة دقيقة لما بين سطور تصريحات الأتراك تميط اللثام عن دفع تركي واضح نحو استنساخ السيناريو الليبي في سوريا. . انطلاقا من تأكيد أردوغان بأن الحملة الأمنية في «حماة» تعيد إلى الذاكرة «مجزرة» حماة في عام 1982 . . عبورا بإشارته إلى أن انقرة لا يمكنها أن تبقى مكتوفة اليد أمام انتهاك حقوق الإنسان في سوريا. . وصولا إلى تلميح الرئيس التركي عبد الله غول بأن السيناريو الليبي قابل للتحقيق في سوريا. والحقيقة الأخرى، أن خطاب أردوغان من طرابلس جزء من فسيفساء دولية كاملة لا بد من تجميع قطعها لفهم المسعى الدولي حيال دمشق. . حيث أنه – أي الخطاب – تزامن مع تصريح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بضرورة إيجاد تحرك دولي ضد النظام السوري وتوافق مع إعلان أسماء أعضاء المجلس السوري الانتقالي الذي كانت اجتماعات اسطنبول والدوحة عصب تشكيله. . وتقاطع مع لقاء أمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي بأعضاء من المعارضة السورية في القاهرة ومناقشتهم ل«سوريا ما بعد الأسد». . كما استبق – وهذا هو الأهم – اجتماع العربي برئيس الولاياتالمتحدة باراك أوباما على هامش الدورة الجديدة لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي تشير معظم وسائل الإعلام إلى أنه سيتطرق إلى فرضيات فرض حظر جوي على سوريا. والحقيقة الثالثة، أن الكثير من التقارير الاستخباراتية والإعلامية المطلعة تحدثت عن «بنغازي» جديدة في سوريا وعن وجود مجموعات من المسلحين المدربين تسعى إلى النسج على منوال «العسكري الانتقالي» لا سيما وأن عددا من المعارضين السوريين ذاتهم أقروا بوجود أطراف لبنانية عبرت عن استعدادها ل«عسكرة» الانتفاضة السورية ولدعم المنشقين عن الجيش السوري. . مما يشير إلى أن تفاصيل المشهد الليبي كانت حاضرة في دوائر اتخاذ القرار في أنقرة. والحقيقة الرابعة، أن المعارضة السورية والمنتفضين لا يملكون القدرة على الحسم السياسي – كما أن النظام لا يستطيع الحسم العسكري – في سوريا مما يستلزم دعما خارجيا لأحد الطرفين لإنهاء الأزمة. . وفيما يبدو أن المشهد متجه إلى مساندة دولية من قبيل القرار 1970 و1973... وليس متجها الى الدفع ب«قوات درع الجزيرة». والحقيقة الخامسة، أن تركيا التي دخلت الشرق الأوسط من البوابة السورية وجالت في الملفات العربية وأثرت بها (حصار غزة، المصالحة الفلسطينية، لبنان، العراق...) تدرك أيما إدراك أن بقاءها على خط التأثير في هذه الملفات رهين بإسقاط دمشق من المعادلة وأنه في حال ما تجاوز النظام السوري هذه المحنة فإنه سيعيد أنقرة إلى وضعها السياسي والاستراتيجي ما قبل 2006. والحقيقة السادسة والأخيرة، أن الولاياتالمتحدة التي تنتهي مدة بقاء قواتها في العراق نهاية العام الجاري، لن تستطيع أن تمدد مدة وجود قواتها في العراق دون موافقة سورية وإيرانية مشروطة وبالتالي فهي تبحث عن إزاحة عنصر من عناصر الرفض لوجودها في مقابل المقايضة الطرف الإيراني... كنا نتمنى، أن تحافظ تركيا على دور المراقب النزيه الذي بامكانه التدخل الفاعل لدى كافة اطراف الازمة وتوجيهها نحو مكامن الحل والانفراج ولكن يبدو انها أبت إلا أن تكون جزءا من المشكلة والمعضلة, ويبدو ايضا انها شرعت في تقسيم كعكة ما بعد الاسد قبل سقوطه... ومن يدري فقد ينقلب الاسد على المتداعين عليه ويقلب عليهم الطاولة وما اغتيال الحريري والمحكمة الدولية منا ببعيد...